قضايا وآراء

ثورة 1919 في مرآة ثورة يناير

أميرة أبو الفتوح
1300x600
1300x600
كان الشعب المصري دائماً سبّاقا في ثورات الشعوب ضد الطغاة والمستبدين، سواء كان محتلا أجنبيا أو حاكما من بني جلدته.. والذين يتهمون الشعب المصري بالرضوخ للظلم والاستبداد، والخنوع والرضا بالمذلة والمهانة من أجل لقمة العيش، أو الخوف من البطش والتنكيل الذي تمارسه قوات الأمن، فإنما يظلمونه ظلماً بيناً. وارجعوا إلى تاريخه المفعم بالثورات والانتفاضات ضد المحتل الأجنبي، بمختلف أشكاله وألوانه، الذين حكموه بالحديد والنار فجعلوا نيرانهم جذوة الثورة التي تشتعل في أرجاء الوطن كله.

حقاً إنه شعب صبور حمول، ولكنه ليس بخمول.. يحرث الأرض ويزرعها ويجلس أمام النيل ينتظر محصولها، وليس بمستسلم ولا انهزامي، لكنه يدافع عن هذه الأرض التي رويت بعرقه، ويحتضن الغضب بين ضلوعه ولا يفرط فيه أبداً في انتظار لحظة اللقاء مع العدو، ومَن لا يقرأ ذلك على خطوط جبينه "يبقى ما عدّاش على مصر" كما تقول "شادية" في أغنيتها الشهيرة "يا حبيبتى يا مصر"..

هذا هو الشعب المصري الذي هب غاضباً عام 1919 في ثورة عارمة اجتاحت أرجاء مصر كلها، وضمت مكونات وأطياف الشعب المصري المختلفة، من سياسيين ومثقفين وطلبة وفلاحين وعمال وتجار، ورجال الدين الإسلامى والمسيحي رافعين الهلال والصليب، وشاركت فيها لأول مرة المرأة المصرية بالبرقع المصري الشهير وبالبشمك التركي، الأمر الذي عبّر عن تنوع طبقات النساء المشاركات في المظاهرات.

كانت ثورة 1919 أول ثورة شعبية تحدث في أفريقيا بل في الشرق الأوسط ككل، تبعتها ثورات الهند والعراق وليبيا، فكانت بحق أم الثورات. وقد قامت بعدما بلغ الظلم والاستبداد مداه على أيدي المحتل الإنجليزي الذي تغلغل في شؤون الدولة وتوغل في سائر القطاعات المصرية، وأصبح الحاكم بأمره في مصر، فألغى الدستور وفرض الحماية وأعلن الأحكام العرفية في البلاد، وطغت المصالح الأجنبية على الاقتصاد المصري وازداد النفوذ الأجنبي في البنوك والمصانع والمتاجر، مما أدى لاستياء المصريين وتذمرهم. وزاد من حدة غضب المصريين، أن السلطات البريطانية قد منعت الوفد المصري الذي شكله زعيم حزب الوفد "سعد باشا زغلول" مع ثلاثة من قيادات الحزب، هم "محمد باشا محمود" و"إسماعيل باشا صدقي" و"حمد الباسل"، من السفر إلى مؤتمر "الصلح" في باريس للمطالبة برفع الحماية البريطانية عن مصر والمطالبة بالاستقلال التام، وقد أخذوا توقيعات من الشعب لتمثيلهم في المؤتمر، وتسابقت الجماهير للتوقيع على التوكيل وكانت صيغته كالآتى:

"نحن الموقعين على هذا قد أنَبْنَا عنا حضرات سعد زغلول و.. في أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلاً في استقلال مصر، تطبيقا لمبادئ الحرية والعدل التي تنشر رايتها دولة بريطانيا العظمى".

وإزاء التعاطف الشعبي غير المسبوق تجاه هذا الوفد وتوق الجماهير للاستقلال وتمسك الوفد بمطالبهم، قامت السلطات البريطانية بالقبض على "سعد زغلول" ورفاقه الثلاثة وتم نفيهم إلى جزيرة مالطا، يوم الثامن من آذار/ مارس 1919..

لقد كانت تلك شرارة الثورة التي اندلعت من الجامعات والمدارس، صبيحة اليوم التالي، أي التاسع من آذار/ مارس، إذ خرج الطلبة بأعداد غفيرة في مظاهرات ضخمة اجتاحت القاهرة والإسكندرية وبعض المدن الإقليمية، تصدت لها قوات الاحتلال البريطاني بعنف شديد، وواجهتها بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، فسقط قتلى وجرحى في كل مكان. واستمرت المظاهرات يومياً، وانضمت إليها جميع قطاعات الشعب وبأعداد كبيرة، وعمت جميع أنحاء البلاد من قرى ومدن، وأضرب العمال في جميع المرافق الحيوية، كالسكك الحديدية والترام والكهرباء والجمارك والبريد وفى المصانع، وحدث عصيان مدني وتوقفت حركة الحياة في مصر تماماً، ولم تستطع السلطات البريطانية مواجهة الاحتجاجات والثورة، رغم لجوئها لأقصى وأبشع أشكال العنف الذي وصل بها لقصف مدن وقرى بطائراتها، مما أضطرها اضطراراً للإفراج عن سعد زغلول ورفاقه والسماح لهم بالسفر إلى باريس، ولكنهم عادوا خالي الوفاض، أو كما يُقال "بخفى حنين"، فلم يستجب أعضاء مؤتمر "الصلح" في باريس لمطالب الثورة، فوجه سعد نداءً إلى المصريين دعاهم فيه إلى مواصلة التحرك ضد الاحتلال البريطاني. وازداد حماس الشعب وقاطع البضائع الإنجليزية، فألقى الإنجليز القبض على سعد زغلول ورفاقه مرة أخرى، ونفاهم إلى جزيرة "سيشل" في المحيط الهندي، فازداد غضب المصريين وازدادت الثورة اشتعالاً، وحاولت بريطانيا القضاء عليها بالقوة ولكنها فشلت ولم تستطع كبح جماح الجماهير التواقة للحرية والاستقلال. واستمر الحال هكذا ما يقرب من ثلاث سنوات، إلى أن رضخت بريطانيا للجماهير المصرية وحققت للثورة بعضاً من مطالبها، فألغت معاهدة الحماية البريطانية في 28 شباط/ فبراير 1922، التي كانت قد أبرمت في 18 كانون الأول/ ديسمبر عام 1914، وبموجبها وضعت مصر تحت الحماية البريطانية. وفي 19 نيسان/ أبريل عام 1923، صدر الدستور المصري وقانون الانتخابات، وألغيت الأحكام العرفية..

ولكن لم تستطع الثورة تحقيق أهم أهدافها على الإطلاق، وهو الاستقلال التام، فعلى الرغم من أن الدستور نص على أن "مصر دولة مستقلة ذات سيادة"، إلا أن القوات البريطانية ظلت متواجدة في مصر، فقد كان من أهم الشعارات التي رفعت في ثورة 1919 هو "الاستقلال التام أو الموت الزؤام".

بعد سرد هذه الأحداث والنتائج نخلص بالآتي:

إن ثورة 1919 كانت ثورة شعبية (عفوية) بلا جدال، ولم يحسب حتى المتظاهرون أنفسهم أن تتحول الاحتجاجات إلى ثورة عارمة تطوف أنحاء البلاد.. حتى سعد زغلول نفسه لم يخطط لها، ولم يخطر ببال أعضاء الوفد المصري أن حركتهم ستؤدى إلى ثورة شعبية. فقد كان أقصى ما يبتغيه الوفد هو تعبئة الطبقات العليا وقطاعات من الطبقة المتوسطة للحصول على الاستقلال من خلال التفاوض. وقد ظهر ذلك جلياً من خلال النهج التفاوضي الذي اتبعه الوفد مع المندوب السامي البريطاني في بادئ الأمر، وحينما فشلت مفاوضاتهم معه، أرسلوا العديد من البرقيات الى رؤساء ووزراء الدول الأوربية والرئيس الأمريكي "ولسون"، حيث كان الوفد يظن أن هؤلاء سيساندون المطلب المصري بالاستقلال..

