كتاب عربي 21

الصبر على الثورة ومعها

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
بعض الحديث عن الثورة في تونس يذكر بحديث القذافي وأمثاله عن ثوراتهم.. كلام منفوخ بالمعجزات الكاذبة، لذلك أفضل عدم ترديده، ولكن التواضع لا يعني امتهان مكاسب الثورة التي لا ينكرها إلا جاحد يقتله الحنين إلى منظومة القهر الاستبداد واللصوصية.

كما يوجد إنشاء كثير حول طبيعة الثورة التونسية، فالبعض لا يزال غارقا في تنظيرات عقيمة حول ما كان وما سيكون.. هذا الإنشاء محكوم بقيود قياس اللاحق على السابق، كأنما لا يكون التاريخ في ذهنه إلا استعادات متطابقة، بما يجعل التاريخ عنده آلة نسخ غبية تسحب الثورات على نموذج واحد.

هذه الورقة لا تستعيد أي تنظير مسبق حول نماذج الثورات لتقيس به، ولا تعمل على تحقير المكاسب التي تفرض نفسها الآن وهنا، ولكن الحديث عن الثورة في ذكرى انطلاقتها استدعى عندي الدعوة إلى الصبر على الثورة ومسايرة نسقها.

أي شيء حصلنا من الثورة

هذا أكثر سؤال يُصفع به كل من يمجد الثورة.. يُسمع هذا الكلام في حديث المقاهي الشعبية وفي مجالس الموظفين في الإدارات، بل يردد بعضه أساتذة الجامعة، وهي أوساط أجلس إليها وأسمع منها. ويمكن في مثل هذه الأحاديث أن تسمع بكل بساطة من يقول لك ماذا نفعل بالحرية، فالمهم أن أملأ بطني.
الذين لم يروا في الثورة إلا دفقا ماليا ينتهي في جيوبهم وبسرعة فائقة. وقد تجلى هذا السلوك العجول في النخب أكثر مما تجلى في الفئات الشعبية التي لا تخوض في الفلسفة الثورية

هذه الأحاديث كاشفة لجانب من شخصية أساسية تونسية جشعة وعجولة، ولا صبر لها على الثورة، رغم صبرها الطويل على الدكتاتورية. بل إن تعثر الثورة في تحقيق كل مكاسبها يعود إلى هذه الفئة من الناس؛ الذين لم يروا في الثورة إلا دفقا ماليا ينتهي في جيوبهم وبسرعة فائقة. وقد تجلى هذا السلوك العجول في النخب أكثر مما تجلى في الفئات الشعبية التي لا تخوض في الفلسفة الثورية، وهو ما ضاعف عند الناس هذه اللهفة على تحويل الثورة إلى زيادة في الرواتب.

يمكن تقديم نماذج كاريكاتورية لهذا الاستعجال، منها نموذج حزب "توا توا" ومعناها الآن. الآن قاد هذا التيار الملهوف (تحت مسمى الحزب الوطني الحر) شخص نبت فجأة في عالم السياسة، كأنه دمل على أنف الثورة، ودخل البرلمان والحكومة، ومنها نموذج قيدوم النضال السياسي، السيد نجب الشابي، الذي صار أضحوكة الشارع السياسي. وسأتخذهما نموذجين لحالة عدم الصبر على الثورة، بل لحالة اللهفة التي أضرت بها.

