كتب

المغرب.. ثورية الفقيه البصري أو أخطاء ما بعد الانقلاب

سياسي مغربي يروي مسيرته السياسية في قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (عربي21)
سياسي مغربي يروي مسيرته السياسية في قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (عربي21)

الكتاب : ثورة لم تكتمل: من معسكرات الزبداني بسوريا إلى معسكر السواني ليبيا إلى حمام بوحجار بالجزائر
الكاتب: مذكرات امحمد التوزاني
الجنيس سيرة ذاتية
مطبعة سوماكرام 2018
عدد الصحفات 320
 
عرفت السنتان الأخيرتان إصدار أربع مذكرات سياسية على الأقل، تغطي تجربة الثورة المسلحة لـ 3 آذار (مارس) 1973، التي قادها الفقيه محمد البصري، عقب الانقلاب على المسار الديمقراطية وإسقاط حكومة عبد الله إبراهيم سنة 1961 بالمغرب، منها مذكرات محمد بنسعيد أيت يذر، ويوميات العمل الوطني المسلح لعبد السلام الجبلي، ومذكرات الفقيه الفيكيكي محمد بوراس، ثم مذكرات محمد التوزاني الذي نحن بصدد مراجعته.

وتكتسي هذه المذكرات أهمية كبرى في التاريخ السياسي المغربي، كونها تقدم روايات مختلفة لتجربة عمل مسلح، انخرط فيه مناضلون من حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بقيادة الفقيه محمد البصري، كل واحد منهم حاول أن يتوقف عند أسباب إخفاق هذه التجربة، من وجهة نظره الخاصة، ما تفيد دراسة هذه المذكرات في التوقف عند أخطاء الحركة الديمقراطية في التعاطي مع انسداد النسق أو انزياح السلطة السياسية عن المسار الديمقراطي، وما الخيارات التي يمكن أن تلجأ إليها للجواب السياسي عن اللحظة في ظل هذه الشروط، وهل اللجوء إلى الخيار العسكري، يمكن أن يشكل الخيار؟ وهل توفر التجارب في هذا السياق سندا يمكن الوثوق به لتسويغ مثل هذه التوجهات؟

في سياقات تشكيل العمل المسلح

يقدم محمد التوزاني في مذكراته مدخلا مهما لفهم سيكولوجية المناضل الذي يتعرض لصدمة انزياح السلطة عن المسار الديمقراطي، وتنهار لديه الثقة في المسار والمؤسسات، وتضطرب أمامه السبل، فلا يجد الجواب عن كيفية التعاطي مع الأحداث، لاسيما إن تباينت وجهات نظر القيادة السياسية في الجواب السياسي عن هذه التطورات، فاختار المهدي بن بركة إعلان "الخيار الثوري"، واختار عبد الله إبراهيم تبني تقرير مذهبي مختلف، ومما سيزيد في تعميق هذه الحيرة، وتضييق هوامش الاختيار بالنسبة للمحبطين من إجهاض تجربة واحدة (حكومة عبد الله إبراهيم التي لم تعمر أكثر من ثمانية أشهر إلى حدود سنة 1961) دخول السلطة في مسلسل استئصال التنظيم واعتقال مناضليه بحجة الكشف عن تنظيم سري يتبنى العمل العسكري للإطاحة بالنظام السياسي.

هكذا كانت تجربة محمد التوازني، في مدنية تازة (شمال المغرب)، يشارك في حملة انتخابية لدعم أحد مناضلي الحزب في الانتخابات المحلية، بعد أن اختار حزبه المشاركة فيها، وقد أعلن رفضه لدستور 1962 وشارك في حملة وطنية لمقاطعته، فيجد نفسه في المعتقل وذلك في سياق ما عرف بمؤامرة 16 تموز (يوليو) سنة 1963، التي اتهم فيها النظام السياسي مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (أكبر حزب معارض) بالتحضير لانقلاب ضد الحكم، إذ تم اعتقال ما يزيد عن خمسة آلاف مناضل كان من بينهم التوزاني.

