أفكَار

دعاوى "الوسطية والاعتدال" متى تتوافق مع واقع الحال؟

خلص مؤتمر دولي عقد في مكة المكرمة حول قيم الوسطية والاعتدال في الإسلام إلى إعلان "وثيقة مكة المكرمة"- واس
خلص مؤتمر دولي عقد في مكة المكرمة حول قيم الوسطية والاعتدال في الإسلام إلى إعلان "وثيقة مكة المكرمة"- واس
عقدت رابطة العالم الإسلامي في 27 أيار/ مايو الماضي في مكة المكرمة مؤتمرا دوليا حول قيم الوسطية والاعتدال في الإسلام، واختتم المؤتمر الذي استمر أربعة أيام بإعلان "وثيقة مكة المكرمة" حول الموضوع نفسه.

ودعا المؤتمرون في كلماتهم الافتتاحية إلى إيقاف خطاب العنصرية والكراهية، وضرورة مواجهة الفكر المتطرف بفكر الوسطية والاعتدال، والإشادة بموقف السعودية التي واجهت التطرف والإرهاب بالفكر والعزم والحسم، والثناء على تجربتها في تعزيز منهج الوسطية والاعتدال.

وتضمنت وثيقة مكة المكرمة التي وقعها 1200 عالم من مختلف المذاهب الإسلامية عدة بنود من أبرزها "أجمع المسلمون في وثيقتهم التي أصدروها – مُمثّلين في مرجعيتهم الدينية – على أنهم جزء من هذا العالم بتفاعله الحضاري، يسعون للتواصل مع مكوناته كافة لتحقيق صالح البشرية، وتعزيز قيمها النبيلة..". 

كما طالبت الوثيقة "بسن التشريعات الرادعة لمروجي الكراهية، والمحرضين على العنف والإرهاب والصدام الحضاري"، و"دعت إلى مكافحة الإرهاب والظلم والقهر، ورفض استغلال مقدرات الشعوب وانتهاك حقوق الإنسان، مشددة على أن ذلك واجب الجميع من دون تمييز أو محاباة".

ووفقا لباحثين ومراقبين فإن رصد المؤتمرات والندوات والكتابات المخصصة للحديث عن مفهوم "الوسطية والاعتدال" يشير بشكل واضح إلى تغول السياسي على الديني في بحث ومناقشة كل ما يتعلق بهذا الموضوع، وغالبا ما يتم توظيف الديني لصالح السياسي توظيفا تاما.

وفي هذا السياق ذكر الداعية والباحث الشرعي الجزائري لخضر رابحي أن مفهوم "الوسطية والاعتدال من المفاهيم التي ابتذلت في السنوات الأخيرة، خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، إذ سارعت دول وجماعات وشخصيات إلى اعتباره الوسيلة المثلى لمواجهة التطرف الذي ألصق بالإسلام، وعزل أصحابه، وتفكيك منظومة التطرف والعنف والغلو".

وأضاف لـ"عربي21": "كما سارعت تنظيمات أخرى مغتنمة الفرصة لاستعمال المفهوم وسيلة للتّمييع والتّفلت من أحكام الإسلام ومنظوماته المختلفة، متوسعة في النيل من الإسلام تحت غطاء تصحيح التراث أو دعاوى التجديد".

وتابع: "ومارس آخرون سياسة التوظيف فاعتبروا "المعتدلين الوسطيين" فقط هم من يدعون إلى الرضوخ لولي الأمر، وإن جلد ظهرك وجثا فوق صدرك وباع الوطن للأجنبي، كما مارس آخرون التلاعب فاعتبروا التطبيع مع الكيان الصهيوني اعتدالا ووسطية" على حد قوله. 

وأشار رابحي إلى أن "مثل هذا التوظيف والتلاعب بالمفاهيم عرفته ساحات تاريخنا مع المعتزلة والخوارج، ومسائل العدل وقضايا العقل والنقل، لكن في كل مرة كانت الدلائل تشير إلى التوظيف السياسي، والنفس المذهبي، والخلفيات النفسية والاجتماعية".

