قضايا وآراء

بابا الفاتيكان: تمجيد الشهداء دون "لاهوت التحرير"

حسام شاكر
1300x600
1300x600

يكفي تمجيد الشهداء والاستشهاد لوَصم أئمة أو خطباء مسلمين في أوروبا بنعت "خطباء الكراهية" أو بدمغة "التحريض على التطرف".

 

هذا ما عليه الحال في بعض البيئات الأوروبية؛ حتى إن تعلّق الأمر أحياناً بموقف متضامن مع ضحايا شعوب مضطهدة أو بتعبير متعاطف مع فدائيي حركات تحرّر من الاحتلال.


لكنّ بابا الفاتيكان فرانسيس لديه امتياز خاص للإفصاح العلني عن موقف مخصوص في هذا الشأن، وإن جاء بتعبيرات غير معهودة على هذا النحو في البيئة الأوروبية التي يبدو أحياناً دخيلاً على أعرافها. 

انتهز رأس الكنيسة الكاثوليكية حلول "عيد الميلاد" ليبارك الشهداء الذين يقدِّمون دماءهم وحياتهم، بتغريدة نشرها في حساباته الرسمية على "تويتر" باستثناء حساب واحد منها، وهو ما يُضفي على الموقف تأويلات متضاربة.

 

خصّص بابا الفاتيكان تغريدته هذه لتمجيد الشهداء "الذين يقدِّمون أرواحهم لأجل المسيح"، مشيراً إلى أنهم اليوم كُثُر وإن لم يحظَوا بعناوين الأخبار.

 

يأتي هذا التصريح النادر في السياق الأوروبي على لسان بابا الفاتيكان ذاته، القادم من أمريكا اللاتينية.

قلائل هم الذين يتحدثون علناً بهذه النبرة في أوروبا ضمن الأوساط الكنسية أو غيرها، فخطاب الشهادة والاستشهاد لا يمكن توقّعه في أوروبا اليوم من وسط ديني كنسي؛ لا في الكاثوليكية ولا في أطياف البروتستانتية.

الجرأة في التعبير صارت حاضرة بصفة غير مسبوقة في الفاتيكان منذ أن تولّى فرانسيس البابوية كأوّل بابا غير أوروبي.

وحدها الكنيسة الأرثوذكسية في اليونان وروسيا وجوارها والبلقان هي التي احتفظت بشيء من التعبيرات المباشرة كهذه، فالأوروبيون الشرقيون والأرثوذكس عموماً أقلّ احترازاً من الغربيين في الإفصاح عن المواقف الاجتماعية وحتى السياسية، ويميل بعضهم إلى تعبيرات مباشرة قد تأتي مفاجئة أو صادمة أحياناً.

من هؤلاء مثلاً الواعظ المسكوبي الشهير ورجل الدين الأرثوذكسي الروسي ديمتري سمِرنوف الذي يتحدث علناً عن مبدأ "الاستشهاد لأجل المسيح" كما في إشارته إلى القديس اسطيفان (سان اسطيفانوس) الذي يُعدّ "أوّل الشهداء" حسب السردية الكنسية طبقاً لما ورد في "سِفر أعمال الرسل".

 

ويُعَدّ سمِرنوف بخطبه ومواقفه ذائعة الصيت في موسكو حيث ينشط وعموم روسيا؛ من دعاة الخط المحافظ في كنيسته، دون أن يُفارِق تعبيرات مثيرة للجدل في بلاده ذاتها وهو الناشط بقوّة ضد الإجهاض.

لكنّ الجرأة في التعبير صارت حاضرة بصفة غير مسبوقة في الفاتيكان منذ أن تولّى فرانسيس البابوية كأوّل بابا غير أوروبي.

 

فقد تجاوز هذا الأرجنتيني بإطلالاته الودودة وبعض مواقفه وتصريحاته تقاليد وأعرافاً بابوية راسخة.

 

كان ذلك مشهوداً عبر السنوات الماضية في المجال الطقوسي أيضاً،فبدلاً من غسل أقدام الكرادلة في عيد الفصح؛ اعتاد فرانسيس منذ توليه المنصب الأبرز في الكنيسة غسل أقدام "بدائل" عنهم اختارهم من شرائح مهمّشة وضعيفة مثل الفقراء وطالبي اللجوءليلقوا تكريماً رمزياً بموجب الطقس الذي يحاكي غسل المسيح عليه السلام أقدام الحواريين؛ طبقاً للرواية الكنسية.

وخلافاً لتعبيرات صدرت عن سلفه بينيدكتوس السادس عشر فُهِمت على أنها إساءة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أعرب بابا الفاتيكان الحالي عن مواقف تضامنية مع المسلمين في محطات ساخنة؛ منها واقعة "شارلي إيبدو"، الصحيفة الفرنسية الهابطة التي أساءت إلى الإسلام بطريقة مُهينة، فقال للصحفيين في هذا الصدد عام 2015 إنّ "من يُسيء إلى أمي عليه أن يتوقع لكمة في وجهه".

لكنّ المواقف المبدئية التي تقدّم فيها فرانسيس على أسلافه في البابوية تعثّرت في محطات أخرى وتخلّل بعضها كبوات فادحة، كما جرى خلال زيارته ميانمار في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، في ظلال ذروة حملات التطهير العرقي الجاري بحق الروهنغيا المسلمين، الذين وقع تشريد ثلثي مليون منهم إلى خارج الحدود في شهور قليلة.

