كتاب عربي 21

إفلاس حتى في استخدام القاموس

جعفر عباس
1300x600
1300x600

عمدت الحكومة السودانية خلال الأسابيع الأربعة الماضية، إلى النهل من نفس القاموس الهزيل الذي درجت الأنظمة الديكتاتورية، في مختلف القارات وبمختلف اللغات، على استخدام مفرداته لوصم جميع من يعارضونها: عملاء ومندسون ومخربون وخونة ومرتزقة وشذاذ آفاق.

مع بدء العشرية الأخيرة من القرن الماضي، كف الطغاة العرب عن اتهام معارضيهم بأنهم عملاء لروسيا، ذلك أن العمالة لموسكو صارت مستحبة منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، بينما ظل الحكام العرب يحتكرون حق العمالة لواشنطن.

 

إقرأ أيضا: عضو بـ"علماء السودان": المحتجون مخربون وعملاء للموساد

بعد اشتعال المظاهرات المستنكرة لتدهور الأوضاع المعيشية في العديد من مدن السودان، ثم رفع المتظاهرين لشعار تغيير النظام، سعت حكومة الخرطوم إلى ممارسة خداع الذات الذي أتقنته من فرط طول الإمساك بلجام السلطة، وذلك بأن اتهمت الشيوعيين والبعثيين بتأليب شرائح مضللة من الجماهير عليها.

فات على تلك الحكومة أنه لو كان للشيوعيين والبعثيين كل ذلك التأثير على الجماهير، فلا بد أنهم يتمتعون بشعبية تفتقر اليها الحكومة، التي، وكلما أحست بأنها بحاجة إلى الاطمئنان بأنها مسنودة جماهيريا، حركت دواليب جهاز الدولة ورصدت مبالغ طائلة، لحشد الناس في ساحات بعينها، مع تلقينهم ما ينبغي أن يصدحوا به من هتاف.

خلال الحكومة الديكتاتورية العسكرية الأولى في الخرطوم (بقيادة الفريق إبراهيم عبود 1958- 1964)، كانت هناك جبهة حزبية عريضة لمعارضتها، ولكن تلك الحكومة ظلت تقوم بدور إدارة العلاقات العامة للحزب الشيوعي، فكان أن فاز بمقاعد برلمانية ذات ثقل معنوي، في البرلمان الذي تم تشكيله عقب سقوط الحكومة.

وخلال ديكتاتورية المشير جعفر نميري (جملة اعتراضية: رتبة مشير هي مارشال عند الفرنجة، ولا ينالها عسكري إلا عندما يبلي بلاء استثنائيا في معارك حربية، ولكن وفي العالم العربي، حيث "ألقاب مملكة في غير موضعها/ كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد"، فإن الضابط الجالس على راس السلطة ينالها قفزا بالزانة حتى ولو لم يكن قد نجح في اصطياد أرنب قابع في قفص في حديقة الحيوان).

خلال حكم جعفر نميري، وتحديدا في 19 تموز (يوليو) من عام 1971، أقدم ضباط شيوعيون على عملية انتحارية، بتدبير انقلاب ضده وبقوا في السلطة لثلاثة أيام (إلا بضع ساعات)، ورغم أن الحزب الشيوعي ظل منذ ذلك التاريخ في حال انكماش وذبول، إلا أن نميري ظل يهذي حتى آخر نفس في حكومته، بأن كل معارض له شيوعي أو عميل للشيوعيين.

 

اتهام البعثيين 

عرف السودان حزبين للبعث (عراقي وسوري)، ولكن ذاك المحسوب على بغداد ظل الأجهر صوتا في الساحة السياسية، ويحظى باحترام في دوائر اليسار السوداني، ولكنني لا أحسب أن له من العضوية في عموم البلاد، ما يكفي لتسيير موكب جماهيري هادر يزعج حكومة ما، ومع هذا، وبسب كفاءته في معارضة الحكومات الديكتاتورية، فقد رأت الحكومة الحالية اتهامه بالوقوف وراء التظاهرات التي شهدتها البلاد خلال الأسابيع القليلة الماضية؛ وهو شرف لا يدعيه البعثيون، وتهمة لا ينكرونها.

 

الزعم بأن هناك مندسين في المظاهرات حمّال أوجه، فهو من ناحية إقرار لفظي بأن قسما كبيرا من المتظاهرين "لا غبار عليهم وأهل بلد"، ويعني من ناحية أخرى أن هذا القسم الكبير قطيع من البلهاء،


ومع أن الحكومة السودانية الحالية لم توافق قط على منح أي جهة رخصة بتسيير موكب يعارض سياساتها (ذلك الحق مكفول على الورق منذ عام 2005)، فقد طفقت منذ تفجر المظاهرات الأخيرة على ترديد مقولة إن حرية الاحتجاج والمعارضة مكفولة بنص الدستور، "ولكن المندسين والمخربين خرجوا بتلك المظاهرات عن مسارها الأصلي"، وكأنما الحكومة لا تمانع في أن يفضح الناس عجزها وقعودها (وهذا هو مسار المظاهرات "الأصلي" الذي توحي الحكومة ضمنا بأنه لا غبار عليه)، بينما رفضت التصريح المرة تلو الأخرى لمبادرة المهنيين السودانيين بتسيير مواكب سلمية لتسليم عرائض إلى قصر الرئاسة والبرلمان.

والزعم بأن هناك مندسين في المظاهرات حمّال أوجه، فهو من ناحية إقرار لفظي بأن قسما كبيرا من المتظاهرين "لا غبار عليهم وأهل بلد"، ويعني من ناحية أخرى أن هذا القسم الكبير قطيع من البلهاء، يساق على دروب لا يعرف منعطفاتها، وهو من ناحية ثالثة اتهام لشريحة كبيرة من المواطنين بأنهم يحشرون أنوفهم في ما لا يخصهم "بالاندساس" في المواكب، ما يعني ضمنا عدم أهليتهم لـ "المواطنة".

أما اتهام المعارضين للحكم بالخيانة والارتزاق، فذخيرة تستخدمها جميع الحكومات العربية المستبدة لتجريدهم من المصداقية، ثم بلغ الشطط بالحكومة السودانية مداه عندما وصفت من خرجوا إلى الشوارع خلال الانتفاضة المقبورة في أيلول سبتمبر من عام 2013، بأنهم شذاذ آفاق، وعلى ذمة قواميس اللغة العربية، فشاذ الأفق أو الآفاق هو الذي لا ينتمي إلى الوطن أو الجماعة، وهكذا قالت الحكومة صراحة إنها الوطن والجماعة، ومن يخرج عليها يسقط عنه حق المواطنة، ويكون خارجا على "الجماعة".

إن عجز حكومة ما حتى عن استخدام مفردات اللغة على النحو الصحيح لتغطية عجزها عن أداء مهامها، إفلاس يؤكد أنها استنفدت جميع أسلحتها، وصارت عاجزة حتى في مجال البروباغندا، وهو المجال الذي يفترض أن الأنظمة الديكتاتورية بارعة فيه.

 

إقرأ أيضا: 5 سيناريوهات متوقعة بالسودان بظل الاحتجاجات.. تعرف عليها

التعليقات (0)