كتب

من العثمانييين إلى أتاتورك.. قراءة في التحولات التركية

كتاب يكشف كيف كان رفض العثمانيين للتنازل عن فلسطين سببا في التعجيل بنهاية عهدهم (عربي21)
كتاب يكشف كيف كان رفض العثمانيين للتنازل عن فلسطين سببا في التعجيل بنهاية عهدهم (عربي21)

الكتاب: الغازي مصطفى كمال أتاتورك 
الكاتب: إيلبير أورتايلي، ترجمة مجد الدين صالح، مراجعة وتحرير مركز التعريب والبرمجة
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون،بيروت،الطبعة الأولى فبراير/شباط 2019

تشكل خيارات تركيا واحدة من الظواهر المثيرة للاهتمام على الصعيد الدولي منذ نهاية القرن التاسع عشر ولغاية الآن. وتمس خيارات تركيا الرهانات الكبرى لقوس الأزمات الذي يمتد من الشرق الأدنى إلى أفغانستان وباكستان. وتثير هذه الخيارات مسألة التطور التاريخي لهوية بلد حريص على تأكيد موقعه في التقاء مع أوروبا، والشرق، وآسيا. وطوال المراحل التاريخية لصعود الامبراطورية العثمانية وانهيارها كان قرارإسطنبول الاستراتيجي هو الدفاع عن العالم الإسلامي في مواجهة أوروبا الصناعية الصاعدة والطامعة لاستعمار العالم العربي والإسلامي، بصرف النظر عن العلاقات غير المتكافئة والمتوترة التي كانت قائمة بين الأتراك والعرب.

 

كيف تأسست الدولة التركية العلمانية 

وعمل السلطان عبد الحميد الثاني على ترسيخ السياسة التوازنية التي قوامها: موازنة القوى بين العدو القريب المؤثر والعدو البعيد الكامن، من خلال ديبلوماسية دقيقة ومرنة، وحاول تكوين مساحة تأثير تتحقق فيها مصالح دولته، أو ما يسمى بـ "الحديقة الخلفية" (Hinterland)، والتي تتمثل في المسلمين الذين يعيشون تحت الاستعمار خارج حدود الدولة العثمانية.

في ظل النظام الدولي الاستعماري في ذلك الوقت، والتناقض الداخلي الذي عاشته البنى الاستعمارية، كان العالم الإسلامي يتكون من تشكيلين سياسيين مختلفين: الأول، يتمثل بالدولة العثمانية التي تمتلك مؤسسة الخلافة، والتي تحاول الصمود والوقوف على قدميها ضد صراع التقاسم بين القوى الاستعمارية، والثاني، يتمثل بالدول الإسلامية التي تم استعمارها من قبل عدة دول إمبريالية.

 



كان السلطان عبد الحميد يرى أن استمرار وجود الدولة العثمانية مرتبط باستغلال هذه العلاقة بشكل مؤثر في النظام الدولي، لشعوره بحد كبير بقوة العلاقة بين هاتين البنيتين.

ومع ذلك في آخر عهد الحكم العثماني، حين كانت الامبراطورية العثمانية تلقب بـ "الرجل المريض" في قلب الشرق، رفض السلطان عبدالحميد الخضوع لإملاءات وشروط الحركة الصهيونية العالمية لجهة السماح بالاستيطان اليهودي  في فلسطين.

"أنا لا أستطيع التخلي عن شبر واحد من أرض فلسطين. لقد قاتل شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه. فليحتفظ اليهود بملايينهم إذا مُزقت امبراطوريتي. لعلهم آنذاك يستطيعون أخذ فلسطين بلا ثمن. ولكن يجب أن يبدأ التمزيق بجثثنا". 

هذا ما دوّنه ثيودور هرتزل في مذكراته حول ردّ السلطان عبد الحميد الثاني على العرض المغري الذي قدمه كثمن لشراء أرض فلسطين.

