قضايا وآراء

القرار الاستراتيجي.. بين المأسسة الغربية و"الفهلوة" العربية (6 - 6)

أحمد عمران
1300x600
1300x600
بلا شك، لقد أصبحت علوم ونظم دعم القرار، بما تحويه من تطبيقات للذكاء الاصطناعي والمعلوماتية ومنهجيات النمذجة والمحاكاة، أداة محورية ترتكز عليها المطابخ الخلفية لصناعة القرار الاستراتيجي الغربي، الذي يسعي دائما لتحقيق طموحات شعوبه في الرفاهية والتواجد في صياغة القرار الدولي.

وأدرك الغرب مبكرا، وفي مقدمته والولايات المتحدة والكيان الصهيوني، جدوى مأسسة القرار من خلال المؤسسات والمراكز متخصصة في المعلوماتية وعلوم القرار، فأنفقوا الأموال الضخمة، واستقطبوا الخبرات الدولية لكي يطوروا العقول الاستراتيجية الداعمة في اتخاذ القرار في كافة المجالات، ولا يُتخذ قرار إلا بالرجوع إليها والتنسيق معها؛ لمعرفة التداعيات والسيناريوهات المتوقعة لهذا القرار.

على النقيض، تجد مؤسسات دعم القرار والتخطيط الاستراتيجي في بلادنا العربية هي أقرب ما يكون لديكورات تتزين بها هياكل الوزارات، وحتى لو كان هناك تميز لمركز ببعض خبرائه، وهم كثر في عالمنا العربي رغم قلة الموارد والأدوات، إلا أن مصير الدراسات والتحليلات يخضع لمدى تفاؤل وتشاؤم النتائج، ومدى تأثيرها على مزاج صاحب القرار.

لذا، فمعظم الأبحاث والدراسات المتخصصة طريقها محفوظ إما في سلة المهملات أو فوق أدراج تحتلها خيوط العناكب.

ولعل المفارقة الغريبة، المبكية والمضحكة في آن واحد، أن منهجيات دعم القرار واستشراف المستقبل ولدت منذ فجر التاريخ على أيدي مسلمين وفي بلاد العرب. فسيدنا نوح عليه السلام والصديق يوسف عليه السلام أول من استشرف المستقبل البعيد، ورسم سيناريوهاته، وحلل فرصه المواتية ومخاطر أزماته، وقدم للعالم بأسره هبة من الله، فحماه من فيضان مدمر أو مجاعة طاحنة.

وها هو نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، المُعلم الذي استشرف المستقبل وأسس لمأسسة القرار الاستراتيجي على مبدأ التشاركية وتعظيم الاستفادة من الخبرات، فقامت الحضارة العظمى، وأضاءت ظلمات العالم، ومهدت لتقدمه العلمي والتقني الحالي.

ولو نظرنا إلى مصر كقلب العروبة النابض ومركز صناعة القرار العربي في العصر الحديث، نجدها قد ابتليت بحكام أسسوا لفهلوة القرار. فرأينا الرئيس الحنجوري الملهم، والرئيس المؤمن ذا الرؤية الأحادية، والقائد الحكيم ضعيف السمع، والطبيب الفيلسوف المشخص للأمراض، وكبيرهم (المجلس العسكري) الذي علمهم الفهلوة.. كل هؤلاء المستبدين اعتمدوا على نظرتهم الأحادية وتحليلهم السطحي للمعطيات واتخاذ القرارات الاستراتيجية للدولة المصرية بالفهلوة الديكتاتورية التي ذهبت بمصر إلى ذيل القائمة الدولية في مؤشرات التنمية، ونسب هي الأعلى في العالم من الأمية والبطالة وحوادث الطرق ورداءة التعليم، وتوطن الأمراض، والتحرش والعنف الجنسي وانهيار القيم المجتمعية ككل.

