كتاب عربي 21

شبهات شكسبيرية في جريمة القنصلية

أحمد عمر
1300x600
1300x600
جريمة قتل خاشقجي فيها خصائص شكسبيرية، لكنها تفتقد خصيصة الملحمية.. الملاحم أبطالها ملوك يشنّون الحروب، ولغة أبطالها تتسم بالبلاغة والشعر وقناع المجازات، والمصائر المثيرة للّوعة. ويمكن القول إنّ جريمة قتل خاشقجي تشبه قتل مكبث لملك أسكتلندا، دنكن، وكان ضيفاً في بيته. قتلُ الضيف الملكَ جريمة عظمى.. قتل الملوك يسبب الحروب عادة، وتكون حروباً طويلة.. وحرب اليمن حرب طويلة؛ ليس خاشقجي سبباً فيها. وثمة تحليلات، والتحليلات نبوءات سياسية ممدودة إلى الأسباب تقول إن حرباً عالمية ثالثة قادمة.

ماكبث، وهو شخصية تاريخية استوحى منها شكسبير مسرحيته؛ سمع نبوءات ثلاث، تقول إنه سيصير ملكاً لأسكتلندا، فيتعجب كيف يصير ملكها وأبناء الملك أحياء، كما كنا نتعجب كيف يصر الحفيد السعودي ملكاً وولي العهد الابن حي يرزق.

لكن النبوءة تتحقق عندما يخلع عليه الملك لقب "لورد كودور"، فيطمع في تحقيق بقية النبوءات.. زوجته طامعة أكثر منه في لقب السيدة الأولى.. تسوّلُ لزوجها قتل الملك الطيب الذي منحه اللقب وحلّ عليه ضيفاً تكريماً له باللقب، وتحرّضه على الجريمة، ويستسلم ماكبث لمكرها ويقتل الملك بخنجر أحد الحراس. قتل خاشقجي يشبه قتل الضيف، كان مواطناً، وعريساً، وسعيداً مثل الملك دنكن، وقُتل مثله غيلة، وكما اتُهم الحراس بقتل دنكن، اتُهم مارقون بقتل خاشقجي.

تتظاهر السيدة ماكبث بالإغماء عند قدوم اللوردين ماكدوف ولينوكس، وسماع خبر مقتل الملك، ويبادر ماكبث من فوره إلى قتل الحرس بذريعة الغضب ليخفي الشهود ويخفي الجريمة والاستقصاء والقضاء، ويتم المقصود بقتل الحراس الأبرياء. ويُخشى في جريمة خاشقجي أن تنفّذ السعودية القصاص في الخمسة الذين طلب الادعاء لهم الإعدام، فنفقد الحقيقة. يهرب أبناء الملك إلى إنجلترا وإيرلندا، فيثيرون الشبهات حولهم بالطمع المبكر في العرش. تظاهرت الحكومة السعودية كلها بالإغماء، ونفت الخبر، ومؤخراً زعمت على لسان رئيس الاستخبارات في إحدى رواياتها؛ أنّ المسألة هي كوكائين. في العراق كان قتل عدي صدام حسين لحنا جيجو مسألة قمار حقاً.. "الكبائر" تجرُّ بعضها.

لاحقاً تصاب السيدة ماكبث بعقدة الذنب، وتنتحر جراء تحريضها زوجها على قتل الملك، ويستمر ماكبث في طغيانه مخدوعاً بتلويحات الغيب والخلود؛ لأن نبوءات الساحرات تقول إنه لن يقتل بيد ابن امرأة، ويواجه جيشين؛ هما جيش ولي العهد مالكوم ابن الملك المقتول دنكن، وجيش ماكدوف الإنجليزي الذي جاء لينتقم لقتل زوجته وابنه، فيقتل بانكو ماكبث، وكان شاهداً على النبوءات الثلاث. وكان قد ولد ولادة قيصرية، وهو تأويل مجازي لقول الساحرات "ليس ابن امرأة"، ويعود عرش أسكتلندا إلى الوريث الشرعي مالكوم.

النبوءات هذه الأيام تقول إن حرباً عالمية ثالثة موشكة على الوقوع، وتُعدد الدراسات الأسباب، وتُغفل أن رئيسي الدولتين العظميين، مغروران، أحدهما كان "بودي غارد" حائزاً على الحزام الأسود، والثاني كان مشرفاً على مصارعات البوكس الاستعراضية.

وكان نَسبُ محاولة التسلسل إلى غزة لصرف النظر عن جريمة القنصلية تحليلاً سياسياً، لولا أن ديفيد هيرست، وهو شاهد من أهلها، أكد أنها كذلك حقاً. فها هي ذا دولة ثالثة صغيرة، وعظمى أيضاً بحيازتها على النووي تفزع إلى التغطية على الجريمة. وروسيا بكّرت في اقتناعها برواية السعودية الأولى المتهافتة، وكذلك فعل ترامب بقناعته بالعناصر المارقة، طمعاً في صفقات الأسلحة، ولولا أن تركيا أشركت معها في الشهادة السلطة الرابعة الأمريكية؛ لكانت القضية منسية أو خبراً صحفياً للتسلية. تأويل زوجة ماكبث المحرضة هنا يأخذ شكلاً دولياً. لقد بنيت عقائد الغرب الدينية والسياسية على الصفقة والمال، منذ أن باع يهوذا المسيح بثلاثين من الفضة.

الجريمة وقعت على أرض مقدسة مرتين: مرة لأنها تمت على أرض الحرمين؛ لأن تقديرات كثيرة لا تزال تقول إن القنصلية أرض سعودية، وفي كل الأحوال لها حصانة الحرم الديني، هذا أولاً، وثانياً لأنها جريمة دولية ومحرمة سياسياً. ويمكن أن نذهب إلى التأويل فنقول: إن القتيل أمير، وإن لم يكن أميراً، فهو سليل عائلة معروفة وشهيرة وثرية، وهو أمير كتابة، لكن نزعم أن المقصود بالقتل السياسي كان أردوغان، فهي المحاولة الثالثة للإجهاز على العملاق التركي الناهض. وهذه شمائل شكسبيرية في صناعة الدراما.

الغرور عنصر أساسي في القتل، والمتهم الذي ورث ولاية العهد قفزاً على الوريث الشرعي، يشبه ماكبث، وهو يظن أنه لن يهزم، وكان قد صرح أنه لن يحجزه عن العرش سوى الموت، وقتل مستأمناً في مكان كان الواجب أن يقدم له الحماية.. المغدور لم يكن هو خاشقجي وحده، فالجريمة مركبة ومزدوجة، والزوجة التي حرضت على القتل قد تكون إسرائيل أو المخابرات الأمريكية.. قصة المارقين رواية أمريكية.

الدول العظمى صاحبة شعارات الحرية والحقوق والجريمة، محرجة أمام الناس، فهي محيرة بين العقيدة والمنفعة.. بين شعاراتها وبين الانتفاع بالمال السعودي. وكانت زوجة ماكبث تتوهم دماً على يديها، تغسلهما فلا يزول الدم. وهو غائب في جريمة القنصلية، فلا أحد يظهر الندم؛ لأن الذين اختشوا ماتوا.. التدويل يزيل الدم بدم أكبر غالباً.

الخصيصة الملحمية غائبة هنا، وفي تراجيديا القنصلية عناصر كوميدية، ولا يفضل من "الملحمية" سوى اللحم البشري المقطع.
التعليقات (1)
ظبيه الهاشمي
الإثنين، 19-11-2018 05:25 م
الدعت كعادتك