كتب

سنة المذكرات في المغرب.. يساري يروي قصة التناوب السياسي

زعيم يساري مغربي يكشف جوانب مثيرة من قصة نشأة فكرة حكومة التناوب في عهد الحسن الثاني- عربي21
زعيم يساري مغربي يكشف جوانب مثيرة من قصة نشأة فكرة حكومة التناوب في عهد الحسن الثاني- عربي21

الكتاب: هكذا تكلم بن سعيد.. مذكرات آيت يذر

إعداد وإخراج: عبد الرحمن زكري
الناشر: منشورات مركز بنسعيد آيت يذر
الطبعة: الأولى، الدار البيضاء 2019

تحتفظ المذكرات السياسية للزعماء السياسيين بالكثير من الأسرار والمعطيات التاريخية والسياسية التي كان يصعب البوح بها في سياقها التاريخي نظرا لحساسية الموقف أو طبيعة الحراك السياسي الجاري، وينتظر المتابع والمراقب تواتر صدورها لكشف الحجاب عن كثير من الأحداث الغامضة أو الصفقات السرية غير المعلنة، أو على الأقل ملء بعض الفراغات في كتابة التاريخ السياسي بالمغرب أو ردم بعض الفجوات في فهم بعض الأحداث والمواقف، أو تصحيح بعض الروايات التي ظلت سائدة لفترة طويلة من الزمن.

وقد شهدت هذه السنة إصدار ثلاثة كتب تميط اللثام عن معطيات مهمة في التاريخ السياسي المغربي، ويتعلق الأمر بمذكرات عبد الرحمن اليوسفي، وكتاب محمد اليازغي عن الصحراء، ثم مذكرات محمد بنسعيد آيت يذر التي صدرت في جزءين.

 



وتتميز مذكرات محمد بنسعيد آيت يذر بأهمية كبيرة، كونها صدرت عن زعيم سياسي تاريخي، كان من بين رجال جيش التحرير، وزعماء الحركة الوطنية، ورفيق درب كبار مناضلي وزعماء السياسة في المغرب، وصار من أعتى مناضلي اليسار المغربي، ومؤسس منظمة العمل الديمقراطي، التي شكلت مكونا أساسيا من مكونات الكتلة الديمقراطية. غير أن الأهمية القصوى لهذه المذكرات تكمن في حجم الجدل الذي أثارته، والحيثيات التي كشف عنها، مما يرتبط بالخلافات العميقة في قضايا النضال الوطني في العديد من المنعطفات الحاسمة في تاريخ المغرب.

من اليتم إلى أحضان الحركة الوطنية

يحكي محمد بنسعيد آيت يذر فصولا من حياة طفولته، بدءا بمرحلة اليتم وفقد الأم، وزواج الوالد بامرأة حضرية غيرت تقاليد وأعراف العائلة البدوية المتأثرة بحياة الفلاحين وبيئتهم، ويذكر جانبا من حرص والده على تعليمه الديني، وكيف أسهم ذلك في حفظه القرآن بأكثر من قراءة، وكيف كان يخضع للعنف والتعذيب من طرف فقيه الكتاب القرآني من أجل حفظ القرآن. ففضلا عن نشأته الدينية، كانت عائلة آيت يذر ميسورة، وكانت علاقاتها بالمخزن وطيدة بفضل المصاهرة. 

ويذكر في الفصول الأولى لمذكراته، التحاقه بالحركة الوطنية ممثلة في حزب الاستقلال، ورحلته إلى الرباط للقاء مسؤولي جريدة "العلم" التي كان يديرها حزب الاستقلال، وأنه كان يود أن يقترح عليهم أن يكون مراسلا لهم في منطقة الجنوب، ينقل أخبارها وفعالياتها النضالية. وكيف اضطر إلى الرجوع إلى قريته بعد أن اندلعت الشرارة الأولى للعمل المسلح للحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي.

ويأسف المناضل اليساري آيت يذر عن الصفقة التي تمت بين القصر وحزب الاستقلال لتشكيل الحكومة الأولى، ويعتبر أنها كانت ضربة قوية للحركة الوطنية، لأن حزب الاستقلال حينها كان يمثل القوة السياسية الأولى، لكن مع ذلك استطاع القصر أن يعين اثني عشر عاملا من عمال الأقاليم، كلهم إما ضباط سابقون في الجيش الفرنسي، أو رجال ابن عرفة الذي تواطأ مع الاستعمار ضد العرش وضد الحركة الوطنية. 