 

كثف التوزاني من علاقاته مع قيادة الثورة الفلسطينية بلبنان، وبخاصة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين،


تجربة نفسية ستترك أثرها العميق في نفس التوزاني، الذي رغم نيله لحريته، سيقرر الالتحاق بالعراق للدراسة بها بجامعة بغداد، ليفاجأ بعد ذلك بقرار لقيادة الحزب تدعو المناضلين إلى الالتحاق بسوريا فورا، لإجراء تدريبات عسكرية. اجتمعت خلية الحزب للنظر في هذا القرار، وقررت بعث التوزاني إلى دمشق للاتصال بمبعوث قيادة الحزب بها، غير أنه سيفاجأ مرة أخرى، بعدم إرسال أي مبعوث من قيادة الحزب لهذا الغرض، وأن القيادة صرفت النظر بعد أن توقفت الحرب بين المغرب والجزائر (حرب الرمال)، وأن عليه العودة للعراق. غير أن مشكلة أخرى ستعترضه، وهي خبر إغلاق الحدود بين سوريا والعراق بسب الانقلاب.

في ضيافة الرئيس ولقاء المهدي بنبركة بدمشق

لم يكن الوضع المالي لمحمد التوزاني يسمح له بالبقاء في سوريا لمدة أطول، فخطر على باله،عند تجواله بشوارع دمشق ومروره بمكتب رئيس الجمهورية أمين الحافظ، التوجه لمكتبه، والتماس لقاء معه من أجل مساعدته للخروج من المأزق، فاستقبله الرئيس، ومد له العون، وتيسر له بذلك لقاء وزير الخارجية السوري، الذي أخبره بإمكان متابعة دراسته بدمشق، كما أخبره بوجود المهدي بنبركة بأحد فنادقها. فتم لقاؤه الثالث بالمهدي، دون أن يفصح عن طبيعته ومضمونه، ثم جاء قرار الالتحاق بالكلية العسكرية بدمشق، التي قضى بها حوالي سنتين، وتخرج منها برتبة ملازم ثاني في أواخر سنة 1966، وسمي الفوج بفوج "الأمير عبد القادر الجزائري"، بحكم أنه كان من الطلبة العرب الذين كلفوا بالإشراف على إعادة استخراج رفات الأمير عبد القادر الذي سبق دفنه بدمشق، ليعاد دفنه بالجزائر، بعد أن كان الاستعمار الفرنسي يرفض دفنه بها. 

كثف التوزاني من علاقاته مع قيادة الثورة الفلسطينية بلبنان، وبخاصة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وخضع لدورات تكوينية سياسية من تـأطير حزب البعث السوري، أطرها قياديون من الحزب حاولوا استمالته إلى الأفكار البعثية.

اللقاء بالفقيه البصري وميلاد فكرة العمل المسلح

يحكي التوزاني أنه التقى الفقيه البصري بدمشق، بمناسبة الذكرى الثالثة من ثوره 8 آذار (مارس) لحزب البعث، بعد مشاركة وفد من الحزب يضم كبار قياداته في الذكرى (عبد الرحمان اليوسفي، محمد بن سعيد ايت يدر، عبد المجيد العراقي، والمرحوم محمد باهي....) وقد انفرد الفقيه محمد البصري بالتوزاني، وطلب منه مدى استعداده للانخراط في التوجهات الجديدة للحزب، ولم يكشف له البصري عنها بوضوح، غير أنه كان يلمح لربط المسار السلمي بالمسار المسلح، أي المسار الذي سار عليه الحزب بعد حملة القمع والاعتقالات التي طالت أغلب مناضليه خلال ما سمية بمؤامرة تموز (يوليو) 1963، ومما سجله التوازني في هذا اللقاء الإلمام الواسع للفقيه محمد البصري بأحداث المشرق والمغرب وأوروبا، ومعرفته الواسعة بعدة ميادين وقضايا مختلفة، ورغبته الدائمة في التعرف على التطورات الجارية.

بعد ذلك، ستوجه الدعوة من الفقيه البصري، إلى محمد التوزاني بالالتحاق بالجزائر في 13 حزيران (يوينو) 1973، وهناك في العاصمة الجزائرية، سيتم اللقاء مرة أخرى مع الفقيه البصري، وسيطلب منه توقي الحيطة والحذر في علاقاته داخل الجزائر، كما سيطلب منه لاحقا عبر موفده (عباس)، أن يقوم بدراسة كراسة حملها معه تضم تجربة جماعة "الهاكانا" العصابة الإسرائيلية التي تدعي المقاومة ضد الأنجليز خلال احتلال فلسطين. استفسر التوزاني عن دواعي اختيار تجربة إسرائيلية لها حساسية خاصة عند العرب، مع وجود تجارب أخرى، فأقنعه عباس بأنها تجربة مثلها مثل جميع التجارب تستحق الدراسة.
 
