مقالات مختارة

ترامب الكبير وترامب الصغير وأوروبا الحائرة بينهما

مثنى عبد الله
1300x600
1300x600

مثلما شكّل فوز الأمريكي دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة صداعا مزمنا لأوروبا، تستعد هذه الأخيرة لمواجهة نوبة صداع جديدة تأتيها هذه المرة من بين ظهرانيها. فقد كان وصول البريطاني بوريس جونسون لمنصب رئاسة الوزراء في المملكة المتحدة مؤخرا، خبرا سيئا جدا لأوروبا بصورة عامة ولمؤسسة الاتحاد الأوروبي بصورة خاصة.

 

فعلى الرغم من أن الرجل كان خارج السلطة الفعلية حين جرى الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في العام 2016، لكنه قاد حملة شعواء مليئة بالكذب والتزوير لشيطنة الاتحاد الأوروبي، كي يعكس الوعي الشعبي داخل المجتمع البريطاني ويجعله مهيأ للتصويت باتجاه الانفصال.


الاتحاد الأوروبي يتعرض إلى أصعب تحد، وهو والفكرة الأوروبية يواجهان ضغطا قد يؤدي إلى شرارة تفكك المتحدين فيه



واليوم وفي الوقت الذي يستعد فيه الطرفان لدخول جولة جديدة من الشد والجذب والمساومات لتحقيق مصالحهما من خلال عملية بريكست بصفقة أو من دونها، تتهيأ أوروبا ليس لخروج بريطانيا وحسب، بل لهذا الحدث المهم وهو وصول جونسون إلى سدة الحكم.

 

فهي ترى فيه وجها آخر لعملة اسمها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وصورة مستنسخة من منهجه في التفكير والحكم، الذي بدأ يغزو العالم، حيث لم يعد ترامب رئيسا للدولة الأعظم في العالم وحسب، بل بدا ملهما فكريا لنزعات شعبوية وتوجهات انفصالية وممارسات عنصرية، وجدت لها مواطئ قدم في أنحاء كثيرة من أوروبا.


فترامب وجونسون كلاهما يراهنان على الجانب العاطفي ويدغدغان المشاعر السلبية لدى العامة من الناس، كما تترسخ في شخصيتيهما خاصية التقلب المزاجي وإمكانية عالية للتنصل من الالتزامات، والتراجع غير الحذر عن المواقف وفقا للمصالح الشخصية والأهواء، والتوسل بالتهريج والكذب والصور الكاريكاتيرية لتحقيق السياسة، مع عدم الإيمان بالتوصل إلى حلول وسط في القضايا الخلافية، لأنهما لا يهتمان كثيرا بالتفاصيل، وإذا كان ترامب قد هاجم الإسلام مدعيا بأن الإسلام يكره الأمريكيين، فإن شبيهه في لندن قال بأن الاسلام أكبر حجر عثرة في طريق تقدم العالم الإسلامي، وإذا كان الأول قد دعم الصهيونية بكل الوسائل والإمكانيات، فإن الثاني يُصرح علنا بأنه صهيوني حتى النخاع.


وفي الوقت الذي ظهر فيه ترامب بتصريحات تخلو تماما من اللياقة الدبلوماسية، حينما جاهر بعدائه للاتحاد الأوروبي، وحرّض الرئيس الفرنسي ماكرون على مغادرة الاتحاد حين التقيا، ثم عرض على رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي مغادرة الاتحاد، من دون دفع المستحقات المالية الواجب دفعها لاوروبا.

 

كان منهج رئيس الوزراء البريطاني جونسون على الخط السياسي نفسه لترامب، فأفكاره المنشورة يشير فيها صراحة إلى استنباط غريب قد توصل إليه، وهو أن أوروبا تتوحد ضد المصالح البريطانية العليا، وأن الواجب يقتضي صنع سياسية بريطانية قائمة على أساس صد هذا الاتجاه الاوروبي، كما أنه يجاهر بأن القائمين على الاتحاد الاوروبي لديهم سياسة تروم تحويل الاتحاد إلى دولة على غرار الاتحاد السوفييتي القديم.

