قضايا وآراء

ثورات الربيع والتغيير

مسعود حامد
1300x600
1300x600
ارتبط الربيع العربي وثوراته بظروفه المجتمعية وشروطه التاريخية التي أفرزته، وبثقافات شعوبه التي أنجزته، وهي ليست سواء، فبدا كشمعة ما لبثت في فترة زمنية قصيرة تقاوم لأن لا تنطفئ.

ورغم أن القارئ لمسيرة لاصطلاح الثورة يلحظ تطوره عبر مراحل مختلفة، فكان يقصد بالثورة في البداية معارضة الظلم أو إعلان السخط ضد الحاكم، ثم أخذت بعد ذلك مدلولاً سياسياً، ثم تطور ليشمل حزمة من المطامح السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، فإن الغالب على آل الربيع العربي هو السياسي والاقتصادي فحسب.

لم تعد الثورات تستهدف مجرد تغيير الفئة الحاكمة ونظمها، بل تحقيق تغيير جذرى في الأوضاع كافة. إنها فعل شعبي عفوي تلقائي غير منظم يطمح إلى إحداث تغيير جذري شامل، لا كالانقلاب الذي هو فعل منظم تنفذه مجموعة لها قدرات عسكرية وتنظيمية للسيطرة على السلطة والحكم من خلال إزاحة الممسكين بها والحلول محلهم.

الثورات تستمد شرعيتها من قدرتها على الاستمرار كبديل يضيء وجود الناس في حياتهم اليومية، ويتماشى مع رغباتهم ودوافعهم، ويلبي احتياجاتهم، سواء كانت سياسية أو ثقافية أو اجتماعية أو حضارية. 

لكن المشكلة تكمن في أن الثورات ذات البعد الأوحد عادة ما تكون ملغمة بالخيانة، ومنطوية على الغدر، إلا ما رحم ربي. ويخبرنا التاريخ أن الثورة الفرنسية شهدت قطع أعناق ستة ملايين من الشعب الفرنسي وعدد من زعمائها وخطبائها، مثل دانتون وروبسبيير وغيرهما، والثورة الإيرانية سرعان ما انقلب فيها رجال الدين من "الملالي"، بزعامة الخميني، على حلفاء الأمس من اليساريين والليبراليين، ليُعدَم البعض ويفرّ آخرون خارج البلاد. كما أن الثورة الروسية سرعان ما أفرزت، بعد وفاة لينين، مُنظّرِها وقائدها الأساسي، نظاما إجراميا بزعامة ستالين، نصب المشانق لرفاق الأمس ونظم محاكمات موسكو الشهيرة، ونفى إلى "الجولاج" العديد من الثوريين والمنشقين ورفاق الثورة.

لا تنطلق الثورات من عالم القانون وعالم المثال والما ينبغي وعالم ما يجب أن يكون، لا ماهو كائن، و تحكم بقوانينها الخاصة، ولا تُحكم بقواعد قانونية سابقة عليها.

ويقول التاريخ إن ثورة لم تسلم من عنف (إلا ما رحم ربي)، حتى تلك الثورات التي رفعت شعارات سلمية سلمية لم تسلم هي الأخرى من ممارسة تجنح، ولو كانت اضطرارية ودفاعا عن النفس، إلى العنف.

ومع ذلك كله، تظل الثورة عملية مفصلية في تاريخ الأمم والحضارات، وحدثا نوعيا يفرد سلطته ونشوته على كل الميادين، وتفرز قيما ومشاعر مبهرة، كالتضامن والأخوة والتضحية والمصير المشترك، وتؤثر في الناس تأتير الأديان. 

وكما يقول بيجوفتش: "إن كلا من الدين والثورة يولدان في مخاض الألم والمعاناة، ويحتضران في الرخاء والرفاهية والترف.. حياة الدين والثورة تدوم بدوام النضال والجهاد، حتى إذا تحققا يبدأ الموت يتسرب إليهما".

الثورة والتغيير المنشود

إن التغيير الاجتماعي الذي يمثّل أقصى ما تتمناه ثورة هنا أو هناك؛ لن يتعدى مجموعة النظم الحاكمة لمعيشة الأفراد في مجملهم، لكن من المستحيل أن تتغير الأنظمة الأخلافية والسلوكية والمعرفية والتوعوية في ذات المجتمع بواسطة تلك الثورة.

 فالتغيير بطبيعته ظاهرة عامة مستمرة تحدث من خلالها اختلافات وتعديلات في العلاقات الإنسانية أو القيم الاجتماعية، أو الأدوار والمراكز والأفراد وقانون الوجود، وعلى هذا النحو ينصبّ على كلّ تغيير يقع في التركيب السكاني للمجتمع، أو في بنائه الطبقي، أو نظمه الاجتماعية، أو في أنماط العلاقات الاجتماعية، أو في القيم والمعايير التي تؤثر في سلوك الأفراد، والتي تحدد مكاناتهم وأدوارهم في مختلف التنظيمات الاجتماعية التي ينتمون إليها. 

الثورات، لا سيما في بلاد الربيع، تركز على ما هو هيكلي ومؤسساتي وخارجي، متجاهلة ما تراكم من منظومات إدراكية ومعرفية وقيمية في عموم الذين كانت لهم الثورة أصلاً، فيظل الارتداد قائما ومحتملا.

ومع ذلك، فلن نحاسب الربيع العربي على ما فعله فيما هو جواني من وعي وإدراك ورغبات للتغيير، وإلا لساويناه برسالات الأنبياء، وألغينا المسافة بين الثائر والنبي، فصيرنا عبثا الثائر نبيا والنبي ثوريا.

إن أية ثورة مهما تسامت وعلت لا يمكن أن تقوم بدور الدين في التغيير الجواني والبراني معا؛ لكل مفردة من مفردات الحياة الواقعية والوجودية لذلك الإنسان الذي قد يقوم في أحد مراحله بدور الثائر.

فالدين يربي الثائر المصلح لغيره والصالح في ذاته، وما لم يكن مغيرا ومصلحا فلا معنى له.. لا بد أن يكون صالحا ومصلحا ليؤهَّل للتغيير، وإن كان مستضعفا: "إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرا" (النساء: 97). فكونهم "مستضعفين في الأرض" لا يعفيهم من مسؤولية التكليف بواجب التغيير للظلم؛ وذلك لأن منطقهم الاستسلامي هذا يعاكس إرادة الله في الأرض. إرادة الله أن تكون القيادة والإمامة للمستضعفين في الأرض، وأن تكون لهم وراثة ما في حوزة أوطانهم وإملاكها من ثروات ومقدرات وعلوم وإمكانيات.

إن المسؤولية في التغيير تقع على العوام والدهماء والكبراء، وصاحب الكوخ وصاحب القصر، وليست مبررة أبدا قلة الحيلة وعنف المستبد، أو بعد المسافات.
التعليقات (0)