يحكي التوزاني في تجربته في الجزائر، سياق تشكل الخلية الأولى للعمل المسلح برفقة عدد من مناضلي الحزب من المغرب، وبداية التدريب في الجزائر من أجل الثورة مباشرة، بعد الزيارة التي قام بها الفقيه البصري للخلية في أواخر 1967 بالجزائر، لتطرح داخل الخلية أسئلة كثيرة استراتيجية وتكتيكية تخص العمل المسلح في المغرب، منها ما يرتبط بمعرفة الأرضية العسكرية (خرائط جغرافية)، ومدى قدرة المناضلين على إنجاز المهام المطلوبة، والإمكانات المتوفرة في الجزائر، ولدى المرتبطين بهم في المغرب، ويحكي التوزاني أن التداريب استمرت ثلاثة أشهر، مع إتمام عمل الخرائط، بحيث لم ينقطع التواصل بين الخلية وبين القيادة طيلة هذه المدة، إذ بعد انتهاء التكوين النظري، بدأ الإلحاح من قبل المناضلين على الجانب التطبيقي.

 

يحكي التوزاني جانبا آخر من مسار تجربة العمل المسلح لمناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهو الالتحاق بالمقاومة الفلسطينية


وبدلا من أن تبدد القيادة هذه الأسئلة، والرغبة الملحة في الانتقال إلى الشق التطبيقي، جاء قرارها بالرحيل من الجزائر إلى سوريا في أواخر سنة 1968، والالتحاق بمعسكر الزبداني، الذي كان يضم مناضلين من جنسيات مختلفة، إلى جانب مغاربة تم توصيتهم بتعليمات للقول بأنهم تونسيون. غير أنه سرعان ما تم الكشف عن المغاربة، بسبب تعرف بعض خريجي الكلية العسكرية بدمشق على محمد التوزاني، ليسجل الكاتب جوانب من سوء التنظيم في عمل عسكري يقتضي توافر حد عالي من السرية والضبط والإحكام. وبعد الانتهاء من التداريب بالمعسكر، سيتم اللقاء مجددا بالفقيه البصري، وستتم مفاجأته بالسؤال: لقد قمنا بتكوين نظري وتداريب متعددة، فماذا بعد؟ لاسيما وأن الملل بدأ يتسرب للمناضلين؟ لكن الفقيه البصري لم يجبهم عن التساؤل.

في رحاب النصال المسلح والالتحاق بالمقاومة الفلسطينية

ويحكي التوزاني جانبا آخر من مسار تجربة العمل المسلح لمناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهو الالتحاق بالمقاومة الفلسطينية (قوات الصاعقة التابعة للدولة السورية)، إذ سيتم تقسيم الخلية إلى مناطق، قسم على جبهة الجولان، وقسم على الجبهة الأردنية، وقسم ثالث أخذ موقعه في الضفة الغربية للأردن. وضمن هذه التجربة، دخلت الخلية الشق التطبيقي، وذلك باختبار اللياقة البدنية، والتدريب على الأسلحة، بما يتضمنه ذلك من فك وتركيب البندقية واستعمال المدافع الرشاشة والهاون والإربجي، والتدريب أيضا على استخدام مدافع الهاون، وكيفية تحديد الهدف على خارطة عسكرية واحتساب المسافة، ثم الانتقال إلى الهندسة العسكرية، وما يتعلق باستعمال المتفجرات بكل أشكالها ومعرفة كيفية إبطال الألغام المضادة للدبابات والأشخاص.

الرحلة إلى ليبيا وتجربة العمل الإعلامي

بعد أحداث أيلول الأسود، ستتخذ القيادة قرارا آخر، برحلة أفراد الخلية إلى ليبيا للتدريب في معسكر السواني سنة 1971، والمزاوجة بين التدريب العسكري وخوض تجربة إعلامية صوتية (أصوات التحرير) للإعداد ومواكبة العمل العسكري داخل التراب المغربي. لم تستمر التداريب أكثر من ثلاثة أشهر بهذا المعسكر، إذ لم تكن المجموعات تتعدى 24 فردا كحد أقصى، وكان المعسكر يستقبل وافدين من أوروبا (فرنسا وبلجيكا وهولندا) والمغرب الكبير ومن سوريا وكانوا كلهم طلبة.

