قضايا وآراء

مرجعيات الطاعة والعصيان في الثقافتين المسيحية والإسلامية

حسين عبد العزيز
1300x600
1300x600

لا تختلف الثقافتان المسيحية والإسلامية عن بعضهما فيما يتعلق بمسألة الطاعة السياسية، فكلاهما تنطلق من مقدمات متشابهة وإن اختلفتا في النتائج السياسية ـ الثقافية.

في كلا التجربتين جرى تقديم السياسة المثالية على مذبح السياسة الضرورية، أو تساوقت السياستان معا، كما حدث في الثقافة المسيحية الرومانية التي زاوجت بين سمو الجماعة وسمو السلطة، وكما حدث في الإسلام ما بعد الخلافة الراشدة، عبر جعل نظام الضرورة يتواجد مع نظام الشرعية.

 

أحكام دينية تمنع العصيان للحاكم


ومع أن الديانتين تخلوان من الأحكام القطعية في مسألة الطاعة والعصيان للملوك أو الأمراء، فإن رجال الدين في الحالتين شرعوا أحكاما دينية تمنع العصيان بسبب ما تنتجه من فتن، والفرق بينهما يكمن في أن الثقافة الأوروبية المسيحية شهدت جدالا واسعا حيال هذه المسألة خصوصا في مرحلة الإصلاح الديني، بينما بقيت الثقافة الإسلامية في حالة ستاتيكو حيال هذه القضية، باستثناء حالات محددة لم تؤد إلى نشوء نظريات حديثة تقطع مع السائد. 

أعلن القديس بولس أن قتال الإنسان لرؤسائه معادل لمقاومة الإنسان لله، ثم جاء القديس أوغسطين ليؤكد الأمر ذاته قبل الأكويني الذي أكد أن سلطة الحاكم فوق سلطة الشعب.

ومع البابا غريغوار الكبير ستحدث خطوة أخرى في تعزيز الطاعة السياسية، بإعلانه واجب الرعية الديني طاعة الأمراء حتى وإن كانوا يستحقون اللوم.

 

اقرأ أيضا: هل يحتاج الإصلاح الديني لـ"مارتن لوثر إسلامي"؟

ظلت هذه الأفكار سائدة مع مطلع الإصلاح الديني، وتحديدا مع مارتن لوثر الذي ظل أمينا لإرث القديس بولس، فقد اعتبر لوثر أن جميع تشريعات السلطة الزمنية هي نعمة مباشرة من الله وتعبيرا عن العناية الإلهية حتى وإن كان الأمراء طغاة.

والسبب في هذا الموقف يكمن في مفهوم عبودية الإنسان للخطيئة، الذي أسس عنده رؤية جبرية بين الله والإنسان، فأوامر الله يجب أن تطاع لأنها أوامره وليست لأنها أوامر عادلة، ولهذا وقف موقفا مضادا من ثورة الفلاحين عام 1524.

 

خطاب لوثر وأثره


لعبت نظريات اللوثريين الأوائل دورا حيويا في شرعنة الملكيات المطلقة الناشئة، فبفضل رفضهم الرأي الكاثوليكي التقليدي بأنه يمكن الحكم على الحاكم الطاغية وعزله بواسطة سلطة الكنيسة من جهة، وبأن جميع السلطات الموجودة يجب أن تعتبر هبة مباشرة من الله من جهة ثانية، أصبح الحكام الطغاة يحكمون عن طريق الحق الإلهي.

لكن في عام 1530 حدث تحول في فكر لوثر وميلانكثون وأتباعهم، فقد اعتقدوا أن أي حاكم طاغية يمكن معارضته قانونيا وبالقوة، ومع ذلك لم يكن هذا الرأي حاسما ولم يتسيد خطاب لوثر، لكن سيكون له تأثير في ما بعد مع إحياء النظريات الراديكالية على يد نيكولاس ستورش وتوماس دركسل وماركوس ستنبر وأتباع كالفن.

 

إدراك السياسي خارج الإطار الشرعي جاء نتيجة أن الثقافة الإسلامية تنكر تفويض سلطة الله للإنسان، فالأمر الذي يمارس على الأرض لا يمكن أن يكون سوى فعل الأمر الواقع.


