كتاب عربي 21

هل المجتمع التونسي عنيف؟

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600

تعددت مظاهر العنف في المجتمع التونسي، حتى أصبح الأمر يشغل الجميع. إذ لا يكاد يمر يوم أو أسبوع دون أن يستيقظ سكان هذه المنطقة على خبر اعتداء أو جريمة قتل بشعة، فهل هذه الظاهرة جديدة؟ وما هي دلالاتها؟ وهل بلغ الأمر درجة عالية من الخطورة؟

يعتبر العنف من أكثر الظواهر السوسيولوجية انتشارا في العالم، وهو من المواضيع الرئيسية التي تشغل الباحثين في اختصاصات متعددة، مثل علم الاجتماع وعلم النفس والعلوم السياسية. ففي أمريكا يحصل اعتداء في كل دقيقة، وقبل أيام تم قتل شاب تونسي في إحدى المدن الأمريكي على يد مراهق لا يتجاوز سنه 16 عاما. وعندما تسكن في أحد الفنادق بقلب نيويورك، تجد خلف الباب لائحة معلقة تتضمن جملة من التحذيرات والنصائح؛ من بينها إذا فكرت في الخروج لا تتجه نحو يمين الفندق أو يساره؛ بسبب وجود مكان خطير غير منصوح التوجه إليه بعد السابعة أو الثامنة مساء. كما يُطلب منك أن تغلق باب الغرفة بشكل جيد، وإذا ما استمعت إلى طرقات على بابك، فلا تفتح إلا بعد التأكد من هوية الطارق.

 

العنف من أكثر الظواهر السوسيولوجية انتشارا في العالم، وهو من المواضيع الرئيسية التي تشغل الباحثين في اختصاصات متعددة، مثل علم الاجتماع وعلم النفس والعلوم السياسية

المعروف والمتداول أن التونسي غير عنيف، ومن الشخصيات المسالمة. ويكفي التذكير في هذا السياق بأن التونسيين حصلوا على استقلالهم عن طريق المفاوضات، واستنادا إلى الشعار الذي ردده الزعيم بورقيبة طويلا: "خذ وطالب"، أي فاوض، واقبل ما يعرض عليك في النهاية، ثم عد لكي تطالب بخطوة أخرى بعد أن تكون قد ترسخت أقدامك من جديد. لا يعني ذلك أن التونسيين لم يرفعوا السلاح في وجه المستعمر الفرنسي، لكنهم لجأوا إلى ذلك في فترة وجيزة، واعتبروه وسيلة إضافية لدعم مطالبهم المشروعة.

مع ذلك، يمكن القول إن نسبة العنف زادت مقارنة بالمرحلة السابقة للثورة. وتفيد دراسة أعدها المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية؛ بأنه ما بين عامي 2011 و2017، سُجلت أكثر من 600 الف قضية عنف في تونس، أي بمعدل 100 الف قضية كل سنة، وهو ما جعل البعض يقرن ظاهرة العنف بالثورة. وهذا اعتقاد خاطئ؛ لأنه بين 2006 و2010، سُجلت في تونس أكثر من 500 ألف قضية لدى مراكز الأمن والمحاكم، 20 في المئة منها قضايا عنف، أي في حدود 180 الف قضية سنويا..

ويعني ذلك أن العنف كان موجودا من قبل، لكنه زادت نسبته بعد الثورة لأسباب يمكن فهمها وشرحها. ففي سنة 2010 فقط ارتكبت 1000 جريمة قتل، ثم ارتفع العدد إلى حوالي 1700 خلال سنة 2017.

للعنف مجالات متعددة، فهناك العنف المسلط على النساء، وكذلك العنف الذي يتعرض له الأطفال والذي شمل 90 في المئة منهم. كما ارتفعت حالة الاحتقان في صفوف التلاميد وبين الإطار التربوي وهو ما أشار إلى حجم أزمة التعليم القائمة في تونس، والذي يفسر استمرار الاشتباك بين الأساتذة والمعلمين وبين مختلف وزراء التربية الذين تعاقبوا على الوزارة من عام 2011. فثلاثة أرباع الممارسين للعنف في صفوف التلاميذ هم من الراسبين، وثلثان منهم مع معدلات دراسية ضعيفة.


يتبين من الأرقام أن ظاهرة العنف سابقة للثورة التي عاشتها تونس؛ لأن القمع يولد الخوف لدى السكان، ولكنه في الآن نفسه يراكم حالة الاحتقان لديهم، ويجعلهم مهيئين للانفجار عندما تصبح الدولة ضعيفة وغير قادرة على مواجهتهم في الأزمات. وهذا ما عرفه المجتمع التونسي بعد الثورة.. لقد ضعفت الدولة، ووجدت النخب الحاكمة الجديدة نفسها عاجزة عن معالجة المشاكل وغير قادرة على الوفاء بوعودها، فانتقلت بذلك المبادرة من السلطة إلى الأفراد والجماعات. وبما أن الديمقراطية مسار يتطلب الكثير من الوقت لإعادة بناء الوعي، فقد تفككت قليلا بعض البنى التقليدية التي كانت تحد من ظاهرة العنف الاجتماعي، مما سمع للبعض بأن يلجأوا إلى تبادل العنف في حالات التأزم وتراكم الخلافات. ولهذا، يلاحظ أن الوسط الريفي يتميز بدرجات عنف أقل مقارنة بالمناطق الحضرية التي تصل فيها نسبة العنف إلى 77 في المئة، وهو ما يثبت أن القيم والتماسك العائلي والتضامن الاجتماعي؛ لا تزال أعلى في الأرياف، مقارنة بالمدن الكبرى التي تعاني من الكثافة السكانية وتعدد الأحياء الساخنة، والخلط المجتمعي والنزعات الجهوية والتفكك التفكك الأسري.

 

ظاهرة العنف سابقة للثورة التي عاشتها تونس؛ لأن القمع يولد الخوف لدى السكان، ولكنه في الآن نفسه يراكم حالة الاحتقان لديهم، ويجعلهم مهيئين للانفجار عندما تصبح الدولة ضعيفة


لهذا، كلما ارتفع مستوى التعليم في صفوف المواطنين قلّ معه اللجوء الى العنف لحسم النزاعات وتسوية الخلافات، فيلاحظ أن 66 في المئة من المتهمين بممارسة العنف داخل المدارس لم يتجاوزوا مستوى التعليم الأساسي.

كما أنه كلما تراجعت فكرة القدوة على مستوى المجتمعي، واهتزت مكانة المربي، وتعززت الفوارق بين التلاميذ بسبب تمجيد المتفوق والحكم بالإعدام المعنوي على التلميذ الفاشل، نتجت عن ذلك درجات التوتر، وارتفعت نسبة التهميش الاجتماعي الذي يؤدي إلى انتشار المخدرات، وتعددت النزاعات التي يغذيها الفقر وتعمق الفوارق.

هذا وجه آخر من المشكلات التي تواجه الشعوب التي قررت السعي نحو إعادة بناء نفسها على أسس ديمقراطية وقائمة على عُلوية القانون وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهي القيم الرئيسية للثورة التونسية.

التعليقات (0)