كما كان الهدف من التفويض للوفد هو الحصول عليه من أعضاء البرلمان والأعيان والمتعلمين، ولم يكن مخططاً ان تتخذ طابعاً شعبياً يشمل مختلف الطبقات. بل من المفارقات أن أعضاء الوفد الذين ظلوا في مصر، أرسلوا برقيات إلى السلطان "فؤاد الأول" يؤكدون فيها أن لا صلة لهم بأعمال الجماهير.. بل حدث ما هو أكثر من هذا، ففي الرابع والعشرين من آذار/ مارس، وجه الوزراء والأعيان وأعضاء الوفد نداءً إلى المصريين يحذرونهم من الآثار المترتبة على قطع خطوط السكك الحديدية والاضطرابات والعصيان المدني، ويرجونهم باسم مصلحة الوطن تجنب الاعتداءات على الإنجليز وممتلكاتهم، وثكناتهم أيضا، حتى يستطيع الذين يخدمون الوطن بالطرق المشروعة المضي قدماً في مساعيهم. ومن المؤسف أنهم لم ينبسوا ببنت شفاة عن القوات البريطانية المجرمة التي مارست أقصى درجات العنف ضد الشعب المصري وممتلكاتهم الخاصة!

المفروض ألا نندهش، فغالباً ما تتبنى النخبة والزعامات الوطنية هذا النهج التفاوضي، خوفاً على ممتلكاتها الخاصة ومصالحها الشخصية، فلم يكن متوقعاً منهم غير ذلك.. ولم يكن مقبولاً لديها أن تكون الدعوة للاستقلال ترتبط بثورة شعبية يصحبها إيقاع أضرار بنمط الملكية السائدة، والثورة الفرنسية والثورة البلشفية غير غائبة عن أذهانها..

كان طبيعياً أن تنقسم قوى الثورة، وأن ينعكس اختلاف الانتماءات السياسية والطبقية على سلوك ومواقف القوى المشاركة في الثورة، والتي ذكرنا سلفاً أنها شملت جميع أطياف الشعب المصري، بكل فئاته وطبقاته...

وإذا وضعنا كل ما ذكرناه سابقاً من أحداث لثورة 1919 في مرآة أمام أحداث ثورة 25 يناير 2011، نجد ثمة تشابها كبيرا بينهما وبعض الاختلاف. فثورة يناير ثورة شعبية مثلها مثل ثورة 19، خرجت فيها الجماهير بشكل عفوي ضد حكم مبارك الفاشي الفاسد، كاسرة حاجز الخوف، متحدية قوات الأمن المدججة بالسلاح، بصدور عارية، فقُتل وأصيب المئات من المتظاهرين، ولكنهم استمروا في مظاهراتهم السلمية، مطالبين بإسقاط النطام رافعين شعار "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية".

لقد سبقت الجماهير النخب والزعامات الوهمية، كما حدث في ثورة 2019. فلقد ترددت في بادئ الأمر في الانضمام للثورة، ولكن بعد أن تصاعدت الاحتجاجات وتواصلت المظاهرات المليونية واستمرت الاعتصامات، وقد بدا جلياً قرب سقوط نظام مبارك، سارعت هذه النخب إلى اللحاق بها والقفز عليها، وخطف الأضواء من الجماهير الغفيرة التي وصلت الليل بالنهار في الميادين، مفترشين الطرقات بأجسادهم أمام الدبابات. وكانت تُسمى تلك النخب بأصحاب "الياقات البيضاء" التي تتسابق في إلقاء الخطب النارية من فوق منصة التحرير، ثم تذهب إلى بيتها لتغتسل من غبار الثورة.. تلك النخب الإنتهازية هى التي باعت الثورة في أول منعطف، لمجرد وصول خصم سياسي لها إلى سدة الحكم، فانقلبت على الديمقراطية التي طالما ما نادت وتشدقت بها كثيراً، وصدعت رؤوسنا بكلماتها الرنانة عنها.. بل وبنت زعامتها الوهمية عليها.. ارتضت هذه النخب أن تكون المطية التي يعبر من فوقها العسكر بدباباته في سهرة 30 حزيران/ يونيو، ليرتدي الانقلاب العسكرى ثوباً مدنياً أمام العالم، فاغتالوا أحلام الجماهير التي خرجت في ثورة يناير، ووأدوا أول تجربة ديمقراطية في مصر، وأسقطوا أول رئيس منتخب في تاريخ مصر منذ آلاف السنين.. أتى من قلب ثورة يناير، فكانت هذ النخب السبب لنكسة الثورة ولما وصلنا إليه الآن..