ومن المؤكد أن هرتزل كان يعرف جيداً خطورة الضائقة الاقتصادية التي تعانيها الدولة العثمانية، لذلك سعى بواسطة الوسطاء الى إقناع السلطان بأهمية حل مشاكله المالية مقابل السماح لليهود بالاستيطان في فلسطين. وفي رده على هذا العرض، أصدر السلطان عام 1899 قوانين قاسية تحرّم استيطان اليهود في فلسطين. وأرسل إلى حاكم القدس العثماني نسخاً من القوانين كي يوزعها على الهيئات القنصلية. وهي تتعلق بالزوار العبرانيين للأراضي المقدسة. وتقضي الإجراءات بإبعاد كل زائر بالقوة إذا هو تجاوز فترة الإقامة.

 

"أنا لا أستطيع التخلي عن شبر واحد من أرض فلسطين. لقد قاتل شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه. فليحتفظ اليهود بملايينهم إذا مُزقت امبراطوريتي. لعلهم آنذاك يستطيعون أخذ فلسطين بلا ثمن. ولكن يجب أن يبدأ التمزيق بجثثنا".


من الجدير بالذكر في هذا الصدد، أنه عندما سقطت الأندلس على يد الأسبان في عام 1492، انتقل القسم الأكبر من اليهود لكي يعيش بين ظهراني الامبراطورية العثمانية نتيجة إجبارهم في محاكم التفتيش على اعتناق المسيحية أو مغادرة إسبانيا. فبسطت لهم الامبراطورية العثمانية جناحي الرفق والرحمة في ربوعها كلها، فنعم اليهود في ظلها بالحرية والأمان، ولم يتعرضوا لأي اضطهاد يذكر في الوقت الذي كانوا يتعرضون فيه للقمع والملاحقة ومحاكم التفتيش في روسيا ودول أوروبا الشرقية وحتى بلدان أوروبا الغربية. 

ومع ذلك قابل اليهود ذلك الإحسان بأن قادوا حملات إسقاط الامبراطورية العثمانية، بعد أن رفض السلطان عبد الحميد الثاني إعطاءهم وطنا في فلسطين وكان لهم ذلك. فتحالفت الحركة الصهيونية مع القوى الأوروبية الاستعمارية متمثلة ببريطانيا وفرنسا، التي مارست ضغوطا اقتصادية وسياسية أدت إلى خلع السلطان عبد الحميد الذي وقف بحزم في وجه المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين. وأسهم اليهود في إسقاط السلطان عبدالحميد من خلال تغلغلهم في حزب "الاتحاد والترقي".

 

أتاتورك.. قصة الألقاب

 
في هذا الكتاب الجديد، الذي يحمل العنوان التالي: "الغازي مصطفى كمال أتاتورك"، الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون ببيروت، والمتكون من مقدمة وثماني فصول، ويتضمن 446 صفحة من القطع الكبير، يحاول الكاتب التركي إيلبير أورتايلي، أن يرسم لنا صورة مبهرة عن القائد العسكري الفذ مصطفى كمال أتاتورك الذي غير تاريخ تركيا ومجتمعها، والذي يلقبه بالغازي مصطفى كمال أتاتورك.

يقول الكاتب: إن كلمة غازي "نطلقها على السلاطين ورجال الدولة الكبار، ويُمنح هذا اللقب تحديداً للقادة الذين قادوا الجيش في ساحة القتال وعادوا إما منتصرين أو انسحبوا في نهاية الحرب للحفاظ على شرفهم العسكري، مثل الغازي حسان باشا والغازي حسرف باشا والغازي عثمان باشا. ويمكننا القول بأن الغازي أيضاً هو الذي يحارب من أجل إنقاذ شرف الجيش والدّولة والشعب، مثل السلطان سليمان والسلطان محمد الثالث والسلطان مراد الرابع الذين حاربوا بأنفسهم في ساحات المعارك".

ويضيف: "لكن هذا اللقب تم منحه ولأول مرة لرئيس مجلس الشعب المكون من المعارضين والمؤيدين، والذي كان أيضاً القائد العام بعد الانتصار في حربه بسكاريا. وهكذا حصل مصطفى كمال كقائد على لقب الزعيم بقرار المؤتمر، بالإضافة إلى حصوله على اللقب التقليدي للإسلام. وحتى اليوم هناك أشخاص يستخدمون عبارات مثل "أتاتورك هو المؤسس" و"أتاتورك هو رجل الدّولة الأعظم في القرن العشرين". ورغم أن هذه العبارات صحيحة بالتأكيد فإنه توجد شعارات مهمة أخرى لا نستخدمها مع الأسف" (ص13 من المقدمة). 

