كتاب عربي 21

الإخوان والنهضة ومأزق الديني والدعوي

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600
في حوار أجراه معه تلفزيون بي بي سي، سئل القائم بأعمال المرشد العام للإخوان المسلمين، محمود عزت، عن موقف الجماعة من حركة النهضة التونسية، فأجاب بأن لكل ظروفه وواقعه الخاص "لكن النهضة قبلت بالفصل بين السياسي والدعوي، في حين أن الإخوان متمسكون بوحدة الاثنين معا ولا نرى أي مبرر للتمييز بينهما". وبذلك لخص الرجل إحدى الصعوبات التي تواجهها حركات الإسلام السياسي اليوم.

فالإخوان في مصر بالذات مصرّون (حتى وهم يعيشون مرة أخرى محنتهم المتكررة مع نظام الحكم) على النظر لأنفسهم بكونهم دعاة مهمتهم المركزية هي "إرشاد الناس إلى الدين الحق"، ولا يرون في ذلك تعارضا مع ما يخططون له ويعملون من أجل الوصول إلى السلطة. إذ يعتبرون ذلك التزاما منهم بشمولية الإسلام التي انطلق منها حسن البنا؛ وأسس في ضوئها الجماعة قبل تسعين عاما. ولهذا السبب بقي الإخوان غير مطمئنين للمنهج الذي اختارته حركة النهضة، واعتمده من قبل مؤسسو حزب العدالة والتنمية المغربي عندما فكروا في ما أطلق عليه التونسيون "التخصص"، أي أن يتفرغ جزء منهم للعمل المسجدي والدعوي، في حين يتوجه الجزء الآخر نحو العمل السياسي الذي يتمثل في تأسيس حزب يسعى نحو الوصول إلى السلطة عبر الانتخابات.
عندما نوقشت هذه المسألة داخل التنظيم الدولي، تمسك الإخوان المصريون بالخصوص بما تركهم عليه المؤسس الأول

يعتقد المرشد العام الحالي وكذلك كل من سبقوه في هذا المنصب؛ أن هذا التمييز بدعة، وأنه مدخل خاطئ يؤدي بأصحابه إلى العلمنة التي تتعارض مع وحدة الدين، وتخلق ثنائية غير محمودة، وتجعل الإسلاميين يبتعدون تدريجيا عن الحقيقة الدينية غير القابلة للتجزئة. ولهذا، عندما نوقشت هذه المسألة داخل التنظيم الدولي، تمسك الإخوان المصريون بالخصوص بما تركهم عليه المؤسس الأول، كما نصحوا الإخوان التونسيين وفي المغرب الأقصى بعدم التنازل لضغوط العلمانيين، إذ لكل مشروعه ومنهجه. وحتى عندما توفرت التعددية الحزبية في مصر بعد ثورة 25 يناير، واضطرت الجماعة إلى السماح بتأسيس حزب تابع لها، عمل مكتب الإرشاد على الإمساك برقبة هذا الكيان، وعدم السماح له بالاستقلالية التنظيمية والسياسية، وهو ما انعكس سلبيا على التجربة برمتها، حيث بقي القرار في يد أعلى من رئاسة والجمهورية والبرلمان وبقية المؤسسات الدستورية، كما أن قراراتها ملزمة للحزب الناسك بالسلطة.

رغم تمسك محمود عزت بموقفه، إلا أن الجدل متواصل داخل إخوان مصر، حيث تتعالى أصوات في صلب الجماعة تنادي بضرورة مراجعة هذا الموقف، وخوض تجربة جديدة قائمة على توزيع للمهام والأدوار.

أدركت حركة النهضة أخطار التصادم الذي سيحصل بالضرورة بين تنظيم متعدد الغرف والطوابق؛ وبين السعي نحو إقامة نظام ديمقراطي يقتضي الفصل بين الشؤون الدينية والمجال السياسي القائم على ضمان تساوي الفرص بين جميع اللاعبين.

لقد حافظت الحركة على الجمع بين السياسي والديني طيلة السنوات الماضية، وهو ما جعلها عرضة لانتقاد مختلف الأحزاب التي رفضت أن يكون للإسلاميين امتياز هي محرومة منه، ونعني أن يكون لهؤلاء موقع قدم داخل المساجد وفي الفضاءات الدينية؛ مما يكسب الحركة ورقة مهمة من شأنها التأثير على الرأي العام، وإضفاء شرعية دينية على خطابها وأهدافها السياسية.
أدركت حركة النهضة أخطار التصادم الذي سيحصل بالضرورة بين تنظيم متعدد الغرف والطوابق؛ وبين السعي نحو إقامة نظام ديمقراطي

مع ذلك، فإن الفصل، أو بالأحرى التمييز بين المجالين ليس قرارا يتخذ في مؤتمر عام وتصوت عليه القواعد وتوضع له لوائح، بقدر ما هو عقلية وثقافة تتأسس، وتتحكم في المجال العملي، وتضع حدودا للأنصار والكوادر حتى لا تتحول العملية إلى مناورة حزبية مكشوفة.