قطف البرقوق

في تونس يطلق لفظ البرقوق على حبة المشمش قبل اصفرارها (نضجها)، وقطف ثمرة المشمش خضراء يتخذ علامة على الاستعجال. وقد قطف السيد نجيب الشابي (نموذج من نماذج كثيرة) مشمشته خضراء، فضرس بها. في ليلة 13 كانون الثاني/ يناير، والثورة تنتشر في هشيم النظام وتعم كافة مناطق البلد، قفز السيد نجيب إلى جانب ابن علي يريد إنقاذه. واقترح عليه حكومة إنقاذ وطني، وكان يريد أن يقودها لصالح ابن علي ولقطع الطريق على الثورة.
قفز السيد نجيب إلى جانب ابن علي يريد إنقاذه. واقترح عليه حكومة إنقاذ وطني، وكان يريد أن يقودها لصالح ابن علي ولقطع الطريق على الثورة

تخلى السيد نجيب حينها عن الثورة ومكاسبها المحتملة، وتخلى أيضا عن ماضيه وعن إجماع سياسي حول شخصه تشكل في تجمع 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2005، وكان من أفضل الأعمال السياسية والفكرية التي التقت حولها نخب تونسية مختلفة. فمن رئيس حكومة إنقاذ ابن علي، إلى وزير تنمية عند وزير ابن علي (حكومة الغنوشي الثانية شباط/ فبراير - آذار/ مارس 2011)، إلى المجهول السياسي الذي يخرج منه في كل موسم انتخابي ليذكر بحقه في رئاسة البلد، وقد أنشأ لذلك أكثر من حزب؛ يعقد اجتماعاته في مقر مكتب المحامي السيد نجيب. وقد انتهت مهام سي نجيب إلا واحدة: تأليف صف سياسي ليقطع الطريق على حزب النهضة.

النموذج الثاني هو نموذج سليم الرياحي.. كان شعاره الانتخابي في التأسيسي "توا توا". لم يعرف له أثر في سياسة أو فكر؛ سوى أنه يملك أموالا كثيرة تطارده من أجلها أسرة معمر القذافي. لم يترك نوابه أي أثر في نقاشات التأسيسي، لكنه أفلح في العودة بنفس الأسلوب إلى برلمان (14- 19)، ودخل الحكومة بوزارء لم يسمع لهم ركزا. ونحن نشهد الآن نهايته الكاريكاتورية، فقد حالف يوسف الشاهد ضد الباجي من أجل الحصول على وزارة سيادية، فلما لم يظفر بها قفز فجأة إلى جانب الرئيس ضد الشاهد، فمنحه الرئيس الأمانة العامة للحزب، فرفع بصفته تلك قضية ضد يوسف الشاهد متهما إياه بالتخطيط لانقلاب. ولما تبين له أنه مجرد ألعوبة صغيرة هرب إلى الخارج، وقد خسر نوابه في البرلمان بعد أن نقلهم كبعض الأثاث إلى كتلة ابن الرئيس.
النموذج الثاني هو نموذج سليم الرياحي.. كان شعاره الانتخابي في التأسيسي "توا توا". لم يعرف له أثر في سياسة أو فكر

المستعجلون هم ماضي الثورة

عدت إلى ذكر هذين النموذجين وهما ليسا الوحيدين؛ لأشير إلى أن النهايات تكشف طبيعة النوايا والعمل. كل الذين رغبوا في قطف برقوق الثورة ضرسوا بل فقد الكثير أسنانه. ولم يكسبوا من عجلتهم إلا الخسران المبين على الصعيد السياسي، كما على الصعيد المالي. فقد أنفقوا مالا لبدا فارتد عليهم خسرانا.

إنه درس الثورة التونسية التي لم تمارس العنف على أعدائها وتركت لهم حرية الحركة، فكشفت طبيعة تفكيرهم أمام الشعب (الناخب التونسي) فصفاهم تباعا، حيث أنه في كل مرحلة سقطت قيادات وأحزاب.

