قضايا وآراء

كيف نتصوَّف؟

عبد الرحمن أبو ذكري
1300x600
1300x600
يذهب جمهرة الصوفيَّة إلى أن سلوك الطريق إلى الله يلزمه شيخٌ مربي، وهو كلام فيه وجاهة (خصوصا في ظل تفشي الجهل بالشرع) وإن كان لا يَصِحُّ بإطلاق. فالسالك إلى الله يحتاج قطعا إلى دليلٍ وأسوة، ونبراس يهتدي به؛ ولهذا أرسلت الرسل وأنزلت الكُتب، لتُجير الإنسان من ضلال الهوى، ومن غواية اتباع خطرات النفس الأمارة بالسوء.

لكن الافتقاد لشيخٍ لا يعني الضياع؛ فالله أرحم بعباده ممن يدَّعون هذا. وإنما يجد السالِك الغِنَى، كل الغنى؛ في دوام الصلاة على حضرة سيدنا النبي المعصوم، صلى الله عليه وآله.. أليس هو خيرُ قدوةٍ يُقتَدَى بها وهو الأسوة الحسنة للمؤمنين جميعا؟ لذا؛ صحَّ أن دوام الصلاة على حضرة النبي تُغني عن الشيخ والمربي، شرط انتظامها في وردٍ يومي ثابت.

كذلك، فإن مما يُستعانُ به في مثل هذه الحال: وِرْدُ "سهل"؛ المنسوب للعارف بالله مولانا سهل التُستري. واسم الوِرد على مُسمى؛ فهو من أسهل ما يكون، لكنه في ذات الوقت من أشد الأوراد فعالية في النفس. يُروى أن التُستري (قدَّس الله روحه) كان يمكُث الليل طفلا يَرقُبُ خاله قائما يتهجَّد، فلما أن توطَّدت بينهما الصلة الروحية؛ أمره خاله بأن يُداوِمَ على هذا الورد ثلاث مرات، فسبعا، فأحد عشر، ثم ألا ينقطع عنه ما دام في صدره نفس يتردَّد. قال له: قل، ولو بقلبك؛ "الله معي، الله ناظرٌ إلي، الله شاهدٌ علي".

فلما بدأ إدراك سهل الطفل يتبلور بعض الشيء؛ سأله خاله: أَمَنْ كان الله معه؛ ناظرٌ إليه، وشاهدٌ عليه؛ أيعصيه يا سهل؟ فإياك إياك والمعصية بعد إدراك هذه المعيَّة. وهو درسٌ تربوي عظيم للكبار قبل الصغار: إن حُسن ودوام استحضار معيَّة الله سبحانه وتعالى يقي النفس زلاتها. فلا يُمكن أن تقع في المعصية بسهولة وأنت تستشعر قُربه سبحانه في هذه المعيَّة. لا يُمكن أن يفترسك ظلام المعصية وأنت تستضيء بنور وجوده تعالى معك، وشهوده عليك في كل شيء. إنها أسمى مراتب الإحسان؛ فأنت لا تراه رأي العين سبحانه، ولكنك تراه فعلا بقلبك وبصيرتك. تراه لأنك استشعرت حقيقة رؤيته لك، وشهوده عليك، وامتلأ روعك بوجوده سبحانه. فاللهم إنا نسألك معيَّة كمعيّةِ عبدك وكليمك موسى، عليه وعلى سيدنا أحمد السلام؛ إذ قال: كلا، إن معي ربي سيهدين.

هذه المعيَّة الكثيفة عينها هي التي تجعل العبادات اليوميَّة (الصلاة والصيام والزكاة والصدقة وبر الوالدين.. إلخ) مفاتيح ومراتب للسلوك، بل تجعلها كل الطريق إلى الله. إذ تصير الصلاة في هذا التصوّر بداية الحركة الجماعية ضد سكون الدروشة والتواكُل؛ تصير توكُّلا دوريّا تامّا ولجوءا مُتكررا إلى الله، واستعانة به تعكِسُ كمال إدراك المستخلَف لافتقاره الدائم إلى مولاه. إنها استعانة به سبحانه على النفس قبل أن تكون استعانة به على ما خلق. إنها حركة من وَحشَةِ الغفلة باتجاه أُنسِ المعيَّة؛ حركة تعرُج بها إلى الله في كل يوم خمس مرات. هذا العروج الدوري المتكرر نفسه هو الذي يُغير وجهة المجتمع، بعد أن يُعيد صياغة وجدان أفراده؛ وليس حفظ المتون الكلامية البشرية ولا استظهار الكتب الصفراء، ولا فوز حزب (علماني الجوهر!) يتمسَّحُ بالإسلام في الانتخابات، ناهيك عن أن يتحقَّق ذلك بـ"الأسلمة" المدَّعاة للنظام الاقتصادي الرأسمالي الجاحد!

