كتاب عربي 21

إنها مصر يا عزيزي (مقالات كالفينو3)

جمال الجمل
1300x600
1300x600
(1)
سأحكي لكم عن مدينة غريبة لم يحك عنها ماركو بولو لإمبراطور التتار قبلاي خان، مدينة قديمة تقدس الحياة وتفيض بالحركة، لكن في وقت ما لا يعرفه أحد أصيبت بلعنة محيرة، حيث كان الأموات فيها يرفضون الموت، أو بمعنى أكثر دقة كانوا يرفضون الدفن، فامتلأت الشوارع بالجثث، بعضها كان محنطا وصامتاً في مكانه، وبعضها كان معلقاً على جدران المنازل والمحال، وبعضها كان يواصل عمله القديم، يقرر ويحدد، ويتكلم بصوت عالٍ ليسمعه الناس في أماكن متباعدة.. مرة يصدر الأوامر والتعليمات، ومرة يقدم النصائح والمواعظ، وأحيانا يلقي النكات، وفي كل الأحوال أصبح الموتى أوصياء على الأحياء، لا يزاحمونهم في الحياة وفقط، بل يصيغون أفكارهم وانحيازاتهم ويتسببون في خصومات ومعارك بين الجميع، ويسدون الطرق، ويمنعون المدينة (التي تحولت إلى قبر كبير) من التوسع ومن التنفس ومن الحياة بحرية.

(2)
فكرة رفض الأموات للدفن تبدو غريبة، لكن أوروبا استيقظت في نهايات العصور الوسطى على صيحة مفكر من عصر الأنوار يطالب بدفن الجثث، ويصرخ في الندوات والمقالات: "الأموات يحكمون الأحياء". كانت الصرخة ضد تقاليد الحكم الكنسي والآباء المسيطرين والفكر العقيم الموروث من عصور الإقطاع التي يتسيدها أمراء محنطون يسلبون الناس حياتهم.

والفكرة نفسها (فكرة رفض الموتى للدفن) كتب عنها الأمريكي اروين شو مسرحية شهيرة من فصل واحد بعنوان "ادفنوا الموتى"، وهي مسرحية ضد الحرب؛ عن ستة جنود يرفضون الدفن احتجاجا على قتلهم في حرب بلا نفع للبشرية، وهي الفكرة التي تناولها من قبل الكاتب النمساوي هانز شلومبيرج في مسرحيته "معجزة في فردوم". ولعل الفكرة أقدم من ذلك بكثير، بل لعلها ترتبط ببداية الحياة البشرية على الأرض، عندما تأخر دفن هابيل، لكي تكون الجثة "درساً مجسداً" لتعليم قابيل بعض الأشياء وبعض المعاني، ربما مراجعة النفس، وربما الندم، لكن الدرس المؤكد هو "تعلم الدفن"، وهو درس عظيم، ولكي تدرك عظمته تخيل معي أننا لم نكتشف طريقة لدفن الأموات منذ هابيل وحتى الآن! هل كانت الحياة قابلة للاستمرار؟

(3)
لا تتحجر ولا تحنط أفكارك وأنت تقرأ عن المدينة الغريبة، جرب القليل من الخيال الموحي، جرب مرونة التفكير.. خليك حر.. خليك حي، وتذكر معي أن واحدا من جيلك رفض موت اللواء عمر سليمان، ولم يعترف بدفنه، وانتظر عودته بعد شهور لينتقم ويحكم ويقرر حياة الأحياء، وهو ما فعله صديقك العراقي مع صدام حسين، وفعلوه كثيرون في أزمان وأماكن مختلفة، فهذا دأب قديم ومتصل لرفض دفن الموتى أو على الأقل تحنيطهم، ثم الاحتفاظ بأماكن موقرة لهم في حياتنا من خلال الصور والتماثيل، ومن خلال الوصايا والتعليمات أيضاً.

(4)
قد يعيش الموتى بسلام مؤنس في رحاب القلوب ومخابئ الذاكرة، وقد يعيشون في مفاخرة صامتة على جدران البيوت وأسماء المحال، وقد يفرضون حضورهم الطاغي في قصور الحكم ومؤسسات التحكم ومدارس التلقين، لكنهم في كل الأحوال يتميزون على الأحياء، فنقسم بهم، ونخضع لوصاياهم، ونواصل معاركهم إلى أن ترد علينا القبور! وهكذا تصبح حياة الأحياء مجرد انعكاس لأفكار ومشيئة الموتى، حتى لو كنا نعلم علم اليقين أن العالم تغير من حولنا، بحيث لم يعد هو نفس العالم الذي كان يعيش فيه أجدادنا العظام، لكننا نخضع لمقررات الموتى ونعيد صياغة الحياة، باعتبارها جثة بلا عقل ولا روح، أو باعتبارها نسخة محنطة من حياة منتهية عاشها غيرنا، وليس بإمكاننا أن نحيا فيها حياة طبيعية.

(5)
إيتالو كالفينو هو صاحب تعبير النسخة المتطابقة بين مدن الأحياء ومدن الموتى، وقد تكرر خمس مرات تقريبا في روايته الخرافية البديعة "مدن لا مرئية". ففي مدينة "أدلما" يصعب على المرء أن ينظر في وجوه الناس لأنهم بلا وجوه تخصهم، فهم يحملون وجوه لأموات عاشوا حيوات سابقة انتهت بمآس ولعنات في أزمان بعيدة وقريبة!

