قضايا وآراء

"الموديل" السعودي.. "الأيديولوجيا" عروبية.. ولكن

خلدون محمد
1300x600
1300x600

منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى هزيمة 1967، انطلقت من مدن بيروت ودمشق والقاهرة وبغداد على وجه الخصوص أهم الدعوات والتنظيرات للقومية العربية. وباستثناء ظروف الحرب العالمية الأولى الملتبسة التي رشّحت آنذاك الأسرة الهاشمية في الحجاز (مكة) لوراثة الدولة العثمانية في أقاليم آسيا العربية، لم يخرج من الجزيرة العربية فكر عروبي وحدوي يُعتدّ به، بل كانت سياسات "دول" الخليج مخاصمة، إن لم تكن معادية لفكرة الوحدة العربية، خاصة بعد اكتشاف البترول الذي غذّى النزعة القطرية الانعزالية. وكثيرة هي الدراسات في علم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والثقافة والأدب، التي أشارت إلى مظاهر "تهجين" شتى جوانب الحياة بسبب تأثيرات الثروة البترولية الريعية.

وُصف الملك السابق عبدالله بن عبد العزيز وعُرف في بعض الأوساط السياسية والإعلامية كشخص ذي نزعة عروبية، سواء على مستوى الأسرة الحاكمة أو حتى على النطاق العربي في العقود الثلاثة الأخيرة. ومما يلفت النظر أن الخطاب السياسي والإعلامي في عهده (بعد مرض الملك فهد 1955)، وبالأخص منذ أحداث 11 أيلول/ 2001، أظهر نزعة لإبراز صيغة "عروبية" من نوع ما. ونحاول هنا تسجيل ملاحظات أولية على تلك الصيغة:

- عروبية فروسية تخلو من المضمون الأيديولوجي، سوى من خشونة البداوة ونزقها. فنحن هنا لا نعثر على أشباه لساطع الحصري أو ميشيل عفلق أو عبد الرحمن الكواكبي أو محمد رشيد رضا أو عبد الحميد بن باديس، أو لنسخ هؤلاء الأخيرة كمعن بشور وخير الدين حسيب وعزمي بشارة، وغيرهم من المفكرين القوميين الذين بشّروا ودعوا لوحدة العرب. وعند معاينة قنوات التلفزة الفضائية السعودية الكاسحة، فضلا عن جريدتي "الحياة" و"الشرق الأوسط" اللندنيتان وأشباههما من المجلات والمطبوعات، سنجد عند تتبعنا لخطابها الإعلامي والسياسي والثقافي كيف أنها تخلع أسماء: "العربية" أو "بالعربي" أو "صباح العربية" أو "صباح الخير يا عرب" أو "على خطى العرب" أو "حور العرب"... إلخ، على قنواتها وبرامجها، وكأنها تقترح صورة ما للإنسان العربي أو للعرب كأمة، وهي صورة شائهة وهجينة، بكل ما تحمله الهجنة من دلالات ومعاني طالما وصفتها روايات عبد الرحمن منيف، والأجيال الجديدة من الروائيين من بعده، فضلا عن مئات الدراسات الجادة عن التحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي كتبت حول مجتمعات ما بعد الطفرة النفطية.

 

صورة شائهة وهجينة، بكل ما تحمله الهجنة من دلالات ومعاني طالما وصفتها روايات عبد الرحمن منيف، والأجيال الجديدة من الروائيين من بعده