إن هذه الصلاة، التي تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ لا ترفعك فحسب في مراتب السلوك، فترقى بك إلى مولاك؛ بل هي كذلك مما يمكُث في الأرض، بحسب القرآن؛ لأنها تنفع الناس. إن صلاة العارف الخاضع لربِّه تنفعُ الناس كما تنفعه، لا لأنهم بها يسلمون من لسانه ويده فحسب، إذ هي عين تحقُّق إسلامه؛ بل لأن انعكاسها على سلوكه هو دعوة إلى الله بالنفس. إنه حقيقة الدعوة إلى الله وأسمى مراتبها، كما تجلَّى ذلك في وصف أم المؤمنين عائشة (عليها وعلى أبيها السلام) لحضرة النبي المعصوم؛ أنه كان قرآنا يمشي على الأرض.

إذ لم يكُن المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى ربِّه، مُنذرا بالوحي؛ باللسان فحسب، بل أولا وقبل كل شيء مُبلِّغا بكل جوارحه ووجوده، بالمكابدة لتجسيد الوحي في كل نَفَسٍ وكل خلجة. كذا لم يكن صلى الله عليه وآله وسلم يُرسل الرسائل للملوك والحكام يدعوهم إلى الله كتابة فحسب، ولم يتوهَّم (حاشاه صلى الله عليه وسلم) القيام بواجب هذه الدعوة بحيازة تقنيات الفُرس والروم ولا مظاهر "تقدُّم"حضارتهم؛ بل كان يعرف أن طريقه الوحيد يبدأبقيام الليل حتى تتورَّم قدماه الشريفتان، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وآله وسلم. وكذا كان حال أقرب الناس إليه: ابن عمه وربيبه علي، وأبو بكر صاحبه في الغار؛ إذ كانوا من أصحاب العبادات والمكابدات، حتى أن سلاسل نسب كل الطرق الصوفية في تاريخ الإسلام لا تخرُج عنهما أبدا.

كذا فإن هذه المعيَّة الحارة تجعل من الإنفاق في سبيل الله شيئا آخر غير ما يصفه المتفيقهون، إذ يصيرُ حركة للنفس تخرُج بها من الأثرة إلى الإيثار. فأنت تُعطي بقلبك أولا قبل أن تُعطي بيدك، والعامة في مصر يصفون بعض العطاء بأنه قد "خرج من ذِمَّة المعطي"؛ أي خرج من ضميره ولا سبيل للرجوع فيه، ولو تأخرت اليد في إيداعه مصرفه. إنه عطاء جواني سابق على العطاء البراني، بل منشئ له. ثم إن هذا العطاء لا يكتمِل ولا يتحقَّق أصلا (ولو خرج من يدك) إلا إذا استكمل شرطه: "ثُم لا يُتبعون ما أنفقوا منّا ولا أذى"، وهو شرط قلبي جواني قبل أن يكون شرطا اجتماعيّا برانيّا. ومن ثم لا عجب أن يوصف حضرة النبي الأعظم، صلوات الله عليه وآله، بأنه كان أجود من الريح المرسلة؛ إذ كانت نفسه (بأبي هو وأمي) ريحا طيبة زكية سَخَتْ بكل شيء في سبيل الله، فلا يعترِض عطاءه شيء، لا قبله ولا بعده، لا جواني ولا براني. فهو عطاء من لا يخشى الفقر؛ عطاء من اكتمل تعلُّقه بالباري سبحانه حتى عَدِم في روعِه كل شيء سواه جلَّ في علاه.

هذه المعيَّة الحارَّة الموجِّهة لا لكل العبادات فحسب، بل لكل الحركات والسكنات؛ هي عين التصوف وجوهر الإحسان كما في الحديث المشهور. إنها معيَّة تُقيِّد السلوك البراني بقيود الشرع (الذي أنزله من تستحضِر وجوده سبحانه)، لكنها تُطلِق العنان للروح حتى تُحلِّق في سماوات زكيَّة لا حدود لها. إن قيود الشرع ها هنا ليست حاكما مُجرَّدا بذاته على السلوك، وإنما هي محض أداةٍ حكم بها إخلاص العبوديَّة وتمامها على عبدٍ خضع ابتداء لمولاه. هذا الخضوع الإرادي الكامل (جوانيّا وبرانيّا) هو جوهر التصوف، وهو حقيقة الإيمان، وهو اكتمال لهذا الإيمان بمرتبة الإحسان.
التعليقات (0)