وأوضح رابحي أن "الاعتدال والوسطية هو ما عليه الأمة، وما كانت عليه الأمة في أغلبيتها في كل مراحل تاريخها، الأمة ليس كمفهوم عددي فقط، ولكن كمفهوم سياسي بعيدا عن فكر الطائفة والنحلة والمذهب".

من جهته قال أستاذ الفقه وأصوله في دار الحديث الحسينية بالمملكة المغربية الدكتور الناجي لمين إنه "حينما نبحث عن مصطلح "الوسطية والاعتدال" نجد في القرآن كلمة "الوسط" التي تحمل معاني العدل والخيرية والأهلية للمشورة، والشهادة الصادقة على النفس وعلى الناس".

واستشهد لمين بقوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)، والتي تعني خيارا، ثم علل سبحانه فقال: (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)، وقال تعالى: (قال أوسطهم)، أي أعدلهم، وجاء عن بعض السلف قولهم "خير الأمور أوسطها"، أي أعدلها، وعلى هذا المعنى فالوسط يرفض الإفراط كما يرفض التفريط".

وواصل لمين شرح فكرته لـ"عربي21" مبينا أن "كلا من الإفراط والتفريط خارج عن حد الاعتدال، بما يعني أن كل من يدعي الوسطية والاعتدال عليه أن يتصف هو بالعدل، ويتمسك بالفضيلة، قال تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون)".

واعتبر أن من شرط توافق دعاوى الوسطية والاعتدال مع واقع الحال "أن يرى الناس منه التصرف الرشيد السديد، وأن ينال ثقة الناس جميعا في المشورة، لأنه يطبق القاعدة التي يؤمن بها على الجميع، فلا يكيل بمكيالين".

وانتقد الأكاديمي الشرعي المغربي لمين كثيرا من الممارسات الإسلامية باسم الوسطية والاعتدال بقوله: "أما دعاوى الوسطية والاعتدال اليوم فإن التجارب أثبتت لنا أن كثيرا من الأطراف الإسلامية تستعمل هذا  المبدأ لتحاصر خصومها من بني ملتها، ثم لا تلبث أن تنقلب عليه إن تعلق الأمر بأصدقائها، كما يفعل الغرب مع مصطلحات الديمقراطية، والمساواة وحقوق الإنسان".

بدوره رأى أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله بالجامعة الأردنية الدكتور عبد الله الكيلاني أن "المسلمين بحاجة ماسة اليوم إلى منهج –سمه ما تشاء اعتدال ووسطية أو غير ذلك – يجنبهم الصراعات الداخلية، ويؤسس بينهم وفي مجتمعاتهم لـ"المواطنة المتحابة"، بحسب وصفه.

وتساءل الكيلاني: "ما فائدة الحديث عن الاعتدال والوسطية حينما تتحول العلاقة بين المسلمين – في مساجدهم وغيرها من الأماكن – من التحابب والتوادد والتراحم إلى الصراعات والاختلافات والتدابر والتباغض؟".

وشدد الكيلاني في حديثه لـ"عربي21" على أن مصداق دعاوى "الوسطية والاعتدال" يكون بترجمتها عمليا إلى تعاون المسلمين وتآلفهم، وتخلق جمهور المسلمين ومعاشر المصلين بفقه الاختلاف وآدابه، وأخذ الناس باللين، وتقديم الإسلام بصورة مريحة ومشوقة تجذب الآخرين إليه وتحببهم فيه".

وإجابة عن سؤال: متى تتوافق دعاوى "الوسطية والاعتدال" مع واقع الحال، ذكر الباحث الجزائري لخضر رابحي أن من شروط ذلك "امتلاك الفهم الصحيح للدين بتجدد الاجتهاد والتفاعل مع العصر، والابتعاد عن فكرة التوظيف والتلاعب بالمفهوم، وتحويله إلى نزعة طائفية، فما هكذا يكون الاعتدال".

ووصف رابحي في ختام حديثه دعاة الوسطية والاعتدال "بأنهم إن لم يكونوا من الشعب ومع الشعب ويتواصلون مع أبنائه، ويتفهمون مطالبهم، فلن يكونوا قادرين على ترجمة معاني الوسطية والاعتدال".



0
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم

خبر عاجل