ويضيف الكاتب في تحديده لمزايا القائد أتاتورك: "أولاً: أتاتورك هو ماريشال تركيا. فهو ماريشال عظيم لأنه عرف كيف يقدر الماريشالات الآخرين، وهو ماريشال عظيم لأنه عرف كيف ينتقل للحياة المدنية، وهذه من أهم خصائصه. والرجال العظماء والمبدعون هم فقط من يستطيعون تحقيق هذه النقلات.

ثانياً: أتاتورك منظم، فهو نجح في المجالين العسكري والسياسي. والمؤشر على أنه رجل دولة عظيم هو قدرته على القيام بثورة حقيقية بنظام الحكم، حيث حوّله من نظام حكم الشخص الواحد إلى جمهورية، واستطاع إلى جانب تحقيق هذه الثورة أن يحقق ثورات أخرى. فقد كان قادراً على العودة إلى المقطورة القديمة حتى بعد إعلانه الجمهورية، ولكنه لم يفعل ذلك. ولهذا نستطيع القول بأنه "الباشا الغازي" و"الغازي مصطفى كمال أتاتورك" و"وباشانا الغازي".

لا يمكننا أن نجد في كل بلد قائداً يساهم في تبديل مجرى التاريخ ويضع نفسه في مواجهة الخطر من أجل بلده. وإذا كان لدى الأتراك في كل عصرٍ قائد دولةٍ عظيمً وماريشال عظيم، وهذا من الأمور التي تُغني تركيا، فإن من النادر أن يأتي شخص بمثل دهاء أتاتورك وقدرته الشاملة على الحُكم" (ص14 من المقدمة). 

 

معالم الانقلاب الأتاتوركي

 
كان من أبرز الانقلاب الجذري الذي ألحقه مصطفى كمال أتاتورك بالدولة العثمانية، والتي بدت إرهاصاته منذ سنة 1922، أن نصّب عسكر تركيا الكمالية أنفسهم حماة للعلمانية وحراساً للمبادىء الأتاتوركية. فتأسست بذلك الجمهورية التركية الحديثة في سنة 1923، وريثة السلطنة العثمانية التي استمرت حقبة دامت أكثر من أربعة قرون، فحوّلت السيطرة الأتاتوركية على تركيا في عام 1923 البلاد من سلطة دينية إلى نظام علماني بالغ في تطرفه تجاه مظاهر التديّن، فحظر وصول الحركات الإسلامية إلى السلطة لعقود خلت. 

 



وأدّى إلغاء الخلافة في شكل خاص إلى بعض الخيبة والانتقادات. ظلّ الإسلاميون ينتقدون بشدّة العلمانية في تركيا. لكن على الرغم من ذلك، كانت مرحلة الإصلاح في تركيا آنذاك مصدراً لـ"الإعجاب بمصطفى كمال في أوساط النخب الحديثة الصاعدة" في البلدان العربية. 

لقد أسس مصطفى كمال أتاتورك على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، مقر الخلافة الإسلامية، الجمهورية التركية الحديثة أو تركيا ما بعد العثمانية المؤسَّسة عام 1925، وحافظ عليها ورثته من خلال الاعتماد على الجيش، في إطار بناء دولة علمانية قومية وتسلطية ذي مرجعية سياسية ـ ثقافية هي النمط العلماني الفرنسي. وأراد مؤسس الجمهورية، مصطفى كمال أتاتورك، أن تكون الدولة التركية الجديدة ذات هيكلية وهوية علمانيتين أشد تعصباً من البلاد التي اخترعت العلمانية كفرنسا.

يقول البروفسور داود أوغلو في هذا الصدد، أدى هذا الوضع  إلى توجه إدارة الدولة الجديدة إلى إعلان يمكن له أن يلقى القبول من الناحية الدولية، وهذا الإعلان الذي صرحت به الدولة يفضي بتخلي الجمهورية عن كل المسؤوليات والطموحات الدولية، ويحتوي على عنصرين أساسيين:

الأول: تبني استراتيجية الدفاع عن الحدود القومية والدولة الوطنية بدلاً من الاستراتيجية ذات البعد الدولي.

الثاني: أن تكون الدولة التركية جزءاً من محور الغرب المتصاعد وليست بديلة أومعارضة له.

وجدت وجهة النظر هذه تعبيرا لها في المبدأ الذي طرحه أتاتورك بقوله "سلام في الوطن وسلام في العالم". وتظهر هذه الفكرة توجهاً سلمياً مثاليا في العلاقات الدولية، إضافة إلى أنها تبرز موقفاً واقعياً لسياسة خارجية تأخذ بعين الاعتبار الوضع الدولي الذي وصل فيه الاستعمار إلى ذروته، وتتهرب من الصراع مع قوى النظام الاستعماري، الذي أدى إلى انحلال الدولة العثمانية، ومحاولة تحديد وضع دولي جديد فوق أنقاض هذه الدولة.

تحول مبادىء أتاتورك العلمانية إلى أيديولوجيا تسلطية 
 
أصبحت مبادىء مصطفى كمال أتاتورك في العلمانية التي التزم بها حزبه: حزب الشعب الجمهوري، بمنزلة المرجعية المقدسة للدولة التركية الحديثة، التي لا يجوز لأحد المساس بها، وهي على النحو التالي: 

1 ـ النظام الجمهوري هو النظام النهائي لتركيا.
2 ـ الشعب التركي يشكل أمة واحدة قائمة بذاتها، وذات قومية متميزة، وتركيا هي صاحبة السيادة المطلقة على أراضيها كافة ضمن حدودها الجغرافية المعترف بها دولياً.
3 ـ تركيا دولة علمانية وأمور الدين منفصلة عن أمور الدولة، لذلك غير مسموح لرجال الدين التدخل في أمور الحكم والإدارة والقضايا العامة.
4 ـ النظام التركي الجمهوري العلماني نظام شعبي يقوم على التمثيل النيابي الديمقراطي، وجميع المواطنين متساوون أمام القانون.
5 ـ نظام الدولة الاقتصادي هو نظام الحرية المراقبة، وهذا يعني أن للدولة الحق في مراقبة نشاطات القطاع الخاص والتدخل بالقوة، إذا لزم الأمر، لوقف هذه النشاطات إذا كانت ضارّة بالمصلحة العامة.
6 ـ طبيعة النظام طبيعة ثورية، لذلك يجب أن يكون نظاماً متطوّراً باستمرار تبعاً لتطوّر مشاكل الحياة حتى يُقضى نهائياً على الفقر والجهل والتخلف.

في تحليله لطبيعة العلمانية التي أسسها الغازي مصطفى كمال أتاتورك، يقول الكاتب إيلبير أورتايلي: "كانت الدولة العثمانية دولة متسامحة، واتخذت في مجال الحياة العامة والحقوق الخاصة خطوات هامة، وطبقت حقوقاً من خارج الدين الإسلامي، ولكنها كانت دولة تدار بالشريعة، بينما كان الفصل الديني للمجتمعات أساساً في إدارة الأمة. ونلاحظ أنه حين بدأت الدولة بفقدان أراضيها فإن السلاطين العثمانيين أخذوا يتمسكون أكثر بالخلافة". 

وأضاف: "كانت الجامعة الإسلامية هي الفكرة الأساسية في القرن التاسع عشر، وعندما بدأت الدولة في الإصلاحات فإنها عن قصدٍ أو غير قصدٍ دخلت في النظام العلماني. ولكن المشاكل التي خلقتها في الحياة الإدارية والاجتماعية عانى منها آخر نسلٍ من العثمانيين، فجرى اقتراح وصفاتٍ علاجية خلال فترة المشروطية الثانية كحلٍ لتهدئة هذه المعاناة، إلا أن الطاقم السياسي والإداري أغلق الستارة من دون تسكين الآلام". 

وتابع: "في عام 1924 م تم إلغاء الخلافة ونفيت العائلة الحاكمة إلى خارج تركيا، ولو كانت الخلافة ما زالت قائمة اليوم، فإنها سوف تكون مكبلة، حتى وإن لم تتحول لموقعٍ سياسي. ولذلك اتخذت تركيا الجديدة والثورة موقفاً حدياً عند وضع أساس المؤسسات العلمانية في مجال الحقوق وتوحيد التعليم، وتخلصت نهائياً من الثنائية التي كانت موجودة في نهاية العصر العثماني. وهكذا تم الدخول في عصر العلمانية وتعديل الدستور عام 1928م". 

وأكد إيلبير أورتايلي "أن الأساليب العلمانية، وعملية إزالة الفوضى التي حصلت بين المؤسسات المعاصرة التي أُنشئت في نهاية الدولة العثمانية وبين المؤسسات القديمة، والنظرة العلمانية للعالم، وضعت كلها الأساس لإنشاء الدولة المعاصرة، وجعلت من الممكن امتلاك نظام حقوقي وإداري كاملٍ، وهو نظام أراد من خلاله الشعب الذي يتحدث نفس اللغة ويمتلك نفس الميراث الثقافي أن ينهي الانقسامات الطائفية والنزاعات التي في داخله" (ص 370 من الكتاب). 

ومنذ إعلان الجمهورية الأتاتوركية، وإدراك المؤسسة العسكرية التركية التي سيطرت على مقاليد السياسة في تركيا لهويتها العلمانية المرتبطة بالغرب، ظلت مسألة الهوية الوطنية التركية محل جدل سياسي وتاريخي في تركيا، ذلك أن الهوية الوطنية تعتبر من أساسيات الدولة لنفسها في مواجهة محيطها الجغرافي؛ ومن أهم العوامل الحاكمة في رسم السياسة الإقليمية للدول. 

ورغم أن تركيا اختارت وجه بوصلتها الارتباط بالغرب، منذ أن اتخذت أنقرة قرارها الاستراتيجي بأن تدير ظهرها إلى مكة، فإنها وجدت نفسها أمام عقبتين أساسيتين: العقبة الأولى هي أن المجتمع التركي لم يتخلَ عن ثوابته الدينية ولم يقطع الصلة بعمقه الإسلامي. أما العقبة الثانية فهي أن أوروبا، مستعيدة حروب القرون الوسطى مع تركيا ووصول جحافل القوات العثمانية مرتين إلى أبواب فينا، لم تجرؤ على فتح أبواب الاتحاد الأوروبي أمام العضوية التركية. لم تكن العلمنة كافية لتجميل صورة تركيا في الصالونات السياسية الأوروبية. حتى المصالح العسكرية والاقتصادية المتبادلة لم تنجح في ردم الحفر العميقة المحفورة في ذاكرة الأوروبيين.

وبناء على إقامة هذا النظام العلماني التسلطي بقيادة الجيش التركي، تم قمع التيارات الدينية، ومنعت من التعبير عن نفسها في شكل أحزاب سياسية طيلة المرحلة الممتدة من تأسيس الجمهورية التركية الحديثة وغاية عقد الخمسينيات من القرن الماضي.

ولكن في عام 1945، فُتح الباب أمام التعددية الحزبية، مع بقاء حظر الأحزاب الدينية طبعاً، وهذا ما مكّن أحزاباً (تحمل شعار الديمقراطية في الظاهر والإسلامية في الباطن)، من التغلغل في المشهد السياسي وفق خطوات طويلة وشاقة، شملت الكثير من قطاعات المجتمع، أبرزها المؤسسات التربوية والبلديات والجمعيات الخيرية، والى حد ضئيل المؤسسة العسكرية نفسها.

 

تتمتع المؤسسة العسكرية التركية باستقلالية واضحة وصلاحيات رقابية وتنفيذية واسعة


وبالغ الجيش في تطبيق ذلك من خلال منع المظاهر الدينية، ليس فقط في الدوائر الرسمية والسياسية، بل أيضاً في بعض قطاعات المجتمع. لذلك بقيت "تركيا الحديثة" ولعقود ثلاثة منذ تأسيسها، خاضعة لحكم الحزب الواحد وتحت حماية المؤسسة العسكرية، التي تضمّ كبار الضباط الأوفياء لأتاتورك. 