العمل المسلح: تجربة السراب أم أخطاء التنظيم؟

يحكي التوزاني بمرارة قصة اختطاف الحسين المانوزي في تونس، وكيف تمت نصيحته بعدم السفر إليها لوجود تنسيق محكم بين المخابرات المغربية والتونسية وكيف رفض ذلك، ووقع صيدا ثمينا في يد المخابرات التونسية، كما يحكي تفاصيل دقيقة عن التحضير لانتفاضة 3 آذار (مارس)، وذلك في الاجتماع الذي انعقد في أواخر آب (أغسطس) 1972 بإقامة ابن عاشور بطرابلس بليبيا، إذ تم في هذا اللقاء تقسيم فعاليات الانتفاضة المسلحة إلى خمس مناطق جغرافية تغطي التراب المغربي، لتثار أسئلة  كثيرة حول هذا هذه الخطة، تتعلق بمعايير اختيار مناضلين لقيادة الانتفاضة في مناطق لا يعرفون حغرافيتها، ومدى استعداد المناضلين وقضايا أخرى لوجستية وتواصلية، كما تعرض بتفصيل أيضا للقاءات محمد بونة مع خلية المناضلين المغاربة بالجزائر، ولقاء باريس الذي جمع مبعوث الفقيه البصري  مع خلايا الحزب هناك. وتم في هذا اللقاء عرض برنامج الثورة وأهدافها (برنامج الجبهة الوطنية لتحرير المغرب).

ويحكي التوزاني بمرارة أحداث استشهاد محمد بنونة وثلاثة من المناضلين في 5 آذار (مارس) 1973، وأحداث بوعرفة، واعتقال محمد اليازغي ومصطفى القرشاوي وعمر بن جلون وغيرهم، واندلاع اعتقالات واسعة شملت قيادات وقوعد الحزب، لتتداعى قيادة الحزب لاجتماع موسع لأطر العمل السياسي العسكري (حوالي أربعين فردا) لتحضير شروط لانطلاقة تنظيمية على أسس جديدة، وتقييم الوضع الداخلي، وخطة عمل للتضامن مع كافة المعتقلين. 

وذكر التوزاني في هذا اللقاء اندهاشه من تبرؤ الفقيه البصري من مسؤوليته وأنه لم يكن معنيا بدخول الإخوة لإشعال فتيل 3 آذار (مارس) 1973، وأنه كان يتابع الاستعدادات للانتفاضة المسلحة، لكنه لم يكن راغبا في انطلاقتها إلا بعد التأكد من توفر شروطها، ليخلص اللقاء إلى ضرورة تأسيس هيكلة جديدة بأطر قيادية جديدة. فأصبحت بذلك الجزائر ملجأ للتنظيمات اليسارية الديمقراطية المغربية المعارضة.

 

يميل صاحب الكتاب إلى تفسير تجربة الفشل ليس إلى الاختيار ذاته، بل إلى القيادة وسوء تدبيرها وتخطيطها وتنظيمها، واختياراتها.


ويسلط التوزاني الضوء على تفاصيل اللقاء الذي يرى أنه شتت شمل الحركة المسلحة، في 2 آب (أغسطس) 1973، وذلك بالجزائر بمقر إقامة الفقيه البصري، ركز على تقييم الوضع وتحديد المسؤولية عن انتفاضة 3 آذار (مارس)، إذ تبنى الفقيه البصري أطروحة الاختراق، وخيانة أحد المناضلين واشتغاله لصالح المخابرات المغربية، فيما طرح عبد الرحمان اليوسفي فكرة تكتيكية، للتخفيف عن الضغوط على الحزب في الداخل، وذلك بتحميل مسؤولية الأحداث لتنظيم سري يعلن عن إسمه لتسهيل مأمورية المنظمات الحقوقية للتضامن مع الحزب وإعلان براءته ومظلوميته، فتم دعم فكرة اليوسفي وإسنادها.  

ويرى التوزاني أن الإجراءات التنظيمية التي حاولت ترجمة فكرة اليوسفي، انتهت بعزل الفقيه البصري في الجزائر، مما اضطر المناضلين في الجزائر إلى شد الرحال لباريس، وتحول العاصمة الفرنسية إلى مركز غليان وتوتر، بسبب الضربة التي وجهتها خطة اليوسفي لشل التنظيم العسكري للحزب، لتتم مفاجأة المناضلين في الخارج بعد ذلك، بتحول اسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى جديد "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية: ونهاية تجربة وحلم العمل المسلح، ليتم التفكير بعد لقاءات غير مثمرة مع قيادات الحزب إلى محاولة هيكلة الاختيار الثوري ضمن صيغة تيار مستقل، لم تؤت ثمارها بسبب التحولات التي أصابت البنية الحزبية الاتحادية، والتطورات السياسية الداخلية والإقليمية الدولية.

هذا ويميل صاحب الكتاب إلى تفسير تجربة الفشل ليس إلى الاختيار ذاته، بل إلى القيادة وسوء تدبيرها وتخطيطها وتنظيمها، واختياراتها.

التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم