كتاب عربي 21

كيف تتقدم إسرائيل على الدول العربية؟

شريف أيمن
1300x600
1300x600
تَعتبِر الأدبيات السياسية أن قوة واستقرار الدولة على المستوى الخارجي؛ يرتبطان بصورة طردية مع مساحة الديمقراطية وتداول السلطة على المستوى الداخلي لها. وهذا العامل تحديدا هو الذي يسمح بتقويم مسارات المجتمع، وإرغام الحكام على الاستجابة لتطلعات شعوبهم؛ إما لعدم إزاحتهم من الحكم، وإما لتكرار انتخابهم، هذا من حيث المبدأ العام. فالديمقراطية الداخلية هي الأساس لبناء أي مجتمع قوي، إلا أن هذا لا ينفي أن أغلب الدول الديمقراطية تجعل قيمة الحرية ذات شأن كبير على المستوى الداخلي، في حين أنها ترفض تطلعات غيرها في محاكاة نفس النموذج، خاصة إذا كانت تستفيد من مقدرات الدولة التي ترزح تحت حكم استبدادي؛ يوفر للدول الكبرى احتياجاتها مقابل استمرار بقائه في الحكم.

هذا النموذج من ازدواجية معايير الديمقراطية نراه بوضوح في منطقتنا، وربما يكون المثال الأبرز عقب ثورات الربيع العربي التي تآمرت قوى إقليمية ودولية "ديمقراطية" على إجهاضها، ونراه في دعم هذه القوى لنظم حكم مستبدة مقابل امتيازات تأكل مقدرات الشعوب، وتحفظ بقاء نُظم الاستبداد، ونراه في الممارسات الإسرائيلية التي تتناقض على عدة مستويات، فهناك ديمقراطية على مستوى الإسرائيليين من غير العرب، يقابلها إفقار للإسرائيليين العرب وهضم لبعض حقوقهم باعتبارهم "مواطنين إسرائيليين"، وهناك عداوة مع العرب من غير الإسرائيليين داخل الأراضي المحتلة، ثم هناك قمع كامل للفلسطينيين الذين خرجوامن دائرة الاحتلال في قطاع غزة، دون تفرقة بين المدنيين والمقاومين العسكريين.

رغم السلوك الإسرائيلي الحقير والوحشي داخل وخارج الأراضي المحتلة، إلا أنها تعتبر الدولة الأكثر تقدما في المحيط العربي المأزوم، وهذا يرجع إلى عوامل عدّة، منها عامل تداول السلطة بشكل دوري، ووجود مناخ ديمقراطي على المستوى الداخلي. وهناك عامل لا يقل أهمية عن سابقه يرتبط بالدعم الدولي اللا محدود لدولة الاحتلال الإسرائيلي على كل المستويات السياسية والأمنية والعسكرية والبحثية والاقتصادية. ولا يمكن التقليل من عامل الدعم الدولي الذي أسهم في توحّش إسرائيل في سلوكها الدولي، وتعظيم حجمها السياسي والاقتصادي على المستوى الإقليمي. ثم هناك عامل نَتَجَ عن العاملين السابقين، وهو المرتبط بدور الدولة في تعزيز مكانتها الإقليمية والدولية عبر البحث والابتكار والتصنيع، وهو العامل محل التفصيل هنا؛ إذ تبقى الديمقراطية محل مناقشة بالنظر لما يجري مع الفلسطينيين أو مع عرب إسرائيل أو حتى مع اليهود الشرقيين عموما.

قامت الصناعة في دولة الاحتلال في كنف المؤسسة العسكرية في بدايات نشأة دولة الاحتلال، لكن حدثت طفرة صناعية نهاية الستينيات عندما تم إنشاء مكتب العالِم الرئيسي (OCS)، عقب توجه الحكومة لتشجيع "البحث والتطوير" في القطاع الصناعي الخاص، إذ كان نشاط البحث والتطوير يقتصر على الأبحاث التي يشرف الجيش عليها. ووفقا لكتاب "الاقتصاد السياسي لصناعة التقنية العالية في إسرائيل"، يشرف مكتب العالِم الرئيسي على أربعة برامج:

• صندوق "البحث والتطوير" لمكتب العالِم الرئيسي: ويقوم هذا الصندوق بدراسة مقترحات لمشاريع بحثية مقدمة من الشركات، على أن تهدف المشاريع إلى ابتكار أو تطوير تكنولوجي، وإذا وافق الصندوق عليه (تتم الموافقة على نحو 70 في المئة من الطلبات) فمن الممكن أن تحصل الشركة على منحة تتراوح بين 20 في المئة و50 في المئة من ميزانية المشروع المقترحة.