بعيدا عن طقوس "العربية" التي تستعيد صورا للفروسية البدوية التي حرص عليها ورعاها الملك عبدالله، سنعثر في سلوكه السياسي على مواقف ذات صفة "فروسية" كان لها وقعها وأثرها وانعكاساتها في سياق المنطقة، وكان أحدها ما أظهره من خطاب تصالحي مع سورية بعد سنوات من اغتيال رفيق الحريري (رجل السعودية في لبنان) الذي اتهمت سوريا بالوقوف وراء اغتياله، وذلك في القمة العربية الاقتصادية في الكويت، قبل أكثر من عشر سنوات، وزيارته بعد ذلك لدمشق ثم قيامه باصطحاب بشار الأسد في زيارة مشتركة للبنان، وهو ما غمر الأسد بالكثير من العرفان، وجعله يطلق على الملك عبد الله صفة "ملك العرب". ولا نبالغ في القول إن اعتقدنا بأن موقف الملك عبد الله من الربيع العربي وبالأخص من مصير صديقه حسني مبارك، يبدو متأثرا إلى حد كبير بذلك الجانب "الفروسي" الذي يقضي بالانتصار "والفزعة" لصاحبه، ولو كلّف ذلك هدم ما حققته حركة الشعب المصري من ثورة وروح انعتاقية. ولا ندري ما كان يمكن أن يكون عليه حال مصر، وحال الربيع العربي، لو أن حسني مبارك استجاب "للدعوة الكريمة" من صديقه الملك، وجاء للإقامة في السعودية أسوة برئيس تونس المخلوع زين العابدين بن علي؟!

- "عروبة" ضد الوحدة العربية: لأول مرة، نحن هنا إزاء نموذج يسعى لاحتكار اسم "العرب" واعتباره "براند" خاص به، وفي نفس الوقت مناهض لكل فعل يمكن أن يوحدهم، بل هو مغرق في تمجيد الأنانيات القطرية، ويعتبر كل دعوة وحدوية (حتى لو كانت إسلامية) نذير شؤم تهدد أركانه وتحدق به، ويتجند من أجل محاربتها بكل طاقته، ويسخّر كل إمكانياته من أجل ضرب أي بارقة أمل على طريق وحدة وقوة العرب، وهذا ما فعله المال السعودي في المقام الأول في إجهاض ثورات الربيع والالتفاف أو الإجهاز عليها، وزرع بذور الشقاق والخلاف في كل مكان تمكن من الوصول إليه.

 

هذا ما فعله المال السعودي في المقام الأول في إجهاض ثورات الربيع والالتفاف أو الإجهاز عليها، وزرع بذور الشقاق والخلاف في كل مكان تمكن من الوصول إليه

- "عروبة" ضد فلسطين: لطالما تربعت فلسطين على أولويات العرب شعوبا ونخبا، فكرا وأيديولوجيا، أدبا وثقافة، ثورة وسياسة. ولطالما شكت فلسطين أيضا، في جميع مصائبها، من خذلان العرب من حولها، وظلت صرختها شبه اليائسة "وين العرب" كرجاء يقيم في اللاوعي والخيال.. رغم هذا الخذلان، تظل هناك "أمة عربية" بالإمكان استعراضها... لكن النموذج السعودي الذي بقي لعود طويلة يمارس الخذلان بصمت مدوٍ، ومن ثم التواري خلف الكواليس، يكشف الآن عن خذلانه في وضح النهار ويؤطره سياسيا ضمن ما يسمى منذ سنين "محور الاعتدال" العربي، والذي كان أحد أهم فعالياته مقترح "الملك العروبي" لمبادرة السلام العربية أثناء عملية السور الواقي في ربيع 2002!! عله يتق بذلك غضبة أميركا بعد حادثة 11 أيلول/ سبتمبر 2001!!

وقد أسفرت سياسات السعودية تجاه فلسطين في السنين الأخيرة؛ ليس عن مجرد خذلان، بل وتآمر إلى حد كبير. من ذلك ما كان أخبرنا به الصحفي البريطاني ديفد هيرست من أن السعودية والإمارات تعهدتا للكيان الصهيوني في حربه الأخيرة على قطاع غزة عام 2014 بتمويل جميع نفقاته الحربية.