 

وأن هذا التوجه سوف يعني وجود مركز قرار سياسي واحد، يأخذ على عاتقه تحقيق سياسات الدول الاوروبية الداخلية والخارجية، كما كان النظام السوفييتي يسيطر سيطرة تامة على كل شؤون وقرارات ومقدرات الدول المنضوية تحت مظلته، وبذلك هو يقول إن على عاتق بريطانيا واجب منع سير أوروبا نحو هذا التوجه، من خلال تقوية العلاقة البريطانية الاوروبية، بما يمنع وصول هذا الاتجاه إلى مبتغاه، شرط أن تكون المملكة المتحدة خارج هذا الاطار المؤسساتي، لأن وجودها داخله يفرض عليها التزامات تكبّل وتحد من قدرتها على فعل ذلك.


يقينا أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يشكل خسارة كبرى لأوروبا، فمساهمتها في الناتج القومي العالمي في حدود 7.2%، كما أنها تحتل الموقع الخامس من حيث المساهمة بالتجارة العالمية، فهي ثاني اقتصاد في دول الاتحاد الاوروبي، وتشكل 17% من الاقتصاد الأوروبي، وهي من الدافعين لميزانية الاتحاد، حيث تأتي بعد المانيا بمساهمات تصل إلى 11 مليار يورو، لكن ميزة أوروبا عليها أن لديها عجزا تجاريا مع أوروبا، خاصة مع المانيا، وهذا العجز من الصعب على بريطانيا تعويضه، لأن المنافسة الألمانية أقوى، وكذلك الفرنسية والإيطالية، غير أن رئيس الوزراء الجديد بوريس جونسون يراهن على أن ترامب قد يوفر له حبل النجاة، من خلال توقيع اتفاقية تجارة حرة بين البلدين تجعله يحقق الوعود الطوباوية التي أطلقها في خطاب التنصيب، لذلك هو يسعى جاهدا لانتزاع السيادة التجارية بعد الخروج، فتتيح له الذهاب إلى ملهمه الفكري ترامب، لكن عنجهية الرجل تمنعه من التفكير في التحديات الاخرى التي تواجه بريطانيا، خاصة التحدي الجغرافي، فالعديد من الخبراء يحذرون اليوم من أن بوريس جونسون قد يكون آخر رئيس وزراء للمملكة المتحدة.


بمعنى أن حالة الاتحاد قد لا تبقى كما هي عليه اليوم، لأنه توجد مقاطعات ترفض توجه رئيس الوزراء الحالي، ويمكن أن تتجه إلى الانفصال عن التاج البريطاني. فهنالك، على سبيل المثال، علاقة اقتصادية قوية بين أسكتلندا والاتحاد الاوروبي يمكن أن تقود إلى تفكك بريطانيا.


إن الاتحاد الأوروبي اليوم يتعرض إلى أصعب تحد في تاريخه، وإنه والفكرة الأوروبية يواجهان ضغطا كبيرا قد يؤدي إلى شرارة تفكك المتحدين فيه، فالأفكار الشعبوية باتت بارزة اليوم في الساحة الاوروبية، والتفاوت بين دول شمال القارة وجنوبها، وتفاوت الدخل وزيادة نسبة الفقر، وفشل السياسة في التعامل مع المشاكل الاقتصادية والاجتماعية داخل أوروبا، أججت التظاهرات والاضرابات فيها. كما بات لبريق السلطوية المقبلة من روسيا وأمريكا المتزامنة مع الفكرة القومية، إغراء واضح على قطاعات واسعة من المجتمع الاوروبي، ما أدى إلى ظهور توجهات متناغمة في بعض الدول الاوروبية مثل بولندا والمجر.


إن تجربة الاتحاد الاوروبي تبين أن السياسات الوطنية دائما تُعطى الأولوية على حساب المصالح الاوروبية المشتركة، بينما هو قائم على تنازل كل دولة عن جزء من مصالحها لصالح أوروبا. كما بقي الاتحاد في إطار الوحدة النقدية ولم يصل إلى التعاون في كافة المجالات، كما كان مرسوما له.

 

كان الحديث يتم عن حكومة اقتصادية مع توحيد السياسات الاجتماعية والمالية، وإنشاء جيش موحد. كل هذا مازال على الطريق والنقاش فيه مستمر رغم مرور سنين على قيامه.


في أوروبا يقولون كانت بريطانيا حجر عثرة أمام توحيد الاتحاد الاوروبي، وكانت تصر على الحصول على امتيازات، بدون استعداد لتحمل الواجبات والأعباء، وقد يصح هذا القول عندما نرى أن رئيس الوزراء البريطاني الجديد بوريس جونسون يؤمن، بأنه لا بد من وجود سياسة بريطانية قائمة على منع قيام وحدة أوروبية، لانها ستكون ضد المصالح البريطانية كما يعتقد.

كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية

التعليقات (0)