كتاب عربي 21

المدخل البحثي.. والنقد الذاتي (37)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
من المهم أن نؤكد أن عملية النقد الذاتي لا تُطلب للنقد فحسب، ولكن تُمارس ضمن عملية مراجعة كبرى لكافة المواقف والمسارات المختلفة، خاصة أننا أمام عملية تغيير تتطلب الوعي الكبير بمتطلبات هذه العملية وتلك المرحلة، واستثمار كافة القدرات التي تؤكد أن البحث في إرادة التغير والعدة التي يتطلبها أمر أساسي للخروج من حال الأزمة التي نواجهها والتحديات التي تتراكم في طريق هذه المسيرة التغييرية.

ومن هنا، فإن المراجعات الكبرى يجب أن لا نمارسها في الخفاء ولا نتعرض لها على المستوى المحدود، ولكن من الواجب أن تكون تلك المراجعات كاملة ومتكاملة، متسعة شاملة، كاشفة لأحوالنا، فارقة في بيانها وفي قدرتها على ترشيد الوعي وتسديد السعي.

ومن نافلة القول في هذا الشأن أن نؤكد أن جهاز المراجعة هذا لا بد وأن يكون حاضرا وبشكل مستمر، لا يتخلف ولا يغفل، فهو لازم لعملية التغيير ذاتها في إطار ممارسة ما يمكن تسميته "النفس الجماعية اللوامة"، والتي تستطيع أن تستدرك على فعلها وتتبين مواطن تقصيرها وقصورها، وتؤسس لمسيرة واعية راشدة فاعلة.

ومن هنا، ورغم أهمية هذه العملية، فإن البعض لا يزال يقدم رجلا ويؤخر أخرى مترددا للقيام بعملية مراجعة كبرى، تارة بدعوى أنه لا يحسن الحديث عن أخطائنا على الملأ، وتارة أخرى أن علينا أن نتعلم من هذه الأخطاء، ولكن سرا من غير إعلام أو إعلان حتى لو أن تلك الأخطاء قد مورست في العلاقات مع الغير، وفي حق قوى مجتمعية وسياسية أخرى، وتارة ثالثة يستند هؤلاء إلى أن النقد الذاتي ليس ذلك وقته ولا يحسن أن نمارسه، فقد اعتقل من اعتقل وامتحن من امتحن وابتلي من ابتلى وتأثر من تأثر، ولا يحسن بنا أن نتحدث عن الأخطاء في موضع الأزمة والمحنة.

وفي واقع الأمر، أن قرار التأجيل في شأن المراجعة إنما يشكل مقدمة لاقتراف مزيد من الأخطاء وترك الأخطاء التي تعتمل في كياناتنا تستمر وتستفحل، ذلك أن التعلم من تلك الأخطاء التي نقع فيها يجب أن لا يستند إلى عقلية الانتظار أو التأجيل؛ لأن بناء المواقف والقدرة على استئناف عملية التغير لا يمكن أن يتم إلا بإشاعة هذه الروح بالنقد الذاتي الجماعي الواسع، حتى يحقق المقصود ويقدم رؤية مختلفة تتلافى الأخطاء، وتقدم النموذج الذي يؤكد أننا لا نختار وحدنا زمن التغير أو وقته. فالزمن لا ينتظر أحدا، والتغيير لن يرحم من تقاعس عنه أو انتظر أو تخلف أو تباطأ، أو لم يعتبر معطياته أو يستوعب موجباته، ذلك أن تلك الممارسة الواسعة الضرورية والمطلوبة لمراجعة واعية شاملة هي في إطار القاعدة الذهبية أنه "لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة إليه".

من هنا، فإني أنصح كافة القوى السياسية وعلى رأسها الإخوان المسلمون بما تشكل من حركة اجتماعية واسعة العدد، والتأثير أن تمارس هذه المراجعة بكل ما أوتيت من قوة، وأن تهتم بتلك الدراسات البحثية التي تجرى في هذا الشأن، بل وجب عليها أن تحرض وتستنفر كافة الطاقات للقيام بأعمال بحثية من هذا القبيل ترشد الوعي وتسدد السعي، ذلك أن الأعمال البحثية إنما تشكل في حقيقة الأمر أعمالا رصينة يستكشف من خلالها عوامل القصور وأسباب الفشل ومظاهر الخلل ومشاهد العجز والشلل، التي قد تعطل مسيرة التغيير وتعوق الوصول إلى الهدف المنشود والمقصود. ومن هنا، فإن أهمية هذا المدخل البحثي إنما يجد حجيته وتأثيره وأهميته في هذا المقام بخمسة أسباب على الأقل؛ تتضافر جميعا بأن تشكل قاعدة أساسية لأي عملية مراجعة حقيقية:

أول هذه الأسباب يعود إلى أن هذا المدخل البحثي المستقصي والفاحص للإشكالات والتحديات وفي ما يعالجه من قضايا؛ إنما يستند إلى مصادر ومعلومات هذا السند المعلوماتي، ويشكل مع إقرار أهميته وحجيته، كما يشكل رؤية مهمة لبناء المواقف من أحداث ما مر منها؛ وما يقع في الحاضر وما نستقبله في قابل الأيام.

الأمر الثاني، أن هذه الجهود البحثية، مع افتراض أن من يقوم بها باحثون من الطراز الرفيع، يضطلعون به لوجه الله ولمصلحة الوطن واستقصاء للتاريخ وتوثيقا لعالم أحداث هو محل معركة حقيقية، هي معركة الذاكرة، خاصة أن القوى المضادة للثورة تريد أن تطمس وتشوه وتئد وتدفن كل تلك الأحداث التي تتعلق بالثورة والتغير، وأن من الواجب علينا أن نقوم بهذا الجهد البحثي للتوثيق وبناء الرؤية العدل وممارسة المراجعة الشاملة والنقد الجماعي الذاتي، بما يعني أن من يريد أن يفند ذلك فعليه أن يتبع نفس أصول ذات المنهج المتعلق بالبحث والفحص وتتبع الحجج المتناسبة للرد، فندخل بذلك إلى مناطق الجدية لا إلى مناطق التخندق والتعصب المقيت والاستقطاب العتيد؛ الذي يحسب أن أفعال قوى سياسية بعينها لا يطوله الخطأ وهو عين الصواب، وأن من يمارسه أرقى من أن يخطئ أو يصادفه القصور، وكأنه في قرارة نفسه يتحرك صوب افتراض عصمة من المؤكد أنها لا يمكن أن تكون لأفعال ومواقف ضمن عمليات زخم التغير المتراكم، ذلك أن القصور مستولٍ على جملة البشر.

الأمر الثالث، أن هذه الممارسة البحثية للمراجعة الشاملة والنقد الذاتي الجماعي ستخرجنا من دائرة التهويل والتهوين وانعدام الثقة والتشكيك، وتؤمننا من الانزلاق إلى دخول في مساحات الحروب الأهلية الكلامية، واستخدام أساليب من الأقوال المرسلة من دون أسانيد حقيقية في هذا المقام، وهو أمر إذا ما نجحنا في تجنبه ومواجهته يمكن نرتقي به ويرتقي بنا إلى ممارسة لهذه المراجعة التي تعيننا على ما يمكن تسميته "قراءة الاعتبار" لعالم الأحداث والمواقف من جهة، و"قراءة الاستثمار" لاستئناف عمليات التغيير الكبرى من جهة أخرى.

الأمر الرابع، أننا بذلك نمارس نقدا ومحاسبة ومراجعة يجب أن يترتب عليها عمل، في إطار أن عمليات التشخيص والتوصيف والرصد التي تهتم بها تلك البحوث؛ إنما تشكل مقدمة لازمة وضرورية لممارسة أوسع وأعمق لعمليات النقد الذاتي الجماعي، ومن الواجب ألا تتوقف المسألة عند حدود التشخيص فقط، ولكنها يجب أن تبحث بالاعتبارات المستقبلية وإمكانية تلافي الأخطاء التي وقعنا في براثنها مرة أخرى، واستشراف المالآت التي يجب التعامل معها حتى لا نكرر الأخطاء ولا نستنسخ الخطايا.

أما الأمر الخامس والأخير، فإن تلك الدراسات حينما تعتمد أدوات بحثية والاعتماد على مادة معلوماتية موثقة لا يجوز التشكيك بها، خاصة حينما تتعلق تلك المادة بمسارين مهمين؛ الأول يتعلق بتحليل الخطاب والثاني يمارس استطلاعات رأي ودراسات ميدانية يمكن أن تشكل قواعد أساسية في عملية المراجعة الشاملة واستئناف عمليات النهوض والتغير من جديد. سنعطي نموذجين من تلك الدراسات في مقالين آتيين حول "حركة الإخوان والثورة والانقلاب".
التعليقات (0)