على غرار لوثر واصل كالفن رفضه العصيان المدني باستثناء حالتين: الأولى قيام الحكام الأدنى بحق التدخل الشرعي لأن وجودهم مبني من أجل الدفاع عن الشعب، والاستثناء الثاني، مساعدة الله عبر بعثه بطلا يقضي بمعاقبة الحاكم الشرير، والاستثناءان يقومان على إرادة الله وليس على حق ملازم للشعب.

بعبارة أخرى، إن فكرة العصيان جاءت من أجل العودة بالدولة إلى مسيحيتها، فقد أراد كالفن للدولة أن تكون واعية لقيمتها الروحية المتمثلة بالمسيحية، ومازلنا هنا قبل مرحلة الحداثة لأن المقاومة التي يقترحها الكالفينيون هي مقاومة لأسباب دينية وليست لأسباب سياسية نابعة من فكرة حق الإنسان في المقاومة كأحد تعبيرات التجمع الإنساني، كما سيظهر لا حقا عند جون لوك.

في عام 1550 بدأت عملية إعادة إحياء النظرية الدستورية بلباس ديني مع نشر كراسة "الاعتراف" لنيقولاس أمسدورف، وقد مثلت الكراسة أول اعتراف من البروتستانتيين الأرثوذكس بنظرية المقاومة المحقة بالقوة، والتي تؤكد أن قانون الطبيعة والقانون الإلهي يلزمان مقاومة الحاكم من قبل الحاكم الأصغر.

 

فكرة العقد التوراتية


وبلغت عملية إعادة إحياء النظريات السياسية الوسيطة ـ الالتزامات التعاقدية بين الملك والجماعة وسمو القانون ذروتها عقب مذبحة سان برتليمي عام 1572 التي دفعت الكالفينيين إلى تبني رؤية راديكالية في السياسة.

هنا جرت عودة كالفينية إلى فكرة العقد التوراتية التي تجعل الطاعة رهنا بقيام الملك بواجباته.

وهكذا كانت عملية إدخال العناصر الدينية والدنيوية الدستورية في شرعنة العصيان أحد مقدمات الحداثة الأوروبية، وهو ما يختلف تماما عن نظام الضرورة في الإسلام، فاللوثرية بتنوعاتها تعترف بوجود مدى زمني حتى وإن كان غير شرعي نتيجة الخطيئة، وهذا المجال الزمني انتهى بتأكيد السيادة الشعبية، أولا لدى الهيغونيين المتأخرين، وتاليا لدى فلاسفة القرن الـ 17.

 

السياسة آلة لا غير

يذهب نبيل فازيو إلى أن فقهاء الإسلام فضلوا النظر إلى السياسة باعتبارها آلة لا غير، أي وسيلة لتحقيق أغراض أسمى، ولذلك عارض الفقهاء الخروج على الحاكم وقبول ولاية التغلب كأمر واقعي على الرغم من عدم مراعاتها لأحكام الشرع.

يقول أبو بكر الطرطوشي: إن الطاعة أهم واجبات الرعية نحو حاكمها، فهي ترتفع إلى مستوى الفرض أو الواجب، فطاعة السلطان مقرونة بطاعة الله تعالى".

 

الخشية من العصيان والفوضى، دفعت الفقهاء إلى تطوير نظرية للشرعية، تؤدي إلى إدراك السياسي خارج الإطار الشرعي


وعلى هذا ذهب ابن تيمية بقوله "المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم"، وابن بطال بقوله "الفقهاء مجمعون على أن الإمام المتغلّب طاعته لازمة، ما أقام الجمعات والجهاد، وأن طاعته خير من الخروج عليه"، والإمام النووي بقوله "لا يجوز الخروج على الخلفاء بمجرد الظلم أو الفسق ما لم يغيروا شيئاً من قواعد الإسلام".

الخشية من العصيان والفوضى، دفعت الفقهاء إلى تطوير نظرية للشرعية، تؤدي إلى إدراك السياسي خارج الإطار الشرعي، طالما أن إمارة الاستيلاء والتغلّب تحقق أمرين: الكفاية التي تعني منع الفتنة، والشوكة التي تعني التصدي للعدو الخارجي. 

إدراك السياسي خارج الإطار الشرعي جاء نتيجة أن الثقافة الإسلامية تنكر تفويض سلطة الله للإنسان، فالأمر الذي يمارس على الأرض لا يمكن أن يكون سوى فعل الأمر الواقع.