 

ويقوم محمد بن سلمان منذ توليه المقاليد بتشييد تحالفه المشبوه مع العدو. وفي هذا الإطار قامت السعودية في المحافل الدولية بإدانة المقاومة الفلسطينية، كما قالت مصادر صحفية عبرية أن ابن سلمان قام بزيارات سرية للكيان، وبعث العديد من رجاله في زيارات علنية، وكشفت حوادث العام الأخير ضلوعه في تنفيذ "صفقة القرن" التصفوية، وقيامه بممارسة الضغط الشخصي والمباشر على الرئيس الفلسطيني، في ما يشبه صورة ما تعرض له سعد الحريري (حسب بعض الروايات المتداولة). كما أفيد بأنه أبلغ القيادة الفلسطينية ببنود تلك الصفقة، ومن ضمنها الطلب من الفلسطينيين التخلي عن القدس الشرقية بما فيها المقدسات، والقبول بـ"أبو ديس" عاصمة عوضا عنها... هذا فضلا عن عملية التطبيع القائمة على قدم وساق، من السماح لطيران العدو المدني بالتحليق في سماء السعودية، وقيام بعض صحفيي العدو بالدخول في الحرم المدني وتصويره من الداخل.. وربما نرى المزيد من الخطوات في ظل تصريحات نتنياهو التي اعتبر فيها أن الإيجابية الوحيدة من الاتفاق النووي لدول "5+1" مع إيران؛ هو ما تمكن من بنائه من علاقات استراتيجية حميمة مع الدول العربية المركزية!

 

يعكس الاعلام السعودي درجة من الحزبية الضيقة التي تلوي أعناق الحقائق وتمارس الكذب الموصوف والبهتان الفاضح. وبون أن تسمي هذه "العروبة" السعودية نفسها كحزب، فإن العين لا تخطئ أن "حزب السعودية" هذا الذي يمجّد ذاته المليئة بالعيوب

- خطاب عصبوي (حزب السعودية): يلاحظ المرء في السنين الأخيرة أن لغة رجال السياسة والدبلوماسية (ومنهم سعود الفيصل)، وحتى أهم المعلقين السعوديين على الأحداث (ومنهم عبد الرحمن الراشد)، الذين طالما تمتعوا بدرجات عالية من الرتابة والمحافظة وتجنب التصدي للأحداث مباشرة، تتميز بالحمية غير المعهودة والعصبية والنرفزة والتحزب الأعمى الجزافي والاعتباطي، حيث يعكس الاعلام السعودي (بالإضافة لمثيله المصري) درجة من الحزبية الضيقة التي تلوي أعناق الحقائق وتمارس الكذب الموصوف والبهتان الفاضح. وبدون أن تسمي هذه "العروبة" السعودية نفسها كحزب، فإن العين لا تخطئ أن "حزب السعودية" هذا يمجّد ذاته المليئة بالعيوب، ويطعن في عقل وشرف ودين وذمة الآخرين، بمنتهى السفه والطيش واللاعقلانية والرغائبية والخشونة واليباسة البدوية المتخيلة.

لربما تحتاج ظواهر البداوة الفكرية والسياسية والإعلامية والثورية (السلفيات الجهادية) التي قذفت بها الصحارى العربية، إلى مزيد من الدراسات من قبل علماء الاجتماع الجادين، وذلك لكشف عناصرها وتمثلاتها ومآلاتها، ولربما سيعاد الاعتبار أيضا، لما اعتبرته مناهج العلوم الإنسانية الحديثة تخلفا فقهيا لدى أسلافنا الذين كتبوا في مواضيع "الأحكام السلطانية" و"السياسة الشرعية" عبر دراسة ظاهرة حكم المتغلب...

ولا ندري هل نحن هنا؛ مع تحولات "حزب السعودية" نكون أمام طور من أطوار الدولة الخلدونية؛ ينذر استمراره بالشكل الحالي إلى بلوغ نهاياته المحتومة؟!

التعليقات (0)