ولم تكن فترة الإخوان، الحاكمين بغير حكم، بأوفر حظا من سابقتها. فرغم أن معظم مؤسسات الدولة كانت خارج سيطرة الرئاسة ولم يعط الرئيس محمد مرسي الفرصة الحقيقية لإدارة البلاد والتقييم الموضوعي لها، ورغم أن منهجية الرئيس اعتمدت على مأسسة القرار وتعظيم دور مراكز المعلومات ودعم القرار والاستفادة من الخبرات الوطنية من كافة الأطياف، كانت للدائرة الصغيرة المحيطة بالرئيس رؤية مختلفة؛ فدعموا أهل الثقة ومقترحاتهم، وحاربوا ما عدا ذلك واعتبروه منافسا لمشروعهم الملهم ويجب القضاء عليه، أو على الأقل إعادة تدويره ليكون بوجه إخواني خالص، بل وجعلوا قيادات مراكز المعلومات ودعم القرار والتخطيط الاستراتيجي في أيدي الثقات من غير المختصين، فجردت من دورها وقوتها المعلوماتية في مجابهة ما يُحاك للرئيس المنتخب من مؤامرات الدولة العميقة والمجلس العسكري المدعوم إقليميا ودوليا.

وحتى لا نعمم الحكم على كل الدول الإسلامية، فهناك فروق جوهرية في منهجية صناعة واتخاذ القرار بين الدول بعضها البعض. فمأسسة القرار في الدولة التركية يظهر جليا في ما تتبناه تركيا من منهجيات وأدوات في إدارة أزمة الليرة الحالية أمام الدولار ومجابهتها للحرب الاقتصادية الدولية عليها.

ورغم خطورة هذه الأوضاع على تركيا، إلا أن وجود مأسسة للقرار والمراكز المتخصصة التي تضم النخب الوطنية والخبيرة تدير الأزمة ببراعة، وتستشرف سيناريوهاتها المتعددة بسياسات علمية راشدة.. كل ذلك قلل كثيرا من الخسائر والتهديدات، بل على العكس، من المؤكد أن تحول تركيا هذه الأزمة في الأيام القليلة القادمة إلى فرصة كبيرة للنمو وخلق التكتلات الاقتصادية الجديدة.

فلم تعتمد تركيا على كاريزما وقوة شخصية قائدها الرئيس أردوغان، بل تحركت لتطوير مطابخ القرار الخلفية بخبرات وأحدث المنهجيات والأدوات، لتكون داعما ومساعدا، وليس بديلا لمتخذ القرار.

ولو نظرنا لحال مصر السيسي فهي على النقيض، فأزمة قضايا التعويضات التجارية على مصر في السنوات الأخيرة، خاصة مع شركات الطاقة حاليا، كبدت الدولة المصرية مليارات الدولارات، وما زالت، بسبب "فهلوة القرار" المستمرة، رغم وفرة العقول الخبيرة الوطنية المتخصصة، ولكن تم إسناد الأمر برمته لعقلية الجنرال القائد الفيلسوف وخاصته عديمي الخبرة إلا في التطبيل والتهليل، بداية من صياغة العقود التجارية حتى التقاضي أمام المحاكم الدولية.

لكن أين المعارضة المصرية من كل هذه الأحداث؟ وهل تختلف منهجيتها في صناعة القرار عن منهجية مصر السيسي؟ للأسف حال المعارضة المصرية لا يختلف كثيرا في تبنيها لفهلوة القرار، رغم نبل المقصد والغاية وتوافر العقول الخبيرة.

وبرغم من الضعف الشديد للنظام الانقلابي في مصر، إلا أن غياب المعارضة الرشيدة والجمعية. جعله أكثر قوة وثبات، فالمعارضة لا تمتلك مراكز للمعلوماتية والتفكير الاستراتيجي ولا مأسسة للقرار ولا توحيد للرؤية الاستراتيجية. وما يعطينا بصيص من أمل النصر، وجود قيادات من المعارضة راشدة ولها رؤية ومنهجية في التخطيط، لكنها تغرد خارج السرب، وتنقصها الأدوات والموارد لمأسسة العقل الاستراتيجي الجمعي للمعارضة المصرية.

فمتى يكون للمعارضة المصرية نقد ذاتي حقيقي وتحرك جاد نحو مأسسة القرار والتخطيط الاستراتيجي السليم؟
التعليقات (0)