 

نقل جثمان عباس المسعدي من الحسيمة إلى فاس في انطلاق شرارة التوتر في المنطقة


ويذكر أن من ثمرات هذه الفترة العصيبة التي أخطأت فيها الحركة الوطنية حساباتها أن الزعيم علال الفاسي تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة سنة 1956. كما يروي بنسعيد حدث تعرضه لمحاولة تصفية جسدية سنة 1957 لما كان في اجتماع مع بعض قيادات جيش التحرير، يستعرض سبل القضاء على العناصر التخريبية التي اخترقت جيش التحرير، وتعمل للإطاحة به، وكيف قام بنسعيد الصغير بتوجيه طلقات نارية إلى الذين حاولوا تصفيته، لينجو بأعجوبة من هذا الحادث. 

واستعرض في مذكراته جذور مشكلة الريف، وكيف ساهم نقل جثمان عباس المسعدي من الحسيمة إلى فاس في انطلاق شرارة التوتر في المنطقة، وكيف دخل الجيش الملكي على الخط بعد أن كان على الحياد، وكيف لعب ولي العهد حينها ـ الملك الحسن الثاني ـ والذي كان يمثل رئيس أركان الجيش، دورا أساسيا في تأجيج الأوضاع بعد أن أمر بقمع التظاهرات بعنف شديد.

أحرضان وجيش التحرير

من المثير في مذكرات آيت يذر أنه كشف عن معطيات تنفي ما سبق أن ذكره الزعيم السياسي المحجوبي أحرضان حول علاقته بجيش التحرير، إذ ذكر في روايته أن أحرضان لم يسبق له أن انتمى يوما ما إلى جيش التحرير، أو كان واحدا من رجالاته. وكل ما في الأمر أن إسمه أعْطِيَ في وقت من الأوقات لقيادة الجيش بتطوان على أساس الاتصال به من طرف الفقيه الفكيكي وسعيد المنوزي بالبيضاء بإحدى مقاهي عين الذئاب. وكان الغرض أن يلحق بالجيش باعتباره ضابطا. فطلب معاودة الاتصال به من بعد".

التعذيب والمحاكمة


ويروي شيخ اليساريين بالمغرب، طرفا من محنته، بسبب اتهامه بالضلوع في محاولة اغتيال ولي العهد الحسن الثاني رحمه الله، بوضع قنبلة تحت المنصة التي كان سيجلس فيها في الملعب الشرفي، حيث كان سيشاهد إحدى المباريات الكروية، وكيف تم توظيف شهود زور ضده اعترفوا فيما بعد له بأنهم شهدوا بإيعاز وضغط من ولي العهد، فتعرض آيت يذر للاعتقال والاستنطاق وتم حبسه لمدة شهرين دون محاكمة. 

ويرى آيت يذر أن الهدف من فبركة هذا الحادث واتهام زعماء الحركة الوطنية، كان هو الانقلاب على حكومة عبد الله إبراهيم وحل جيش التجرير بالجنوب، وتغيير موازين القوى لغير صالح الحركة الوطنية الديمقراطية. ويحكي آيت يذر طرفا من مؤامرة 23 تموز (يوليو) 1963، حيث كان يعتزم النظام السياسي اعتقال زعماء الحركة الوطنية، وكيف قام بتنبيه الفقيه البصري بذلك، فتعلل بكونه لا يستطيع الخروج من الوطن حتى يستكمل الاتصالات التي برمجها، في حين اختار آيت يذر الفرار من مطاردة البوليس له والاتجاه نحو الجزائر، ويروي كيف أقدم النظام بعد رجوع الملك الحسن الثاني من سفره إلى فرنسا على اعتقال الفقيه البصري وعمر بن جلون وحكم عليهما بالإعدام، بينما حكم على آيت يذر بالإعدام غيابيا نظرا لوجوده بالجزائر.

آيت يذر وبن بركة والخلاف حول الجزائر

يحكي المناضل اليساري طرفا من رغبة الملك الحسن الثاني إنهاء التوتر، وكيف أرسل مبعوثا إلى المهدي بنبركة في الخارج، يعرض عليه المشاركة في حكومة يرأسها بنفسه، ويكشف عن لقاء جمع آيت يذر بابن بركة في جنيف، استفسره عن حقيقة عرض الملك، فأخبره الزعيم الاتحادي بقبوله لدعوة الملك والرجوع للمغرب، على أساس تعهد ملكي بالقيام بإجراءات تتجه بالمغرب نحو نظام ديمقراطي ومؤسسات قوية.