صحيح أن الخليفة أو السلطان كان ينظم طريق السياسة ويوكل حكمه للوزراء والقضاة، لكنه لم يكن يتمتع بالكفاءة التشريعية التي كان يتمتع بها الملك المسيحي، لأنه لم يوجد مدى سياسي مستقل بالمعنى الدستوري، وهذا ناجم عن أن الحكم في الإسلام يتحدد بمقاصده وليس بطبيعته، ومجمل الآداب السلطانية كتبت من أجل تبرير إمارة السلطان باسم حراسة الدين يقول وجيه كوثراني.

بخلاف الإسلام، لم يؤد اكتشاف الإرادة الإلهية في المسيحية إلى الخروج من المجال السياسي الذي بقي قائما يصنع هويته ويخضع لقوانين الطبيعة، والسبب في ذلك أن الثقافة المسيحية الأوروبية لم تحاول عقلنة الواقع القائم كما هو حال فقهاء الإسلام، وإنما عملوا على تجاوز هذا الواقع باسم الدين تارة وباسم القانون الطبيعي والوضعي تارة أخرى، وباسم هذه التجريبية لن يقبل مفكرو النهضة إدراك السلطة السياسية إلا كمحمول للأفراد وليس كمبدأ ملازم لنظام اجتماعي طبيعي معطى.

 

بخلاف الإسلام، لم يؤد اكتشاف الإرادة الإلهية في المسيحية إلى الخروج من المجال السياسي الذي بقي قائما يصنع هويته ويخضع لقوانين الطبيعة


كان اندلاع الثورات في العالم العربي تعبيرا ضمنيا عن قبول الكثير من الشعب العربي ومن النخب العلمانية والدينية بفكرة حق مقاومة الطغيان، لكن هذا التأييد بقي خارج خطاب سلطة المعرفة، أي لم يتم تأسيسه نظريا في الخطاب الديني والفكري ـ القانوني العلماني، فقد انجرت النخب الدينية والعلمانية وراء دعم الثورة من دون أية محاولة لتأسيس نظريات في المقاومة، وهذا هو السبب الذي جعل حركة الشارع تنفلت من عقالها، في وقت افتقرت فيه إلى أية رؤية سياسية بسبب الغياب التاريخي للتنظير الفلسفي ـ السياسي للمجال العام وحقوقه.

ومع ذلك، من المهم تسجيل نقطة هنا: وهي أن المنظومة الاجتماعية الحاملة للثورة كانت محافظة دينيا وقيميا، فقد جعلت للتدين دورا مهما في دفع الثورة، وفي تجاوب الناس مع أيديولوجيا دينية مضادة للطغيان.

لكن هذه الأيديولوجية الثورية التي لبست لباسا دينيا في شقها العسكري، أدت إلى تزعزع الإيمان الديني لدى كثير من الناس في مسألة العصيان، لاسيما عند أولئك الذين ظلوا في المجال المحايد، وبالتالي أدت إلى نشوء شرخ في البنى الاجتماعية المتنوعة.

 

اقرأ أيضا: الحكم لله والحاكمية للشعب

وفي مرحلة تزعزع الإيمان الديني، يجد الناس أنفسهم بين وضعين، إما حرية منفلتة خالية من أي محتوى فكري، أو رضوخ عبودي لنظام مستبد.

وهذا ما يمكن رؤيته بوضوح في التجربة السورية، فقد نجح النظام في أقناع قواعده بخطورة الثورات، وذهب خطوة إلى الأمام بصياغة خطاب ديني يستعيد الفقه السياسي السني التقليدي، فالتشديد على الإسلام من قبل المعارضة دفع النظام إلى تقديم نموذجه الخاص.

كاتب وإعلامي سوري

التعليقات (1)
إعادة البرمجة
الأحد، 03-03-2019 12:33 ص
كنت في الجامعة أسئل لما أوربا يوجد فيها تغير فكري ومستمر ولما هو متوقف عندنا،مع السنين وبالتجربة والملاحظة،ظهر خطأ التسيوق الفكري لترابط وتواصل المفكرين بأوربا،يعني،ليس المفكرين هم من أحدثوا النظريات كما يتم حفره بالمخ،بل هو أن المفكر هو مرأة تعكس التغيير بالمجتمع،يعني أن المجتمع هو صاحب الأفكار والنظريات،بهذا نفهم لماذا إستمر التغيير بأوربا،ويبقى لماذا المجتمع تغير بسرعة مضطردة بإوربا،هنا يمكن الإجابة على هذا دون سحر ولا تأليه.