مقالات مختارة

ذكرى إنزال النورماندي: ماذا تبقى من تلك "الحملة الصليبية"؟

صبحي حديدي
1300x600
1300x600

اليوم نتذكر من سقطوا هنا ونكرّم كلّ من قاتلوا هنا. لقد أعادوا هذه الأرض إلى الحضارة»؛ قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في خطبته خلال المراسم التي شهدتها شواطئ النورماندي الفرنسية، أمس، احتفالا بالذكرى الـ75 للإنزال الشهير الذي دشّن أولى مراحل اندحار الرايخ الثالث.


 وأضاف ترامب: «القوّة الخارقة جاءت من روح خارقة، وروعة الشجاعة جاءت من روعة الإيمان، وعظمة ما فعله جيشنا جاءت من عمق المحبة»؛ وكذلك: «إلى الرجال الذين يجلسون خلفي وإلى الفتية الذين يرقدون في الحقل أمامي، أقول إن أمثالكم لن يشيخ أبدا، وأنّ أسطورتكم لن تموت».


الأرجح أنّ هذه الخطبة هي الأشدّ خواء في المعنى، والمبنى أيضا، بالقياس إلى الخطب العصماء العديدة التي ألقاها رؤساء أمريكيون سابقون في المناسبة إياها؛ خاصة رونالد ريغان، في سنة 1984، من تلة بوانت دو أوك أعلى النورماندي؛ التي كتبتها بيغي نونان، الأيرلندية الكاثوليكية ابنة الـ33 سنة، وكانت كأنها تسطّر للرئيس تلك البلاغة العالية الكفيلة بإعادة انتخابه لولاية ثانية، بنسبة ساحقة. بل لعلّ كلمات ترامب، الطنانة الرنانة المستهلكة، كانت أقرب إلى سبّة صريحة بالمقارنة مع الأمر العسكري الذي أصدره الجنرال دوايت أيزنهاور، لإطلاق «عملية أوفرلورد» وابتداء مشاركة 150 ألف جندي، بريطاني وأمريكي وكندي، في عبور القناة والإنزال أمام الجيش الألماني وخلف خطوطه: «أنتم على وشك ابتداء الحملة الصليبية العظمى، التي بذلنا الجهود المضنية لإعدادها طوال هذه الشهور. عيون العالم شاخصة إليكم. آمال وصلوات الشعوب المحبّة للحرّية في كلّ مكان تسير معكم».


خواء المعنى عند ترامب لا يقتصر على البون الشاسع بين اللفظ ودلالاته، أو بين المفردة وما تحضّ عليه من إدراك عاطفي أو عقلي؛ بل يمتدّ وينبثق أساسا من أنّ هذا الرئيس الأمريكي الخامس والأربعين هو الأقلّ اكتراثا بما تبقى من مغزى وراء إنزال النورماندي، بل هو الأضعف انتماء إلى الإرث الذي يمثّله الاحتفال بأسره. صحيح أنه جاء لتكريم 9380 من رجال الجيش الأمريكي الذين قُتلوا في هذه العملية وما أعقبها، إلا أنّ سلوكه الرئاسي منذ انتخابه كان ينكث بالكثير من الوعود التي من أجلها مات هؤلاء؛ وخاصة ذلك الحلم بـ«غَرْب موحّد»، ذي «حضارة واحدة» كما يحلو للرئيس الأمريكي أن يقول هنا وهناك، ولـ«المجتمع الحرّ» الذي تحرّر من أشباح الرايخ وامتداداته، ولم يبقَ له من مهمة سوى وضع خاتمة للتاريخ، حسب النظرية الخرقاء التي أطلقها فرنسيس فوكوياما مطلع تسعينيات القرن المنصرم.


صحيح كذلك، وكي لا يبدو ترامب وحيدا في الميدان، أنّ مفهوم «الغرب» سرعان ما تعدّد وتبدّل، وتباعدَ وتنافرَ وتناقضَ استطرادا، بعد سنوات قليلة أعقبت إنزال النورماندي؛ ولعلّ صورته الأكثر إعرابا عن الحال كانت رفض الرئيس الفرنسي الأسبق شارل دو غول المشاركة في إحياء الذكرى، سنة 1964، انطلاقا من أنّ حصّة المقاومة الفرنسية في تسهيل الإنزال وهزيمة الاحتلال النازي وتحرير فرنسا، يتمّ إغفالها دائما لصالح البطولة «الأنغلو ــ أمريكية». (والمفارقة أننا سوف ننتظر فرنسوا ميتيران، أوّل رئيس اشتراكي في الجمهورية الخامسة، لاستئناف المشاركة الفرنسية في الاحتفال). وصحيح، كذلك، أنّ دخول الولايات المتحدة على خطّ الغزو الخارجي وتوسيع الرقعة الإمبريالية الأمريكية قد كلّف بريطانيا وفرنسا، صحبة دولة الاحتلال الإسرائيلي، خسران حرب السويس سنة 1956؛ والتمييز، في قلب التحالف الأطلسي، بين مصلحة قومية منفردة لهذه الدولة أو تلك، وبين مصالح «الغرب» إياه.