 

التقى فرانسيس خلال زيارته قيادات عسكرية ومدنية وكهنوتية ضالعة بشكل مباشر أو غير مباشر في استمرار مأساة الروهنغيا التي تُنكِر رانغون وقوعها.

 

اكتفى بابا الفاتيكان خلال زيارته الإشكالية بلغة دبلوماسية رمزية فاترة تحاشى فيها تسمية الأشياء بأسمائها، فبدا هذا تهاوناً جسيماً من رأس الكنيسة الكاثوليكية مع فظائع لم يجرؤ على مجرد الإشارة إليها بوصف يليق بها؛ فضلا عن عدم تسميتها بالتطهير العرقي أو الإبادة.

 

وجاء امتناع فرانسيس خلال الزيارة عن التلفظ بكلمة "روهنغيا" ليؤكد أنّ الفاتيكان اختار عدم مكاشفة مضيفيه بالحقائق.

إنها معضلة التوازنات والتجاذبات الفاتيكانية الشاقة في السياسات والمواقف؛ بين السياسي الدنيوي والمبدئي الأخلاقي، وهذا لدى جهة واسعة النفوذ تجمع الصفة الدينية الروحية التي تعلن الارتباط بالسماء؛ مع السلطة المؤسسية والمصالح الرعوية؛ فالفاتيكان يبقى "دولة" لها مصالح وأتباع وشبكات نفوذ، وإن كانت دولة مصغّرة أو رمزية. 

تشهد فلسطين، بوضوح، على جانب من هذه المعضلة، فالمواقف الفاتيكانية رغم تعبيراتها الإيجابية غالباً إلاّ أنها تبدو فاترة ودبلوماسية للغاية حتى عندما يتعلّق الأمر بانتهاكات الاحتلال لمصالح كنسية في "الأراضي المقدسة".

 

وليس واضحاً في النهاية إن كان تمجيد الشهداء في الخطاب الكنسي، كما في التغريدة البابوية، يشمل آلاف الشهداء الفلسطينيين الذين فتك بهم جيش الاحتلال.

واضح أنّ مفهوم "الشهادة" و"الشهداء" في هذا الخطاب الكنسي عام وفضفاض، وهو يُساق مجرّداً من الإيحاءات النضالية أو التحررية.

 

قد تُفهَم الرسالة في أوروبا على أنها شهادة الضحايا الذين تُزهَق أرواحهم وتُراق دماؤهم بسبب التمييز الديني بحقهم، لا شهادة الفداء والتضحية التي تنادي بها حركات التحرر أو ما تبقّى منها في هذا العالم الذي يضجّ بالمظالم والانتهاكات؛ وإن كان أبطالها من أتباع البابا ذاته.

 

لكنهم في أمريكا اللاتينية، موطن فرانسيس، يستحضرون خبرات "لاهوت التحرير" الذي نبذته الكنائس الغربية طويلاً ونأت بنفسها عنه، وهي التي اتُهمت تقليدياً بالضلوع في التوسّع الاستعماري أو تقاسم بعض الأدوار الوظيفية معه.

عندما يأتي هذا الخطاب الكنسي الأوروبي على تمجيد الشهداء فإنه يمنح الانطباع بأنه يحصر المعنيين به بأتباع الكنيسة الذين سقطوا بسبب الاضطهاد الديني ولا ينفتح على مفهوم إنساني عام للشهادة والشهداء.

 

كما أنه يحيِّد أي إشارات إلى روح تحدٍّ أو فعل نضالي؛ كي لا يُربَط هذا الخطاب بكفاح حركات التحرّر أو حتى بثقافة "لاهوت التحرير" التي تطوّرت في أمريكا اللاتينية الكاثوليكية ضمن خبرات النضال المجتمعي ضد الفقر والاستبداد في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.

علاوة على فحواها المفاجئة نسبياً، خاصة في موسم الأعياد، فإنّ ما يثير الانتباه أيضاً في تغريدة بابا الفاتيكان إطلاقها يوم 26 ديسمبر/ كانون الأول 2018 من حساباته الرسمية على "تويتر" بلغات ثمان، هي الإنجليزية والفرنسية واللاتينية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية والألمانية والبولندية، بينما خلا منها حسابه الرسمي التاسع الذي اكتفى بتغريدات نمطية عن الحبّ والوئام و"صانعي السلام"، وهذه المنصّة الأخيرة ليست سوى حساب "البابا فرانسيس" بالعربية، المكلّل بالعلامة الزرقاء أيضاً.

 

يفتح هذا الاستثناء العربي الباب لتأويلات شائكة وتخمينات متضاربة، ورأى فيه بعضهم خطاباً مزدوجاً. وأن يأتي هذا التعبير عبر "تويتر" تحديداً فإنه يحيل المتابعين إلى زمن التغريدات المنفلتة من ضوابط الخطاب الرسمي النمطي، حسب أسلوب المفاجآت التويترية الذي يكرِّسه دونالد ترمب من موقعه في البيت الأبيض.

يتغيّر عالمنا بصفة متسارعة، وتجري مياه كثيرة في وادي التيبر قبالة حاضرة الفاتيكان، ومن ذلك تغييرات واستقالات متلاحقة في مواقع الإعلام والاتصال في المؤسسة البابوية ذاتها قبل"عيد الميلاد" وبعده مباشرة.

 

وسواء أكان لهذه الخطوة صلة بهذا الأداء الإعلامي للفاتيكان أم لم يكن؛ فإنّ بعض المواقف والتصريحات البابوية ستبقى مثيرة للجدل وستفتح باب التأويلات والانتقادات على مصراعيها.

0
التعليقات (0)