اشتغلت الثورة هنا غربالا لتصفية من لم يؤمن بها دون دم، وكان للصندوق الانتخابي دور مهم.
درس الثورة التونسية التي لم تمارس العنف على أعدائها وتركت لهم حرية الحركة، فكشفت طبيعة تفكيرهم أمام الشعب

يقول المستعجلون إن الانتخاب ليس كافيا، ففلول النظام تمر عبره للحكم، وهذا صحيح، ولكن الحكم أكمل دور الغربال الانتخابي، فلم يبدع من هؤلاء العائدين أحد إبداعا يضمن له الصندوق في دورة أخرى. تلامذة فاشلون، ولا أحد أظهر فشلهم وفضحه غير الثورة. لقد أسقطت الثورة الجهاز الإعلامي الذي كان يصورهم للناس كعباقرة، وسحب منهم الجهاز الأمني الذي كانوا يوظفونه لقمع كل نقد أو مراجعة، ولو من داخل منظومتهم، فظهروا عراة حاسري الرؤوس أمام شعب ملك حريته. ونحن نشاهدهم الآن يتآكلون سياسيا واقتصاديا.

شيء من الصبر على المستقبل

وجب التوقف عن طرح السؤال ماذا كسبنا من الثورة خاصة لدى المؤمنين بها، فالثورة تتقدم في هشيم منظومة لم تعد قادرة على البقاء. لقد تشتت شمل طبقة رجال الأعمال الفاسدين وهم يتقافزون من سفينة الفساد. وتجري الآن حالة فرز في صفوف الإعلاميين هادئة، بل عسيرة لكن الأصوات الحرة بدأت تجد طريقا إلى قلوب الناس.
في ذكرى الثورة أسقط الشباب المتحرر في وسائل الاتصال الاجتماعي آخر مغامرة ممكنة للثورة المضادة (مظاهرة السترات الحمراء)؛ كان قد حشد لها أصحابها طيلة شهور

بدأ الناس ينتبهون إلى الاستغلال السياسي للنقابة التي يمكن وصفها بقائد الاستعجال الثوري، حيث حطمت بالمطلبية المجحفة كل مشروع وطني فرضته الثورة. والأصوات عالية من داخل النقابة؛ أن كفى توظيفا للنقابة في الكيد السياسي.

هذا مكاسب تتعلق أساسا بالقدرة على التقدم إلى الأمام في أفق يقرب الناس من تحقيق مطالب ثورتهم الاجتماعية. لقد برهنوا على ذلك، ففي ذكرى الثورة أسقط الشباب المتحرر في وسائل الاتصال الاجتماعي آخر مغامرة ممكنة للثورة المضادة (مظاهرة السترات الحمراء)؛ كان قد حشد لها أصحابها طيلة شهور، فسقطت في ليلة ولم نرها في الشارع، وذهب تدبير أصحابها سدى.. لقد سقطت أمام الحرية. وأمكن القول أن الحرية هي التي بدأت الآن تضمن بقاء التونسيين في سياق ثورتهم وتحقيق طموحاتها بشيء كثير من الصبر على الأذى الصادر، خاصة من جماعة "توا توا"، والذين يريدون أن يحولوا كل شيء إلى وجبة دسمة على طاولاتهم، بما فيها حرية المفقرين في الاحتجاج على فقرهم. هذه فرادة الثورة التونسية التي أخرست الباحثين عن قياس اللاحق بالسابق؛ لأنهم سلفيون موتى في نص غير مقدس.
التعليقات (1)
مصري جدا
الثلاثاء، 18-12-2018 09:27 م
يكفي لشعب تونس ان يلقي نظرة على أحوال المصريين ليعلم أن التعجل على جني الثمار سيحرق الشجرة بالكامل ،،، يكفي لنخبة تونس ان تنظر أين الآن النخبة المصرية ،،، غالبيتهم في السجون وفي المقدمة من دعموا الثورة المضادة و الانقلاب العسكري ،،، الحرية أغلى واهم مكتسب ،، نعم هناك معاناة وبطالة وغلاء اسعار وغير ذلك ،، لكن الذين يتآمرون على ثورة الياسمين لن يزيدوا الشعب إلا معاناة وآلم ،، هل رأيتم ماذا فعل السيسي بمصر ،،،

خبر عاجل