من الصحيح أيضا، في المقابل، أنّ ثلاث سنوات فقط سوف تنقضي قبل أن يعلن وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، جورج مارشال، المبادرة الدبلوماسية الأضخم، والأكثر كلفة في تاريخ الولايات المتحدة: ما سيعرف فيما باسم «خطة مارشال» لانتشال أوروبا من أوزار الحرب العالمية الثانية. كان المشروع حصيلة معقدة عكفت على هندستها حفنة من أكبر أدمغة الإدارة آنذاك (مارشال نفسه، بمعونة دين أشيسن، جورج كينان، وليام كلايتون، شارلز بوهلن)؛ تطمح إلى قلب العالم رأسا على عقب، بكلفة 13 مليار دولار (أكثر من 90 مليار دولار بحسابات هذه الأيام). ذلك لأنّ الخطة انطوت على عون أمريكي هائل لأوروبا أربعينيات القرن الماضي، حين كانت القارّة العجوز خربة ومنهارة وممزقة، تتضور جوعا إلى ما تحمله الشاحنات الأمريكية من موادّ إغاثة تبدأ من الدقيق والحليب، ولا تنتهي عند قلم الرصاص وكيس الإسمنت.


وقبل تصميم المشروع، في شباط (فبراير) 1946، كان القائم بالأعمال في السفارة الأمريكية في موسكو، جورج كينان، قد أرسل «البرقية الطويلة» التي سوف تدخل التاريخ بوصفها أوّل تبشير إيديولوجي بالحرب الباردة المقبلة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي؛ التي سيكملها بنشر مقال بتوقيع X، في مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية، حول الموضوع ذاته: لا تستطيع الولايات المتحدة الوقوف مكتوفة الأيدي أمام ما سيجرّه خراب أوروبا الاقتصادي من خراب إيديولوجي، سيكون في صالح الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشيوعي، وسيقلب الانتصارات العسكرية الأمريكية إلى هزائم عقائدية للقِيَم الرأسمالية. وبالطبع، لم يكن المحتوى البراغماتي لمشروع كينان يقتصر على ملء البطون الجائعة، بقدر ما كان يستعجل تطويق الانهيار الوشيك في أوروبا، والسيطرة على تعطش الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين إلى ملء فراغ القوّة هنا وهناك، واستخدام سلاح المعدة الخاوية لضبط العقول. وكان كينان يريد للولايات المتحدة أن تتولى زمام العالم الحر (ومن ثم مصير العالم بأسره خارج الملكوت الشيوعي)، عن طريق استخدام كيس الطحين الذي سوف يكمل ما قامت به الدبابة والقاذفة في أثناء سنوات الحرب وتحرير أوروبا.


فما الذي تبقى من ذلك «الغرب» كما جهدت الولايات المتحدة لتركيبه، أو حتى ابتكاره؟


الأرجح أنّ ترامب ليس نسيج وحده في التنكّر لذلك المفهوم، حتى إذا لاح أنه أوّل رئيس أمريكي يكسر حواجز اللباقة فيضرب ذات اليمين وذات الشمال؛ كما هي حاله أمس، على شواطئ النورماندي: كان سيّد البيت الأبيض الراهن هو الأسوأ كياسة مع تيريزا ماي، ربما على امتداد عقود «العلاقة الخاصة» بين واشنطن ولندن؛ والأردأ علاقة مع الرئيس المضيف، الفرنسي إمانويل ماكرون، رغم طور المحبّة القصير الذي جمعهما في أعالي برج إيفل ذات يوم غير بعيد؛ والأشدّ استعدادا لإذلال الجارة كندا، اقتصاديا بادئ ذي بدء، ثمّ سياسيا كذلك. وأمّا مواقفه من أينع ثمار ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي الحلف الأطلسي، فقد أعلنها صريحة واضحة فاضحة، صيف 2018، عبر تغريدة ليس أكثر: «من دون نجاح، حاول الرؤساء طوال سنوات دفع ألمانيا وسواها من أمم الأطلسي الغنية إلى سداد المزيد لقاء حمايتها من روسيا. إنهم يدفعون قسطا ضئيلا من نفقتهم. الولايات المتحدة تدفع عشرات المليارات من الدولارات أكثر مما يتوجب لإعانة أوروبا، وتخسر كثيرا في التجارة». وفي تغريدة لاحقة، تابع خطّ الهجوم: «وفوق كل شيء، بدأت ألمانيا تدفع لروسيا، البلد الذي تطلب الحماية منه، مليارات الدولارات لقاء احتياجاتها من الطاقة عبر أنبوب آت من روسيا. هذا غير مقبول! جميع أمم الناتو يجب أن تنفذ الالتزام بـ2%، وهذا يجب أن يرتفع إلى 4%».


بقيت الذكرى بالطبع، وهي هنا تظلّ جَمْعية وشاملة وذات طابع إنساني محض؛ لا تكرّم تضحيات عشرات الآلاف من البشر، فحسب؛ بل تعيد، أيضا، التذكير بحصيلة محزنة ومؤسفة: أنّ الكثير من الأمثولات شاخت أو ذهبت عبثا على أيدي القادة أنفسهم الذين يزعمون الاحتفاء بها.

عن جريدة الشرق الأوسط 

0
التعليقات (0)

خبر عاجل