مقالات مختارة

أحسن من مصير مصر: شعار المرحلة الجديدة

يحيى مصطفى كامل
1300x600
1300x600

في مشهد ملحمي مهيب بقدر ما هو مدهش ومزلزل، وصل ما سُمي بقطار الحرية من مدينة عطبرة، مهد الثورة، إلى الخرطوم، محملا بآلاف الثوار الذين إذ لم يسعفهم الاكتظاظ داخله، والتشبث مندسين عبر نوافذه اعتلوه، ليستقبله ثوار الخرطوم في محطة بحري الرئيسية للقطارات. وصل ثوار عطبرة ليكملوا ما بدأوه، خاصة مع بوادر محاولات إعادة إنتاج السيناريو نفسه، الذي شهدوه في دول الربيع العربي المجاورة (مصر بوجه أخص) كما تدل عليه شواهد اللعب والمناورات، التي لم يلبث المجلس العسكري أن يسلك طريقها.

بالإضافة إلى كون مشهد الدخول في قطار يحتفظ بمكانة خاصة في ذاكرة الثورة الجمعية، حيث يستحضر للأذهان عودة لينين من منفاه في قطار مصفح مصمت عام 1917، فإن مجمل سير وأحداث الثورة في السودان محمل بالرمز والدلالة، كما يشكل اختبارا لنا، ثوارا وشعوبا ومتابعين: هل تعلمنا من دروس الثورات القريبة؟ بدرجة كبيرة نعم. ثمة تطور أو خطاب هو الأهم في نظري، ذلك الاستيعاب العميق لدى الجموع السودانية لتجربة الثورة المصرية المغدورة، وسياق المناورات والتحالفات الخاطئة، وفساد منهج التحليل الذي أدى إلى خطأ جسيم ومكلف في فهم دوافع وانحيازات الطبقات، ودور المؤسسة العسكرية في الحساب الختامي، ما أدى في النهاية إلى تقويض الثورة وهزيمتها، بالإضافة بالطبع إلى الخطيئة الكبرى المتمثلة في التركيز على أولويات خاطئة، ارتفعت بصلف عن المطالب الملحة والحقيقية للجماهير الثائرة، لخلافات على الهوية لا تكترث الغالبية بها ولا تعبأ.

كما استوعب ثوار السودان دور رأس المال الخليجي، الرجعي بامتياز، الذي جرّ أبناء السودان قبل ذلك إلى حرب مكلفة لا نهاية لها في اليمن، وها هو يحاول أن يثبّت العسكر في السلطة، على غرار ما حدث في مصر. فمن ناحية بين مطرقة تدهور الأوضاع المعيشية، وتفشي الفساد، ومصادرة المجال العام والقمع السياسي، أي انسداد طرق الإصلاح، ما جعل الثورة طريقا وحيدا للحرية، ومن ناحية أخرى الخوف والحذر من فشل الثورة، انكسرت معادلة أو فزاعة «أحسن من أن يكون مصيرنا كمصير سوريا والعراق» ليصبح شعار الناس في السودان «لن يحكمنا سيسي جديد».

حاجز خوف آخر انكسر في السودان بسقوط ذلك الشعار، لقد أدرك السودانيون وبرهنوا على أنه ما استمر بقاء الظرف الموضوعي من الصراع وانسداد أفق التغيير فإن شرارة تكفي لإضرام ذلك البارود مفجرة ثورة، على الرغم من القمع. قد يصعب التنبؤ بأين وكيف ومن سيلقي تلك الشرارة، قد يكون شابا يشعل النار في نفسه احتجاجا أو رفع سعر الخبز، إلا أن ذلك الهشيم لن يلبث أن يشتعل بجنون، وحينذاك لم يعد مصير سوريا والعراق ليخيفه، بل الهاجس المتسلط عليه هو الافتقار إلى القيادة أو تصدر قيادة ذات أفق إصلاحي، جل ما تطمح له بعض المكاسب التافهة والتنازلات من النظام، قيادة بطبيعة تكوينها ومحدودية رؤيتها تعجز عن الرقي إلى مستوى الحدث والمطالبة باجتثاث جذري للنظام، تؤدي إلى هزيمة الثورة وإحكام المؤسسة العسكرية قبضتها على السلطة غرارا بما حدث في مصر.

ملمح آخر فائق الأهمية برز في الحراك الثوري السوداني ألا وهو تفجره في عطبرة، أحد أهم معاقل العمل النقابي تاريخيا، أي أننا أمام ثورة فجرتها الطبقة العاملة في الأساس، وشكلت وقودها وقوتها الدافعة، ومن ثم اندفعت تدافع عنها لئلا تحيد عن المسار الثوري، وبالتالي فإن لنا أن نتحدث بثقة عن تبلور وعي طبقي ثوري في السودان، أدى إلى إسقاط نظام استمر بالحديد والنار ثلاثة عقود، وعي طبقي وصل التاريخ وميراث العمل النقابي واليساري بالحاضر المحاصرة فيه السياسة بالمستقبل الثوري.

وهم آخر انكسر بثورة السودان: إن ما حدث في 2011 لن يتكرر، بل هو وهم الأوهام. باختصار نحن أمام طبقة حاكمة رثة ومفلسة تماما تعدم الفهم وتفتقر إلى الخيال، لا ترى دواء للانفجارات التي يؤدي إليها القمع والإفقار، سوى المزيد من القمع والإفقار.

لم تهز ثورة السودان الطبقة الحاكمة والمؤسسة العسكرية وتربكها فحسب، وإنما صعقت وأرعبت الأنظمة الإقليمية، وفي مثال صارخ على تضامن الرجعية هرع السيسي ليعضد المجلس العسكري، متناسيا خلافات النظام الطويلة والمرارة الراسخة مع النظام السوداني. يقينا، لم تعد أنظمة «احسن من مصير سوريا والعراق» وما تعرضه من مكاسب سلبية صالحة، فكل ما توفره هو «انعدام الفوضى» و»انعدام الحرب الأهلية والتهجير» لا مكاسب إيجابية وحقيقية كالتنمية والرخاء القضاء على البطالة والحرية على غرار دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة.

تتعلم الشعوب من تجاربها وتجارب الشعوب الأخرى، خاصة المحيطة بها، التي تربطها بها أواصر التاريخ والجغرافيا. لقد أدرك السودانيون إشكالية الثورة المصرية، تعلموا. لا يعني ذلك أن الثورة هناك قد عبرت إلى بر الأمان، فالمجلس العسكري يناور بدعم إماراتي- سعودي- مصري ويحاول تهميش المدنيين والالتفاف على الثورة.

هذا وقت للتحليل الطبقي العميق والنظر في التحالفات والاسترشاد بدروس تاريخ الثورات، والتخلي عن أي وهم بالوفاق مع نظام البشير أو قلبه العسكري، مهما قيل عن طهارة يد بعض الأشخاص، فالمشكلة في طبيعة المؤسسة ودورها لا شخوصها فقط. وقت لحساب الخطى بدقة، فأي زلة أو خطوة هوجاء قد تكلف ثمنا فادحا، ولئن لاح فجر التحرر براقا فإن الهزيمة والثورة المضادة لم تزل ممكنة.

عن صحيفة القدس العربي

0
التعليقات (0)

خبر عاجل