فحركة النهضة اليوم، وبعد سنتين من تبنيها منهج "التخصص"، واستقالة بعض قادتها الذين أعلنوا عن كونهم سيتفرغون للدعوة، تجد نفسها غير قادرة عمليا على الذهاب بعيدا في هذا الطريق. فالأحداث التي تتوالى بسرعة جعلتها تعود مرة أخرى إلى جذورها العقائدية وخلفيتها الإسلامية التي بقيت تحدد لها عددا هاما من اختياراتها السياسية والاجتماعية.
التمييز بين الدعوي والسياسي يمثل إشكالا حقيقيا لمختلف الحركات الإسلامية

وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى مشروع قانون المساواة في الإرث الذي تقدم به رئيس الجمهورية، ودعمته الحكومة، والمعروض حاليا على البرلمان لمناقشته قريبا والتصويت عليه. لقد شكلت هذه المبادرة السياسية فرصة لإرباك حركة النهضة، ومعرفة مدى استعدادها للتأكيد على كونها حزبا مدنيا. فبعد نقاشات داخل هياكلها، غلب الرأي الداعي إلى رفض المشروع والتصويت ضده باعتباره "متعارضا مع النصوص الشرعية". أي أن حركة النهضة فضلت تبريرا دينيا من أجل رفض مبادرة سياسية.