وقد أبدى آيت يذر في البدء امتعاضا من موقف بن بركة من الجزائر، غير أنه تفهم موقفه، وأقر بأنه كان يتبنى رؤية شمولية، إذ لم يكن من الممكن أن يقطع علاقته بالجزائر، وهو يقدر بأن هدف الامبريالية هي القضاء على حركات التحرر الوطني في المنطقة، وأنه بعد التخلص من جيش التحرير في المغرب، بحل قيادته في الجنوب، لم يبق من حلقات حركة التحرر الوطني سوى الجزائر، وأنه لم يكن من المفيد التضحية بها هي أيضا.
 
العمل الثوري بأجندة عسكرية والخلاف مع الفقيه البصري

كما يحكي آيت يذر في مذكراته الخلاف الذي ثار بينه وبين الفقيه البصري حول الخط الثوري للاتحاد، وكيف قامت وساطة اليوسفي وبوعبيد في فرنسا للمصالحة بينه وبين الفقيه البصري، إذ كان القصد من هذا اللقاء توحيد الخط السياسي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وصياغة مفرداته، بعد أن أصيب بازدواجية قاتلة، إذ يبدو في الظاهر سلميا يتوسل العمل السياسي من داخل المؤسسات، ويشتغل على الأرض بنفس ثوري يتبنى العنف والعمل العسكري. ويحكي آيت يذر كيف فشل اللقاء بعد أن اقتنعت القيادة بوجهة نظر الفقيه البصري، في الإبقاء على هذه الازدواجية مما اضطر آيت يذر للانسحاب والتفكير في نواة سياسية أخرى للعمل.

ويذكر بنسعيد مرحلة اللجوء التي قضاها في فرنسا، وكيف أراد التحايل على فرنسا باستعمال اسم مستعار، ومحاولة الاشتغال بعقد مع السفارة العراقية لنيل عشر سنوات من الإقامة، وكيف تفطنت الإدارة الفرنسية لذلك، وعرفت هويته، ومنحته مع ذلك بطاقة الإقامة لسنة قابلة للتجديد.

صفقة اليوسفي والحسن الثاني

ولم تفت المذكرات أن تستعرض محطة الاستفتاء على دستور 1996، وهي النقطة الخلافية التي تسببت في تصدع الكتلة الديمقراطية، ووصول أثر ذلك إلى البيت الداخلي لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي. واستعرض سياق تشكيل حكومة التناوب، مبديا رأيه في التنازلات التي قدمها حزب الاتحاد الاشتراكي، في مقابل التنازلات الشكلية التي قدمها الملك الحسن الثاني، معتبرا هذه المحطة مغامرة ومقامرة انجرت إليها الكتلة الديمقراطية، حيث قدمت للحكم شيكا على بياض، فصوتت على الدستور، وقبلت بقواعد اللعبة التي فصلها الحكم، بالاتفاق على تناوب مغشوش مزيف بني على أسس غير سليمة حسب رأي أيت يذر.  

وعلى الرغم من انتقاده لهذه الصفقة حسب توصيفه واعتبارها من الأخطاء القاتلة التي ستدفع الحركة الوطنية ثمنها غاليا، إلا أنه أقر في مذكراته بأن حكومة التناوب لعبت دورا أساسيا في الانتقال السلس للسلطة من الحسن الثاني إلى الملك محمد السادس.

رجل رفض التصويت لفائدة الدساتير، ورفض تقبيل يد الملك 

ويروي آيت يذر في مذكراته سياق رفضه التصويت بنعم على الدساتير التي عرفها المغرب منذ سنة 1962، وكيف خالف مكونات الكتلة الديمقراطية في الموقف من دستور 1996، وصوت ضده خلافا لزعماء الاتحاد والتقدم والاشتراكية وحزب الاستقلال، كما يحكي قصته مع الملك الحسن الثاني، وكيف رفض تقبيل يده واكتفى بالتسليم عليه في المرة الأولى على كتفه، مما  اضطر الملك للسؤال عن اسمه،  وأنه بسبب ذلك دعا البصري إلى استفساره ودعوته إلى احترام البروتوكول والتقاليد المرعية، وأنه رفض في المرة الثانية تقبيل يد الملك، وفعل نفس الأمر الذي فعله في الأول، مما اضطر الملك لمخاطبته بضرورة مراعاة التقاليد المرعية في لقاء الملك، وأنه اكتفى بالاستماع إليه، والاحتفاظ بقناعته التي تتأسس على فكرة رفض تقبيل يد الملك بدافع من حفظ الكرامة ورفض الذل.

التعليقات (0)