كتاب عربي 21

"فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ": آلات تخسيس أوزان الأقوام والشعوب

أحمد عمر
1300x600
1300x600

كان وزن الشعوب العربية الحضاري ينقص يوماً بعد يوم، إثر نشوء الدول الوطنية بعد الاستقلال. لم يسبق أن فقدت وزنها السياسي كما هو الآن، كما في مصر وسوريا والسعودية، وكانت شعوباً قائدة، وُكِّلَ بها زعماء ناضلوا في سبيل تخفيف وزنها الحضاري، بتضخيم أوزانهم إعلامياً، فكلـهم ذو هـمـة... شمـاء جبـار عنـيـد، ولم يكن وزنها بهذه الخفة حتى تحت سنابك الاستعمار. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال تردّي الحضارة والعملة والأخلاق خلال خمسين سنة من الصوم القاسي عن الكرامة تحت اسم الوطنية، وهو ما أوصلنا إلى عصور وزن الريشة وغثاء السيل تحت جِزم السيسي والأسد وابن سلمان.

إنقاص وزن البدين ليس سهلاً.. تخفيض أوزان الشعوب يحتاج إلى زمن تخمير وإلى عنفين؛ رمزي دائم يومي، وعنف حقيقي مؤسس. وقد استغرق الأمر نصف قرن حتى أمسى الشعب السوري هيكلاً عظمياً، بتوالي الطغيان، وقد رزح نصف قرن تحت قانون الطوارئ والأحكام العرفية، ولا معنى للتصويت في صناديق الاستفتاء سوى الصورة في التلفزيون، فهو عرس أو ذكرى يريها الرئيس لرؤساء العالم، آية لقدرته على ترويض شعبه. الدستور لا يُذكر في الإعلام إلا كل سبع سنوات، عند إعادة الاستفتاء الذي يفوز فيه الرئيس بنسبة عظمى، وهو أحد آلات تخسيس الشعب، وتعزيز الرئيس. وقد بلغت خفِّة وزن الشعب السوري أنّ رئيس التجانس أمسى يقتل يومياً ما بين الخمسين والمئة علناً، وسراً مثلهم أو أكثر تحت التعذيب، والعالم ما زال يجمع الأدِّلة حتى أنها بلغت مليون دليل، لكن من غير محكمة.

 

تخفيض أوزان الشعوب يحتاج إلى زمن تخمير وإلى عنفين؛ رمزي دائم يومي، وعنف حقيقي مؤسس

آلات تخسيس وزن الشعوب معروفة أشهرها عشرة آلات وصفها نعوم تشومسكي، وأول العشرة هي: آلة الإلهاء، وأشهر الملهيات الدراما والمباريات وبرامج الإضحاك وأخبار الفضائح. وقد ضعنا في فستان رانيا، وثارت ثائرتنا من أجل حبيبة ساسوكي التي كادت أن تصيح وامعتصماه. الآلة الثانية هي خلق المشكلة، والمجتمع الدكتاتوري لا يحتاج إلى خلق مشكلة، فهي رعيّة شقاء وأشغال شاقة. المشاكل تتوالد ذاتياً مثل تكاثر الدود في المزبلة، وهي رعيّة حاجة دائماً، والرئيس يتطوع في النهاية لحلها مع إنه مشغول دوماً بالبحث عن التوزان في الصراع الاستراتيجي، فيظهر كبطل ساحر بريء طاهر يقود شعباً لا يشبع ولا يستحق زعيمه العظيم.

الآلة الثالثة هي التدرج، وقد حذفت بالأمس صحيفة مكّة (اسمها من غير صفة المكرمة أو أم القرى مثلاً) خبر اعتبار 40 مجاهدا، أكثرهم شهداء، إرهابيين، بعد سخط شعبي، وجرى إيقاف مسلسل غرابيب سود قبل سنة في فضائية "الغرابيب الورديين"، لكن ما يبثّ اليوم أسوأ بكثير، ومن تأليف عمال المخابرات من الكتاب والأريسيين في فضائيات سوريا والفضائيات العربية، فحيثما تلفتّ وجدت مسلسلاً يجعل الدعاة أسّ الفساد، وهذا يعني أن المجرمين أئمة وهداة.