وعندما قام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين في أيار 1948، كانت تركيا وإيران التي كان يحكمها الشاه، أول دولتين إسلاميتين تعترفان بإسرائيل في عام 1949. وطالما ارتبطتا معها بعلاقات ودية، وفي بعض الأوقات متوترة. واستطاع يهود تركيا مد جسر من العلاقات بين الكيان الصهيوني الجديد وبين الجمهورية التركية، مستغلين سوء العلاقات بين الدول العربية وتركيا يومئذ.
 
وفي العام 1951 اجتازت المؤسسة العسكرية التركية أول اختبار لها وحرصت خلاله على تأكيد الدور الذي آلت على نفسها الإضطلاع به، فبعد نجاح الحزب الديمقراطي الإسلامي بزعامة عدنان مندريس في انتخابات عام 1950، أصدرت الجمعية الوطنية العظمى ما عرف وقتها بـ "قانون أتاتورك" لإطلاق يد حماة العلمانية في التعاطي مع مناهضي العلمانية والأتاتوركية، وذلك في مسعى جاد لسد الطريق أمام الحكومة الإسلامية الجديدة.

وتتمتع المؤسسة العسكرية التركية باستقلالية واضحة وصلاحيات رقابية وتنفيذية واسعة، إذ يرأسها رئيس الأركان، ولا ترتبط بوزارة الدفاع، بل برئيس الوزراء من الناحية الشكلية والنظرية فقط، وتقوم باتخاذ جميع القرارات المتعلقة بالجيش (شراء أسلحة، تعيينات، ترقيات، إقالات) من دون أن يكون لوزير الدفاع أو لرئيس الوزراء أي علاقة أو تأثير في هذه القرارات، فقد طرد الجيش قرابة 1000 ضابط من أكفأ الضباط بسبب ميولهم الإسلامية، وكون زوجاتهم محجبات، في إطار عمليات التطهير السنوية التي تجريها المؤسسة العسكرية ضد "الرجعيين" من العسكريين!

 

الحدث الأبرز الذي حصل في تركيا في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، تمثل في تمكّن الإسلامي عدنان مندريس من الفوز في ثلاث دورات انتخابية نيابية متتالية


ومع أن دستور البلاد والنظام الداخلي للجيش يمنعان العسكريين من التدخل في السياسة، إلا أن شيئاً من هذا لا يطبق عملياً، حيث يستند العسكريون على تفسير خاص من جانبهم لبعض مواد في الدستور يزعمون أنها خولتهم مهمة الدفاع عن الأمن الخارجي والداخلي للبلد وعن العلمانية والمبادئ الأتاتوركية، إذ تقرر المادة الثانية من الجزء الأول من الدستور بوضوح، وهي من المواد الدستورية الثلاث المحظور تغييرها بل تقديم مقترح بتغييرها، على أن تركيا جمهورية علمانية تدين بالولاء للقومية الأتاتوركية، وأن الجيش هو المسؤول عن الدفاع عن أمن البلاد ضد الأخطار الخارجية، كما يقوم بالتصدي لأي حركة عصيان مسلحة داخلية. وقد وسعت المؤسسة العسكرية مفهوم "الأمن الداخلي"، وجعلته يشمل تقويض جميع الحركات السياسية التي تحمل أفكاراً وأهدافاً تعدها خطراً على "العلمانية" وعلى "الكمالية".

لكن الحدث الأبرز الذي حصل في تركيا في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، تمثل في تمكّن الإسلامي عدنان مندريس من الفوز في ثلاث دورات انتخابية نيابية متتالية، سمحت بإعادة بعض المظاهر الإسلامية إلى البلاد، لكن مندريس أُعدم في 1960 عندما قام الجيش بأول انقلاب عسكري ضد محاولات الالتفاف على النظام العلماني.

التعليقات (0)