قضايا وآراء

"الكرامة" في مواجهة الظلم والاستبداد

محمد الأحمدي
1300x600
1300x600

منذ أكثر من خمس سنوات لم تفتأ عواصم "الثورات المضادة" في المنطقة العربية تتبنى حملات التشهير والتحريض ضد منظمة "الكرامة"، المؤسسة التي اختارت جبر قلوب ضحايا الظلم والقمع والانتهاكات، والإصغاء لأنينهم، والوقوف إلى جانبهم وإيصال أصواتهم، فلماذا كلّ هذا العداء والاستهداف؟!

 

استهداف غير مبرّر

ذهب أعضاء "الكرامة" الميدانيون إلى أكثر الأماكن خطورة، وسهر فريقها القانوني والإعلامي على متابعة القضايا ومقاربتها قانونيا، وساهمت المنظمة في إجلاء صورة الواقع القاتم لحالة حقوق الإنسان في العالم العربي، مستخدمة آليات القانون الدولي.

لا يكاد يمرّ أسبوع من دون منشورات في وسائل إعلام إماراتية وسعودية ومواقع الصحافة الإلكترونية الصفراء التي أنشأتهما الدولتان خصيصا للحرب على طموحات الشعوب العربية في التحوّل السياسي، تشنّ من خلالها حملات تشويه واسعة ضد كلّ ما يتعلق بالحقوق والحريات ومطالب التغيير والمشاركة السياسية.

 

ماذا لو سخّرت أبو ظبي والرياض إمكانياتهما المالية الضخمة في صناعة التحوّل السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتعزيز الحقوق والحريات والحكم الرشيد بدلًا من الحرب على الأصوات الحقوقية؟!


استثمرت الإمارات تحديدًا على نحو رخيص قرار الخزانة الأمريكية بحق أحد مؤسسي "الكرامة" لتشويه نضالات المنظمة في مواجهة الظلم والقمع والاستبداد في المنطقة العربية، رغم عدم عدالة قرار الخزانة.

ماذا لو سخّرت أبو ظبي والرياض إمكانياتهما المالية الضخمة في صناعة التحوّل السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتعزيز الحقوق والحريات والحكم الرشيد بدلًا من الحرب على الأصوات الحقوقية؟!

لن نذهب بعيدًا، ماذا لو كانت دولتا محور الثورات المضادة فقط قدّمت انتقادات موضوعية "للكرامة" لتقصيرها في أداء رسالتها في مناصرة المظلومين كما يجب، ولم تذهبا لمحاولات تجريم حتى النشاط الحقوقي أساسًا الذي سهرت لأجله "الكرامة"؟!، كان بالإمكان تفهّم دوافع هذه الحملات وحرص هذه الحكومات على تعزيز واحترام حقوق الإنسان.

 

رمزية للعمل الحقوقي العربي

الحقيقة أنّ "الكرامة" وهي تخوض نضالاً ضد الظلم والقمع والاستبداد مثّلت رمزية فريدة للعمل الحقوقي العربي المحترف وسط حالة غير مسبوقة من التواطؤ الدولي مع الظلم والنفاق مع الاستبداد والارتداد عن قيم الحرية.

لقد حملت "الكرامة" على عاتقها مناهضة الظلم، واختار أعضاؤها من الشباب العربي التوّاق للتغيير السلمي الاصطفاف في الجانب الصحيح من التاريخ، فكان جزاؤها التشويه وحملات التضليل. وحين شبّت الشعوب العربية عن طوق المستبدّين اختارت "الكرامة" أن تكون إلى جانب الشعوب ومطالبها العادلة.

ثمة سؤال يدور بخلدي منذ سنوات: منظمة ناشئة انتزعت لنفسها مكانة مرموقة في مصاف المنظمات الدولية الكبيرة، هل كان لهذا النجاح أيضًا دور في إثارة حسد تيار نادي المنظمات المسكونة بوهم التفوّق الغربي التي ترى أنّ مضمار الحقوق والحريات يجب أن يظل حكرًا على المجتمعات الغربية، تمامًا كما يرى الكثيرون أنّ الغرب هو الأب الشرعي للحريات، والوصيّ عليها فيؤتيها من يشاء ويمنعها عمّن يشاء، وهو من يقول الآن بلسان الحال: إنّ الديمقراطية لا تصلح حاليًا للشعوب العربية؟!

لديّ أصدقاء رائعون وفاعلون في الإعلام الغربي والمنظمات الحقوقية الدولية، حقّقنا سويًا إنجازات خلاقة، لكن الحديث هنا عن صنّاع القرار وراسمي السياسات المتحكّمين في العمل الحقوقي والإعلامي الغربي.

في السنوات الأخيرة التي سبقت انقلاب الحوثيين في اليمن، لا يكاد يخلو شهر من لقاءات مع وفود إعلامية وحقوقية من الأمريكيتين وأوروبا، تشاطرنا معهم المعلومات وسافرنا سويًا إلى مناطق يمنية نائية في مهام عمل محفوفة بالمخاطر، التقينا عائلات ضحايا الإعدامات خارج نطاق القانون بالدرونز الأمريكية وجماعات العنف، وكتبنا سويًا قصصًا في غاية الأهمية، لكن كلّ هذا توقّف بسبب استيلاء جماعة عنف على السلطة ودخول البلد في نفق الحرب، والخاسر الأكبر بطبيعة الحال هم الضحايا.

