كتاب عربي 21

الكونت دي مونت كريستو السوري

أحمد عمر
1300x600
1300x600

ذكرت في هذا المنبر قبل فترة، في مقال تناقضات عنوانه "قصة يوسف عليه السلام وقصة السيسي"، أنّ الروائي الذي كرمته كولومبيا كما لم تكرم أمة كاتباً، صاحب رواية "مئة من العزلة"، غابرييل غارسيا ماركيز، الحائز على جائزة نوبل سنة 1982.. قال في كتابه "غريق على أرض صلبة" إنّ أحسن قصة قرأها في حياته، هي قصة "الكونت دي مونت كريستو" للفرنسي ألكسندر دوماس الأب.

وذكرت أن السبب الذي ذكره ماركيز في شغفه بها، هو قدرة مؤلفها على جعل بطلها إدمون دانتس، البحّار الجاهل، في الهروب من حصن منيع ثم التحول إلى أكثر الرجال ثراء وذكاء في عصره! ماركيز أحب الكونت (كحكمة عالمية، وثروة وثورة عارمة، وتعطش للانتقام، لقد ألّف معجزة قصصية).

وحاولت البرهان على أنّ قصة الكونت دي مونت كريستو مقتبسة من قصة النبي يوسف عليه السلام، وهي مذكورة في العهد القديم، ولا بد أن دوماس قرأها، وأضفت أن رائعة البؤساء لفكتور هوجو مقتبسة منها أيضاً، وذكرتُ أهم الوحدات الحكائية المتشابهة بين القصة الأم والقصتين المقتبستين والمنحدرتين من نسبها. والقصتان تذكران في متنهما قدرة الله، وانتقامه، فعبارات الإنجيل حاضرة فيها، عبرةً لأولي الألباب.

 

حاولت البرهان على أنّ قصة الكونت دي مونت كريستو مقتبسة من قصة النبي يوسف عليه السلام، وهي مذكورة في العهد القديم، ولا بد أن دوماس قرأها، وأضفت أن رائعة البؤساء لفكتور هوجو مقتبسة منها أيضاً

تابعت على برنامج "مراجعات" في فضائية الحوار، قصة محمود عاشور، الذي ظهر إبان الثورة باسم مستعار هو صلاح الدين الحموي، مثله مثل الكونت دي مونت كريستو الذي ظهر بشخصية جديدة بعد السجن. ووجدت في قصته عناصر تشبه قصة الكونت العظيمة التي أذهلت ماركيز وسحرته، مع اختلافات لا تفسد النسب بينهما وأواصر الصلة، فهو أكثر براءة من إدمون دانتس عند سجنه، وكان قد غدر به صاحبه فرديناند من أجل سلب ثروته وعروسه، ولم يكن محموداً قد بلغ السن القانونية الأوربية مثل أدمون، الذي كان في التاسعة عشرة من عمره وقتها، ولم يكن عاشقاً ولا ثرياً، كان طالباً في الثانوية، ولم يكن قد ارتكب جرماً سياسياً، كانت جريمته هي حضور حلقات القرآن في المسجد. ثروته عقيدته، وهي حبيبته أيضاً. وقد حبس حقبة أطول من حقبة النبي يوسف عليه السلام وإدمون دانتس، وجان فالجان أيضاً. قضى يوسف عليه السلام سبع سنين في السجن حسب تقديرات بعض المفسرين، وهي غير محددة في القرآن الكريم، وبلغ قمة المجد في عصره، بصعوده من أخفض نقطة في غيابة الجب إلى منصب عزيز مصر، وكذلك إدمون دانتس الذي سجن في قلعة شاتوه دي إيف المنيعة، وتحول جان فالجان من سجن الباستيل إلى عمدة لمدينة باريس. أما محمود عاشور بعد خروجه من سجن تدمر الرهيب، وهي أدنى نقطة في الأرض، فلم ينل منصباً سياسياً مثل الأمثلة السابقة، لكنه نال مجداً لعله أرفع من مجدي إدمون وجان فالجان. القناعة كنز ليس كمثله.