هكذا يتبين أن التمييز بين الدعوي والسياسي يمثل إشكالا حقيقيا لمختلف الحركات الإسلامية، فهي إن رفضته أوقعت نفسها في مطبات كثيرة يصعب عليها تجاوزها بسلامة، وفي المقابل، إن هي بادرت بالقول بكونها مستعدة لوضع حدود بين المجالين، فإن ذلك ستكون له إكراهات من شأنها أن تدفع بالحركة من جديد إلى الخلط بينهما؛ بشكل يعيدها من جديد إلى المربع الأيديولوجي الحاد.
التعليقات (5)
متفائل
الإثنين، 10-12-2018 02:40 م
كلام جمال من تونس ليس سوى دعوى من مجهول ، لذلك فإن دعواه تحتاج إلى محضر قضائي ، ووثائق هوية المدعي ضرورية لمجريات التحري والإثبات ، ما هكذا تؤكل الكتف عبر شبكات التواصل ؟ أما الشاهد في مثل هذه المباراة فهم الإسلاميون قبل غيرهم في حدود ما يحاك ضد تونس الخضراء من دسائس ومكر .
جمال - تونس
الإثنين، 10-12-2018 01:26 م
فقط معلومة لقارئي المقال: صاحب المقال هو عضو من مجموعة التسعة رهط المفسدين الذين صاغوا قانون الميراث بتكليف من الرئاسة و هدفه ارباك المسار الديمقراطي و الإيقاع بالحركة الإسلامية في تونس.....
الصعيدي المصري
الأحد، 09-12-2018 07:58 م
يقول د. مصطفى محمود : . عندما يصرح الساسة في الغرب بأنهم لا يعادون الإسلام وأنهم ليسوا ضد الإسلام كدين فإنهم قد يكونون صادقين بوجه من الوجوه ... إذ لا مانع عندهم أبدا من أن نصلي و نصوم ونحج و نقضي ليلنا ونهارنا في التعبد والتسبيح والإبتهال والدعاء و نقضي حياتنا في التوكل و نعتكف ما نشاء في المساجد و نوحد ربنا و نمجده و نهلل له ، فهم لا يعادون الإسلام الطقوسي ... إسلام الشعائر و العبادات ... و الزهد ... و لا مانع عندهم في أن تكون لنا الآخرة كلها فهذا امر لا يهمهم و لا يفكرون فيه .... بل ربما شجعوا على التعبد و الإنعزال .. و حالفوا مشايخ الطرق الصوفية و دافعوا عنهم ... و لكن خصومتهم و عدائهم هي للإسلام الآخر . الإسلام الذي ينازعهم السلطة في توجيه العالم و بنائه على مثاليات و قيم . الإسلام الذي ينازعهم الدنيا و يطلب لنفسه موقع قدم في حركة الحياة . الإسلام الذي يريد أن يشق شارعا ثقافيا آخر و يرسي قيما أخرى في التعامل و نماذج أخرى من الفن و الفكر . الإسلام الذي يريد أن ينهض بالعلم و الإختراع و التكنولوجيا و لكن لغايات غير التسلط و الغزو و العدوان و السيطرة . الإسلام السياسي ... الإسلام الذي يتجاوز الإصلاح الفردي إلى الإصلاح الإجتماعي و الإصلاح الحضاري و التغيير الكوني ... هنا لا مساومة ... و لا هامش سماح ... و إنما حرب ضروس هنا سوف يطلق الكل عليك الرصاص .. و قد يأتيك الرصاص من قوى سياسية داخل بلدك الإسلامي نفسه النمط الغربي للحياة تحول الآن إلى قلعة مسلحة ترفض أي منافس أو بديل ... قلعة لها جاذبيتها .. و لها مريدوها أحيانا من المسلمين أنفسهم . و الصدام هو قدر كل من يحاول أن يخرج بالإسلام من باب المسجد و يسعى به خارج التكية الصوفية . و أحيانا يبدأ الصدام من باب البيت و مع مسلمين من أهل البيت أنفسهم من ذوي الهويات الغربية . و آفة هذا العصر أن التقدم العلمي المبهر في الغرب قد غزا الكل و قهر الكل و حمل ضمن ما حمل الحياة الغربية بانحلالها .. و روج لها ضمن الصفقة التي حملت معها كل مغريات القبول .. فأصبح الكثير منا يفتح عينيه ليجد نفسه و قد تعود على تلك الحياة السهلة بمفاسدها و انحلالها و ظن أنها ضرورة لن تقوم بدونها نهضة علمية و لا تقدم تكنولوجي .. و هذا هو تصور إخواننا العلمانيين .. و هكذا أصبح الإسلام السياسي يحارب في جبهتين .. فهو يحارب من أهله و يحارب من الأجنبي في وقت واحد .....
مصري جدا
الأحد، 09-12-2018 07:38 م
موضوع الدعوي والحزبي ،، مختلف تماما عن الديني والسياسي ،،، فالدعوي والحزبي يمثل أنماطا في الممارسة من حيث لغة الخطاب وبرامج التعاطي وميدان العمل ونوع المتلقي وهكذا ،،، أما الديني والسياسي فهي تمثل كليات عامة فضلا عن كونها مكونات في بناء الشخصية الإنسانية بصفة عامة ،، وفي جميع الأحوال المسألة بحاجة إلى حوار هادئ ونقاش علمي لنصل لحدود اطارية في كيفية ممارسة الدعوي وكيفية ممارسة الحزبي وفي جميع الأحوال يمثل دستور البلاد الذي يعتمد الشريعة مصدرا اساسيا من مصادر التشريع مظلة عامة لكل الممارسات والتشريعات ،،، لذا فالموقف في تونس يحميه الدستور الذي يعتبر الاسلام دينا للبلاد ومرجعا لتشريع العباد ،،، هنا ينتفي الارتباك والخلط المزعوم بين الدعوي والحزبي طالما كان الدستورمرجعا ،،، وفكرة التخصص الوظيفي المعمول بها في المغرب وتونس جديرة بالدراسة والإفادة حتى لا يبدآ الآخرين من الصفر ،،،
متفائل
الأحد، 09-12-2018 05:15 م
المشكلة في مستوى عالم الأفكار الذي أفقرناه ، بمعنى ، السبب يكمن في الخواء الفكري ، ونتيجته سهولة وقوع " الإسلاميين" خصوصا الذين أسسوا أحزابا سياسية ، في أتون الصراع الفكري الذي ما احتد مثلما احتد مع نهاية القرن العشري فهل المنظور المدني للدولة يقتضي تخلي رجال السياسة عن معتقداتهم الدينية ، و يشترط على أئمة المساجد تجنب الحديث في السياسة ، وهل السياسة هي فقط تلك الاستحقاقات الانتخابية ومعاركها الهامشية ؟ إن كلام السيد محمود عزت ، إن عبر فإنما يعبر عن واقع محمود عزت داخل حدود مصر تحديدا ، أما اهتمام بعض النهضويين بسؤال فصل الديني عن السياسي فهو مضيعة وقت وخضوع لمساومات المتربصين الماكرين ، لم يحدث أن اختلط الأمر على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام بخصوص هذا السؤال ، ببساطة لأن الحاكم لم يكن ينظر للناس داخل حدود مجتمعهم وكيانهم السياسي ، إلى عامل الدين أو العرق أو الجنس أو اللون أو الانتماء الحزبي ، الجميع سواء أمام الدستور ، أليس كذلك ؟ والناس أحرار في اختيار من يحكمهم ، إذن : حالة الفقر والخواء الروحي والفكري هي التي جعلت السيد محمود عزت و بعض النهضويين في حيرة من أمرهم ، وإلا فإن الديني والسياسي والمدني بعضه ينضح من بعض ، وبعضه يسند البعض الآخر .

خبر عاجل