• برنامج ماغنيت (Magnet): وقد أُسس البرنامج لتحقيق هدفين: الأول، تشجيع المنشآت الصناعية على التعاون بعضها مع بعض عبر الدخول في اتحادات تمارس نشاط البحث والتطوير، والثاني، تشجيع ودعم التعاون بين المنشآت الصناعية والمؤسسات الأكاديمية في نشاط البحث والتطوير الصناعي. وتعد أهداف هذا البرنامج داعمة بشدة لإعلاء قيمة التعاون لأجل الدولة والمجتمع، فإذا كانت التنافسية سمة في القطاع الصناعي، فإن الدولة لا تلغيها، ولكنها تحافظ في ذات الوقت على التعاون لصالح المجتمع، وهو ما نفقده على مستوى الدول العربية كافة، بل تعلو المصالح الشخصية على الجماعية، وهذا على مستوى الحكام، وعلى مستوى المجتمع الأهلي كذلك بتنوع فئاته.

ويقدم البرنامج الدعم للمشاريع البحثية التي تتوفر فيها ثلاثة شروط: (1) أن يكون مقدما من اتحاد عدة منشآت وليس منشأة واحدة، ويُسمح أن تكون إحدى المؤسسات أجنبية "إذا كانت مساهمتها ضرورية". ويبدو من هذا الشرط حرص الدولة على رفع كفاءة القطاع المحلي. (2) أن يكون مشتركا في المشروع باحث أكاديمي مرتبط بمؤسسة أكاديمية أو معهد أبحاث. (3) أن توافق لجنة الأبحاث على المشروع. ويصل الدعم عادة إلى 66 في المئة من تكلفة الاتحاد، و80 في المئة من تكلفة الباحث الأكاديمي.

• برنامج الحاضنات الصناعية: بدأ هذا البرنامج خلال الفترة 1990-1991، ويهدف إلى الأخذ بيد الأشخاص الذين يحملون أفكارا مبتكرة وتحويلهم إلى رجال أعمال رياديين، على أن تكون لدى المتقدم فكرة جديدة في أحد مجالات التقنية، ويقدمها إلى الحاضنة المتخصصة بذلك المجال. وتقوم الحاضنة بالمساعدة في تأسيس الشركة وتقديم مكان ملائم لها، وتحمل تكاليف الكهرباء والمياه والصيانة، وتقديم المساعدة التدريبية لتكوين خبرات علمية وإدارية ومالية لموظفي الشركة الناشئة. ويستمر عمل الحاضنة لمدة سنتين، وإذا تكلل المشروع بالنجاح فإنها تصبح جاهزة للعمل بمعاونة برامج مكتب العالم الرئيسي الأخرى (صندوق البحث والتطوير، وبرنامج ماغنيت). وتتمكن الحاضنة من استعمال المكتبات وقواعد البيانات وأجهزة البحث التي تملكها الجامعات ومراكز البحوث الإسرائيلية.

• البرامج البحثية بين إسرائيل ودول أخرى: يعتبر مركز البحث والتطوير الصناعي الإسرائيلي، هو الهيئة الحكومية المسؤولة عن عقد وتنفيذ اتفاقيات ثنائية ومتعددة مع الدول الأخرى، بهدف تعزيز التعاون بين المنشآت الصناعية الإسرائيلية والأجنبية في مجال البحث والتطوير الصناعي. ويهدف هذا التعاون إلى أمرين: الأول، الاستفادة من الخبرات الأجنبية، ومن ضم الموارد الإسرائيلية إلى الموارد الأجنبية، مما يزيد من حجم الإنفاق على نشاط البحث والتطوير، ويقلل من مخاطر الفشل. والثاني: تمهيد الطريق لإقامة شراكات استراتيجية تعزز القدرات الإنتاجية الإسرائيلية في قطاع صناعة التقنية العالية، كما يعزز الوجود الإسرائيلي في الأسواق الأجنبية.

إن الحديث عن دولة الاحتلال لا يستهدف تجميل وجه قبيح، يتجلى قبحه يوميا في الانتهاكات بحق شعب أعزل، ويتجلى في استقوائه بالغرب ورفض تنفيذ القرارات الدولية التي تنهي احتلاله لحدود ما قبل 1967 في فلسطين وسوريا، فضلا عن نشوء الدولة باحتلال عسكري ومجازر محفورة في ذاكرة التاريخ، بل يهدف الحديث إلى تعرية وجه الأنظمة التي تتغنى بالخطاب التنموي والأمن القومي، وهي في الواقع لا تقدم لشعوبها ما يحافظ على أمنهم ويحقق لهم رفاهيتم، بل تقدم لهم الذل والإفقار والتجهيل، وهو ما يريح دولة الاحتلال، إذ لو تُركت الفرصة في المنطقة للتداول السلمي وتحقيق تطور علمي، فإن بقاءها سيكون محل شك كبير.
التعليقات (0)