ظلّت "الكرامة" مصدرًا موثوقًا، قدّمت لوسائل الإعلام والمنظمات الدولية المعلومات والصور والوثائق وحتى أجزاءً من صواريخ هلفاير الأمريكية جمعها فريق الكرامة خلال تحقيقاته الاستقصائية، وهي صواريخ قتلت المدنيين في قرى نائية بات سكانها يعرفون القنابل الذكية الأمريكية ويميّزون أزيز الطائرات المسيّرة قبل أن يعرفوا شيئًا عن أفران صناعة الخبز المنزلي.

 

رداء لحالة التوحش العالمي


يبدو لي أحيانًا أنّ قوانين حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية التي لطالما دبّجت بها بيانات المنظمات ليست سوى رداءٍ شفافٍ ومهترئٍ لحالة التوحّش العالمي وطغيان لغة المصالح على المبادئ.

ثمّة إشكالية عميقة في قدرة المؤسسات الدولية على تحقيق العدالة في إنفاذ القانون، ففي الوقت الذي يتحوّل فيه مثلًا توني بلير إلى مستشار مرموق للعديد من الحكومات رغم إقراره بالكذب في حرب العراق التي ذهب ضحيتها الملايين من البشر شهدنا قبل أيّام قليلة فقط، محاكمة مواطن بريطاني، بتهمة تمويل الإرهاب لأنه أرسل قرابة 200 جنيه استرليني إلى ابنه المحتجز في سوريا بتهمة القتال في صفوف جماعات متشدّدة.

 

مطالب الإصلاحات والمشاركة السياسية في المنطقة العربية ليست جريمة ولا عيبًا ولا تشكل تهديدًا للأمن ولا للدولة ولا تستحق الحروب والدمار.


نفس الحالة المزدوجة عندما يتعلّق الأمر بمواطن عربي يستخدم حقه في حرية الرأي والتعبير والتجمّع السلمي لمناهضة الاستبداد والقمع، سرعان ما يتحوّل هو الآخر إلى ضحية لغياب حقه في الحماية من التعسّف وإساءة استخدام السلطة والقانون.

ثمة إشكاليتان أساسيتان: الأولى أنّ العديد من أدوات النظام الدولي وهي تبدي حرصها على مناهضة القمع والظلم تنطلق من قناعتها بإصلاح الأنظمة العربية مع الإبقاء عليها، فيبدو الأمر كما لو أنه محاولة لترميم وجه هذه الأنظمة لا غير، بينما أثبت الواقع أنّ التغيير الجذري هو العلاج الناجع لمعضلة الاستبداد في المنطقة العربية، وهو ما عبّرت عنه الثورات السلمية العربية، فيما الإشكالية الأخرى تتمثّل في عقدة التفوّق الغربي التي تحدّث عنها العديد من الباحثين الغربيين، وتتجسّد واقعًا في ازدواجية الحكومات الغربية في التعاطي مع جماعات العنف، ففي الوقت الذي تُرسل أحدث الأسلحة لجماعات عنف مسلحة، تُحارب في الآن نفسه كيانات مدنية وأحزابًا سياسية ومنظمات معترف بها، لسبب وحيد هو أنّ جماعات العنف هذه تخدم مصالحها.

 

قيم الحضارة الغربية تتآكل

لم يعد لدى الشعوب العربية ما تخشى خسارته، وهي ماضية في طريق الكفاح من أجل الحرية والاستقلال، لكن الكارثة الحقيقية تكمن في خسارة الغرب قيم الحضارة الغربية المعاصرة التي تتآكل يومًا بعد يوم.

تسافر طائرة الدرون آلاف الكيلومترات لتصل إلى قرية نائية في اليمن لاغتيال شخص مشتبه بانتمائه لمجموعة إرهابية، لا تعرف هويته ولا الجرائم التي ارتكبها ولم يُخطر بالتهمة ولم يمثُل أمام قاض ولم تصدر بحقه أيّ نشرات أمنية كمطلوب، ويُقتل إلى جانبه عشرات المدنيين، بينهم أطفال ونساء، ويحتفل القادة العسكريون الأمريكيون بالهجوم باعتباره انتصارًا عظيمًا، بينما يبادر الرئيس الأمريكي دونالد ترمب للعفو على ضابط القوات الخاصة في البحرية الأمريكية إدوارد غالاغر، فقط على سبيل المثال، رغم شهادات زملائه بارتكاب جرائم فظيعة في العراق وأفغانستان ضحاياها مدنيون، بينهم رجل كبير في السن وفتاة، وإحدى الشهادات تحدثّت عن قتله طعنًا بالخنجر صبيًا عثر عليه جريحًا يشتبه بأنه قاتل في صفوف داعش. وتذهب هيئة المحلفين أيضًا إلى تبرئة الضابط غالاغر.

إنّ مطالب الإصلاحات والمشاركة السياسية في المنطقة العربية ليست جريمة ولا عيبًا ولا تشكل تهديدًا للأمن ولا للدولة ولا تستحق الحروب والدمار.

رغم كلّ المضايقات التي تتعرّض لها الكرامة وحملات التشويه والتحريض التي تطالها، فهي مستمرّة في عملها الدؤوب من أجل إسماع صوت من لا صوت لهم والدفاع عن كرامة الإنسان العربي وعن حقوقه الأساسية.

صحافي وناشط حقوقي

التعليقات (0)