وما حدث من انقسامات وانشقاق بين الثوار في ثورة 1919، حدث أيضا في ثورة يناير، لكن بشكل أعنف وبصورة بغيضة مكنت أعداءها من الانقضاض عليها وضربها في سويداء القلب، فوقعت صريعة تنازع بين الحياة والموت.. نعم لم تمت ثورة يناير بعد، بل جرحها غائر في انتظار مَن يضمده، فهي لا تزال في قلوب وعقول المصريين..

كان من أبرز أخطاء ثورة يناير أنها تصورت أنه بتنحي الطاغية "حسني مبارك" قد انتصرت وحققت أهدافها، وأسكرتها نشوة الفرحة، فتركت الميادين. وهي بالفعل قد انتصرت، ولكنها لم تكن قد حققت أهدافها بعد، مثلها مثل ثورة 1919. فقد كان عليها أن تعمل التدابير اللازمة كي تحصن نفسها قبل أن تترك الميدان ليعبث فيه فلول النظام الذي لم تسقطه، بل أسقطت رأسه فقط، وهذا هو الفخ الذي وقعت فيه أو الذي أوقعها فيه المجلس العسكرى، والذي نفذت منه الثورة المضادة لتقضي عليها وتعيد النظام بقضه وقضيضه مرة أخرى ليحكم من جديد، بوجوه جديدة أشد قسوة وأكثر ظلماً وقمعاً للحريات..

كما توجد ثمة اختلافات بين ثورتي 1919 ويناير، ولعل أبرزها أنه لم تكن هناك مؤامرات من دول خارجية على ثورة 1919، بينما تآمرت الدول الإقليمية والغربية على ثورة يناير، وأنفقت السعودية والإمارات مئات المليارات من الدولارات لإخمادها والقضاء عليها، والأهم أنه لم يكن الكيان الصهيوني قد أنشئ بعد (1919)، وبالتالي لم يكن هدف تأمين حدوده بأنطمة موالية له.

ولكن موقف الغرب من الثورتين واحد: منافق ومخادع، يزعم حق الشعوب في الحرية والعدل ويضعها في مبادئه، ولكن لا يساندها في الحصول عليها، بل يقف ضدها، كما حدث في "مؤتمر الصلح" مع سعد زغلول بباريس ، وكما حدث في الانقلاب العسكرى عام 2013 الذي أيده الغرب وفتح أبوابه لاستقبال قائد الانقلاب..

ولعل من أبرز الفروق أيضا بين ثورتي 1919 ويناير 2011، أن ثورة الأولى كان لها زعيم أو أب روحي هو "سعد زغلول"، بينما غاب هذا الأب الروحي عن ثورة يناير. وكانت هذه هي إحدى نقاط الضعف في الثورة، فالكل يريد أن يكون هو الأب الوحيد لها، فضاعت الثورة بين آبائها الشرعيين وغير الشرعيين؛ الذين ظهروا فجأة بعد نجاحها، وآه من هؤلاء الآباء غير الشرعيين ذوي الياقات البيضاء، الذين أضاعوا دماء الشهداء هدراً!!

لقد كانت حقاً ثورة 25 يناير ثورة شعب هب ضد الظلم والطغيان، وهبة من الله سبحانه وتعالى، لكن للأسف لم نحافظ عليها ولم نصنها ولم نرعها حق رعايتها، فاستحققنا ما نحن عليه الآن!

ثورات المصريين ممتدة ومتواصلة، وكأنها حلقات في سلسلة طويلة، لم تنته حلقاتها بعد حتى تصل إلى مداها وتحقق أهدافها. والثورات كالحروب، سجال، ودائما وأبدا ما تكون إرادة الشعوب أقوى من أي طاغية، وهي المنتصرة في النهاية، مهما انكسرت وتشقق بنيانها بعض الوقت، فكلما زاد الظلم والقمع، واختزن الغضب صدور المصريين، كما يحدث الآن، تلوح في الأفق إرهاصات ثورة جديدة، وإن غدا لناظره قريب.

فإذا كانت ثورة 1919 أم الثورات المصرية، فإن ثورة 25 يناير 2011 هي أعظم ثورة في التاريخ المصري الحديث.
التعليقات (1)
عبدالحميد عمران
الخميس، 14-03-2019 11:19 ص
صدقت سيدتى .. فغالباً ما تتبنى النخبة والزعامات الوطنية هذا النهج التفاوضي، خوفاً على ممتلكاتها الخاصة ومصالحها الشخصية .. وهم كذلك دائما إلا من رحم ربى .. دمت بخير صديقتى

خبر عاجل