 

المجتمع الدكتاتوري لا يحتاج إلى خلق مشكلة، فهي رعيّة شقاء وأشغال شاقة. المشاكل تتوالد ذاتياً مثل تكاثر الدود في المزبلة

الآلة الرابعة هي التأجيل والتأميل والوعد، وما مواعيد عرقوب إلا الاباطيل. وقد وعد عرقوب السيسي بأن الأمور ستتحسن في شهرين، ثم في سنتين، ثم في أربع، وها هو ذا قد مدّد لنفسه إلى الأبد، حتى يفي بما وعد، وربما يورِّث ابنه ملك مصر، لكن من غير الأنهار التي بنت عليها الحبشة سدّاً، وبنى السيسي على أعين المصريين سدّاً فأغشيناهم فهم لا يبصرون.. إعلام الأسد كان يكرر ولا يزال قائلاً: خلصت.. والحرب مستمرة. الأمل من الملهيات. قال الله تعالى: "ويلههم الأمل".

الآلة الخامسة هي تطفيل الشعوب وجعلهم عيالاً يسعون وراء حاجياتهم الأساسية، من طعام وكساء ومواصلات، ببطاقات ذكية تحولهم إلى أغبياء.. السيسي صار أباً للشعب المصري في أيام معدودات، وهو يشكو كثيراً أنه يطعم 90 مليون مصري (من كدّه وعرق جبينه). تأخر وصف بشار الأسد بالأب، فالأب القائد ما زال قائداً وإن كان ميتاً، ومؤخراً شاع لبشار وصفٌ هو الأخ الكبير.

السادسة هي استخدام الميلودراما رئاسياً أو ملكياً، أي أن يمثّل الرئيس بالصوت والصورة دوراً استعطافياً يستدر حنان القلوب. والسيسي ممثل جيد، وله جمل شهيرة: انتو نور عينيا، يا ريت كنت أنا.. وهو يبكي أحياناً، أما الأسد فهو يجتهد في الجانب الفلسفي، المهم هو تغييب العقل والمنطق.

 

السيسي صار أباً للشعب المصري في أيام معدودات، وهو يشكو كثيراً أنه يطعم 90 مليون مصري (من كدّه وعرق جبينه). تأخر وصف بشار الأسد بالأب، فالأب القائد ما زال قائداً وإن كان ميتاً

السابعة هي سلب عقول الجماهير وتعميم الجهل والغباء، وزرع الأباطيل، مثل تهمة الإرهاب والدعارة، ونكاح الجهاد الحور العين، وإفساد التعليم، وتشجيع الرذيلة..

الثامنة هي دفع الجماهير إلى الرضا بالسلامة، والاكتفاء من الغنيمة بالإياب حتى تحولت جملة "كنا عايشين" إلى شعار وأمل قديم، و"مش أحسن ما نكون زي سوريا والعراق". وقد رأينا في مصر الجماهير تتناهب كرتونات السلة الغذائية التي كان يعيّر بها الإعلام المصري الشعبَ السوري، والتي وزعت كرشوة استفتاء على دستور التمديد للسيسي في غيّه.

التاسعة هي تحويل الثورة إلى إثم وذنب تستحق الكفارة، فالربيع العربي مؤامرة ومأساة واسمه الربيع الإسرائيلي أحياناً، والخريف العربي أحياناً. وأن يعض الشعب العربي أصابع قدميه ندماً.

العاشرة هي استحواذ السلطة على مصادر المعرفة بأحوال الشعب فرداً فرداً؛ علاقاتهم ونقاط ضعفهم، وهي تستطيع ليّ أذرع كبار قادتهم وصغارهم أيضاً.