تعلم إدمون في السجن على يد الراهب بافاريا، وتربى محمود على يد العالم محمد هاشم المجذوب الذي اعتقل لسبب أقل من سبب اعتقال محمود نفسه، عُرضت على المجذوب الدنيا وأمجادها فدفعها بقدمه. ودرس عليه علوم اللغة والنحو والتلاوة والتفسير والسيرة همساً، من غير قلم أو ورقة، فقوانين سجن تدمر هي الأقسى في العالم قاطبة. وإذا كان إدمون ينال عقوبة أسبوعية من سجان مريض في الباستيل، فإن التعذيب والقتل لم يتوقف في الباستيل السوري يوماً. في سجن تدمر أخبار وفظائع لم يعرفها سجن في العالم. قام المفكر المعروف مالك بن نبي في كتابه الظاهر القرآنية بعمل جدول مقارن بين قصتي يوسف في القرآن الكريم وفي التوراة، ويمكن عمل جدول مقارن بين قصتي محمود عاشور وإدمون دانتس، وذلك لا يصلح سوى للمجلات المتخصصة.

لم تسنح لمحمود فرصة الهرب مثل إدمون، لكن عاشورا ذكر واقعة هرب من السجن ووصفها بأنها أفلام كرتون لدقتها وحبكتها وعجائبيتها، نقب فيها السجناء نقباً في السقف، وعددهم خمسة وعشرون سجيناً، وهربوا كما هرب إدمون وجان فالجان، أعيد معظمهم إلى السجن مرة ثانية، ولم ينج منهم سوى ثمانية. القصص الصغيرة الجانبية التي يذكرها في أثناء سرد قصته، عظيمة مثل قصص الفرسان الذين لم نسمع بهم سوى في الملاحم، وجديرة بأن تكتب بماء الذهب. خرج محمود بعد تحولات دولية، وبعد أن قضى ربع قرن في الظلام، الذي حولّه بصبره إلى نور، وذلك كان كنزه الذي خرج به. الصبر هو الذي يحول فحم الزمن المرذول إلى ماسٍ ثمين.

 

محمود عاشور بعد خروجه من سجن تدمر الرهيب، وهي أدنى نقطة في الأرض، لم ينل منصباً سياسياً مثل الأمثلة السابقة، لكنه نال مجداً لعله أرفع من مجدي إدمون وجان فالجان. القناعة كنز ليس كمثله

رأيت شهادات سورية وعربية لمعتقلين سوريين وعرب، منها شهادة أحمد المرزوقي، وفرج بيرقدار، وياسين الحاج صالح، وعمر الشغري، وغيرها. أما شهادات النساء فلها حساب آخر، ليس هذا محله. وقرأت شهادات عن السجن مثل شهادة مصطفى خليفة الروائية، وقد صار أكثر الناجين من الموت نجوماً مشاهير، ونال بعضهم جوائز عالمية. الجوائز العالمية لا تمنح للسجناء الإسلاميين طبعاً. وقابلت بعضهم، منهم أناس لم يظهروا على شاشات الفضائيات، ولم يكتبوا ذكرياتهم ولم يدونوا شهادتهم، وهم جميعاً محل تقدير، ووجدت أكمل الشهادات شهادة محمود عاشور، وأثراها، وهي أطولها حبساً وعذاباً، وأغناها بالتاريخ والوثيقة والدراما، وهي أيضاً أسعدها، وأظنّ أنها أكرمها، وهي شهادة شاهد على سوريا الثانية، من غير جائزة، عالمية أو محلية، وفي كلٍ خير. السعادة هنا كانت في المصير السعيد، فكان محمود يكرر في شهادته قول أبيه بعد خروجه وزواجه وإنجابه أنه لا يصدق أنه التقى ابنه بعد ربع قرن ورأى أحفاده، وقد أنجب أولاداً ثلاثة، من دمه ولحمه، وليس تبنياً مثل أوديت في قصة البؤساء، ومن الجدير بالذكر أنّ المعتقلين غالباً ما يخرجون من السجن معقمين، بلا خصوبة، بسبب أمراض البروستات. تزوج محمود امرأة سعدت بالزواج منه، ونال الشهادة الجامعية بسهولة، وهو ينوي التقدم للشهادة العالية، وسوى ذلك برع في علوم البرمجة، حتى إن شركات عربية عملاقة سعت إلى توظيفه.