يقول ماركو بولو للخان الأعظم: هذا يعني أن الأموات الذين ينتحل الناس وجوههم لم يكونوا أبدا سعداء، فلماذا يستحضرونهم ويواصلون المأساة؟

(6)
مدن ماركو بولو خرافية ولا مرئية مثل المدينة التي حكيت لكم عنها، لكن أوجه الشبه تستحق التأمل ومحاولة الاستبصار، فمثلا في مدينة "ميلانيا" يوجد ميدان كبير ومركزي، كلما دخلت إليه لن تسمع إلا نفس الكلام المكرر؛ الدائر بين الجندي المتغطرس والمتطفل اللزج، ويشاركهما في الغالب متشرد شاب وفتاة ليل، وإذا أنصتّ جيدا ستسمع من النوافذ وعتبات البيوت صوت أب تعيس يوبخ ابنته الغانية، متقاطعا مع صوت خادمها الرقيع وهو يحمل الطعام لقوادتها. وإذا خرجت من "ميلاينا" وعدت بعد سنوات طويلة، ستجد الحوار نفسه مستمراً. قد تلاحظ أن المتطفل مات، وكذلك الأب التعيس والمتشرد، لكن الجندي المتغطرس لا يموت، وكذلك الغانية وخادمها الرقيع، فقط استبدلوا الموتى بشخصيات أخرى تنطق بنفس الحوار مثل: المنافق والمنجم والنمام..

وعن هذا الاستبدال يقول ماركو: هذه هي التغييرات التي تحدث في ميلانيا، تغييرات غير جديرة بالاهتمام؛ لأن دورة الحياة الفاسدة والكلام العقيم تستمر كما هي، لذلك فإن حياة أهل ميلانيا قصيرة وخاوية، لكنهم لا يلاحظون ذلك ولا يهتمون بغير الهراء، ومع ذلك، فإن "ميلانيا" كانت افضل حالا من "ارجيا" التي تجاوزت المأساة فيها حدود الهراء وغطرسة الجندي المنفوخ، فـ"ارجيا" تتميز عن بقية مدن العالم أنها استبدلت الهواء بالتراب. فالسماء من تراب والغمام من تراب، والطين يغلف كل شيء حتى أصبحت المنازل مثل القبور، وتحولت الشوارع إلى شقوق وشروخ في الطين، وعاش الناس يزحفون في الظلام كالديدان، يسألون عن مكان الموتى ويأملون في الانتقال للحياة بمدينتهم التي يقول البعض إنها هناك في الأسفل؛ لأنك عندما تضع أذنك على الأرض تسمع أصوات الأبواب!

(7)
يميل الأموات عادة إلى البقاء في مدن منعزلة على أطراف مدن الأحياء، لذلك قام سكان "يوسوبيا" بتشييد نسخة متطابقة من مدينتهم، لكي تسكنها الجثث. وفي هذه المدينة السفلية استمر الموتى في حياتهم القديمة بلا تغيير، وكان أغلبهم من أصحاب الجثث النشيطة لرجال البورصة ونافخي الأبواق والقضاة والجنرالات، ففي مدينة الموتى جنرالات أكثر بكثير مما يوجد في مدينة الأحياء، بينما جثث الفقراء من الموظفين والعمال وبقية الناس يواصلون العمل ويميلون إلى الرضا وتجنب الثورة.

ولم يكن بين المدينتين اتصال مباشر، فقط معلومات منقولة عن طريق جمعية "الأخوة من ذوي العمامات"، الذين ينقلون أخبار مدينة الموتى للأحياء، وكانت أخبارا مشجعة يؤكدون فيها أنهم في كل زيارة إلى يوسوبيا السفلى يشاهدون إنجازات جديدة تثير الإعجاب، لذلك انبهر الأحياء بما يحدث من مشروعات ومعجزات في مدينة الموتى، وأعادوا تشييد مدينتهم حسب ما سمعوا، حتى صارت يوسوبيا الأحياء نسخة متطابقة مع المدينة السفلية. ومع الوقت اختلط الشبه على الجميع، ولم يعد أحد يعرف مدينة الأحياء من مدينة الموتى، وهكذا صار الأموات يحكمون الأحياء.

(8)
مدن الموت في حكايات ماركو بولو ينقصها الحديث عن "لودوميا"، التي تتميز عن غيرها بأنها ليست ثنائية، بل ثلاثية، فهي تضم إلى جوار نسخة الأحياء ونسخة الأموات؛ نسخة غامضة لأولئك الذين لم يولدوا بعد، لذلك فهي مدينة الأمل، ومدينة الخلاص من تبعية الأحياء للأموات؟

يبقى القول إن المدينة الغريبة التي حكيت لكم عنها ليست خرافية أبداً، وليست مدينة لا مرئية كمدن كالفينو، لكنها المدينة التي تعيش أنت فيها وسط الجثث المحنطة وتماثيل الأجداد الخالدين، تحت وصاية الأموات. إنها مصر يا عزيزي، وهذا لا يمنع أن تكون العراق، أو المغرب أو السودان، وكل بلد يسيطر فيه الموتى على الأحياء.

[email protected]
التعليقات (0)