 

تحويل الثورة إلى إثم وذنب تستحق الكفارة، فالربيع العربي مؤامرة ومأساة واسمه الربيع الإسرائيلي أحياناً، والخريف العربي أحياناً. وأن يعض الشعب العربي أصابع قدميه ندماً

هناك آلة مهمة، وهي التي قالها وزير الإعلام النازي جوزيف غوبلز: "اكذب ثم اكذب ثم اكذب".. التكرار يصقل الكذبة كما تصقل المياه الحجارة ويدوّرها، فتجد "خير أجناد الأرض" و"أجناد الشام" يعملون على جبهات السخرة عند الضباط، فلاحين أو عمالاً، وتنسب إليهم بطولات كاذبة مثل اعتقال قائد الأسطول السادس الأمريكي، أو تطهير البلاد من الشعب كما في سوريا. والدولة تشق قناة السويس التي ستدرُّ مليارات الدولارات، وتكشف آمالاً كاذبة بزعم العثور على آبار النفط والغاز والأمور ستصبح عسلاً، والكفتة السحرية التي تشفي من الإيدز، وأخبار مثل شجرة الجوز التي تثمر عنباً التي ظهرت في سوريا، وجثث معارضين وأسلحة كيماوية في منصة المعارضة في رابعة، كل هذه من كرامات الرئيس.

هناك أمر أهم من كل هذه الآلات: وهو قتل القادة والمربّين أو سجنهم أو نفيهم أو إخراسهم، أو شراء الكبار بقبائلهم في تويتر وفيسبوك ببعض الترهيب أو الترغيب، وإبدالهم بقادة فاسدين من نجوم سينما أو مهرجين، وهي مجتمعات أمنية، تمنع التعبير. وتتحدث الباحثة الألمانية إليزابيث نويل- نيومان؛ عن نظرية "دوامة الصمت"، وهي تحويل الشعب إلى ببغاوات يكررون كلام الإعلام، كما نرى في البرامج الكوميدية عند تكرار مفكرين وفنانين لأقوال المخابرات في الفضائيات، فتتحول بأصواتهم إلى حقائق، والناس تهضمها إما للقبول الاجتماعي أو خوفاً من العقاب. وللنظرية هذه ثلاث وسائل؛ هي التكرار، والشمول بعرضها في قنوات ووسائل الإعلام والشاخصات الطرقية. والثالثة هي التجانس، وهي بتوافق وسائل إعلام عالمية ومحلية على ترويج هذه السلعة الإخبارية.

 

هناك أمر أهم من كل هذه الآلات: وهو قتل القادة والمربّين أو سجنهم أو نفيهم أو إخراسهم، أو شراء الكبار بقبائلهم في تويتر وفيسبوك ببعض الترهيب أو الترغيب، وإبدالهم بقادة فاسدين من نجوم سينما أو مهرجين

سبب خسّة قوم فرعون الأساسية في ميزان القرآن الكريم: إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ. وأعراض الفسق كثيرة أحدها السكوت عن الباطل، فكيف بالتصفيق له؟

سبب نزول وزن الشعوب الأساسي هو قلة الإيمان بالله، أو حتى بوطنهم وأنفسهم. تنزيل وزن الشعوب عكس تنزيل وزن الأفراد، فوزن الشعوب ينقص بزيادة الطلب على الأكل بينما وزن الفرد يزداد بزياد الطعام.

التعليقات (2)
حنفي الغلبان
الخميس، 20-06-2019 10:15 ص
الحقيقة أن ما قاله الاستاذ أحمد صحيح حول أن غوبلز هو صاحب المقولةالشهيرة: “اكذب ثمّ اكذب ثمّ اكذب حتّى يصدّقك الناس” . لكن نفس هذه المقولة متبناة حالياً لدى الدول المؤثرة في العالم عبر تصريحات السياسيين و في الإعلام حيث هنالك كمية هائلة من الكذب لخداع الناس . بالطبع ، بلدان العالم الثالث لديها سياسيون يكذبون من دون اتقان "أي كذب مكشوف" و أجهزة الإعلام فيها من صحافة و تلفزة تقوم بتسييرها أجهزة المخابرات "أوكار الدجل و الانحطاط " ... تم الارسال من جهاز سامسونج !!!!!!!!!
Ahmed
الثلاثاء، 14-05-2019 01:48 م
جوبلز لم يقل المقولة التي ذكرتها في المقال بل علي العكس كان يتحري الدقة والمصداقية علي عكس الحلفاء