حرصتُ قبل فترة على مشاهدة أفلام الهرب من السجون، ورأيت أهمها، وأفضلها فلم "شاو شانك"، وهو فلم مقتبس من قصة الكونت دي مونت كريستو، التي مثلت عشرات المرات للتلفزيون والسينما، وقارنت سجون العالم الرهيبة بسجون الأسد،، فوجدت أن المعتقل السوري يبزّها جميعا في القسوة والنكال. في أسوأ سجون العالم السجناء يأكلون وينامون ويحلمون، وأفضل السجون التي رأيتها هو سجن "جزيرة الشيطان" في فلم "الفراشة" المقتبس من رواية "الفراشة" لهنري شاريير، الذي وصف بالقسوة. السجين يسجن في قلب الطبيعة، ولو خيّر المواطن السوري لا المعتقل السوري بالعيش فيها، لعدّها منتجعاً، أقول: إن قصة من قصص السجناء السوريين لو مُثّلت في فلم سينمائي، وأخرجه مخرج مقتدر، لأذهلت العالم وحصدت جوائز الأوسكار الاثنتي عشر. إن آلام المسيح نفسها نزهة بالمقارنة معها.

فرديناند فردٌ حاسد في قصة الكونت، سطا على ثروة وحبيبة صاحبه إدمون. الفرديناد السوري، لص استولى على ثروة وطن في قصتنا، وحبيبات الملايين، ولفّقَ لهم تهمة الإرهاب، ونحن جميعاً ضحاياه، الكونت دي مونت السوري، شعب وليس شخصاً واحداً.

بأبصارنا الحسيرة، نرى في حيواتنا القصيرة بعض العقوبة لبعض المجرمين، مثل عقاب القذافي، وعقاب علي عبد الله صالح، وأحياناً يكون العقاب على شكل تمديد في الطغيان كما نرى للسيسي في الحكم، ومبارك في العمر، ونرى بعض الثواب مثل صعود إلهان عمر ورشيدة طليب، "وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ".

التعليقات (4)
انس
الثلاثاء، 22-01-2019 07:43 م
أنت استاذنا استاذ أحمد :)
dalal ahmed
الثلاثاء، 22-01-2019 05:45 ص
ماتكابه ليس مقالات فحسب ، بل هو تأريخ للثورة والثوار ..وغداً أو بعد غد أو في يوم ما سيتعرّف الجيل القادم غلى ثورتنا ومعتقليها وعذاباتهم وعلى سيرة دامية لشعب ليس له ذنب سوى حكّامه . دام قلمك الجميل .
احمد عمر
الإثنين، 21-01-2019 11:18 م
شكرا انس
انس
الإثنين، 21-01-2019 10:25 م
قرات المونت دي مونت كريستو عندما كنت في الصف التاسع عام 1996 وحضرت الهروب من شاوشنغ 1998 وتأثرت به كثيرا وعشقت البؤساء ومائة عام من العزلة في مطلع الالفية.... الا انني لم اعرف احمد عمر الا بعد الثورة وهو في رايي لا يقل عن ما تم ذكره.... شعب لازمو ثورة حتى يعرف كتاب وطنه.... يا سيدي لازمنا قندرة على راسنا كمان.... شعب خر***..... اهلين استاذ احمد