سياسة دولية

"إغناطيوس" يكتب عن سيرة خاشقجي المثيرة حتى عتبة القنصلية

بنى إغناطيوس الصورة لخاشقجي على حوارات ورسائل من أصدقائه الذين عرفوه عبر السنين- حسابه عبر تويتر
بنى إغناطيوس الصورة لخاشقجي على حوارات ورسائل من أصدقائه الذين عرفوه عبر السنين- حسابه عبر تويتر
كتب المعلق الأمريكي المعروف ديفيد إغناطيوس مقالة مطولة قدم من خلالها سيرة ذاتية للصحافي السعودي جمال خاشقجي، والطريق الطريق الطويل الذي قاده إلى مبنى القنصلية السعودية في اسطنبول والرعب الذي كان ينتظره فيها.

وقال في المقال الذي ترجمته "عربي21"، إن هذا الطريق بدأ في الثمانينات من القرن الماضي في أفغانستان عندما كان صحافيا شابا متحمسا يدعم المؤسسة السعودية الحاكمة، ولكنه لم يكن قادرا على مقاومة النقد للعائلة المالكة عندما كان يعتقد أنها أخطأت.

وقاده هذا الطريق إلى منطقة خطرة، فقد كان صديقا لأسامة بن لادن في أيام شبابه الحماسية. وفي منتصف مساره الصحافي أصبح تحت رعاية الأمير تركي الفيصل، مدير المخابرات السعودي السابق. وسافر إلى قطر عددا من المرات في العقد الماضي عندما بدأ الخلاف يتنامى بين الرياض والدوحة. ولكن كتاباته العامة والخاصة تظهر أنه ظل وطنيا سعوديا.

وبنى إغناطيوس الصورة لخاشقجي على حوارات ورسائل من أصدقائه الذين عرفوه عبر السنين وتكشف عن رجل يحمل عاطفة كبيرة، وأصبح صحافيا وعمل فيها بدون خوف والتزام لا يتزحزح ليقول الحقيقة النظيفة إلى السلطة مهما كان الثمن.

وتساءل خاشقجي خلال هذه الرحلة الطويلة إن كان عليه التراجع أو تخفيف لهجته أو محاولة تجنب المخاطر. ولكنه ظل يقول الحقيقة ويواجه المخاطر. وأدى قوله الحقيقة لطرده من وظيفة متميزة كرئيس تحرير، وتمت الاستعانة به مرة ثانية، وليفصل من جديد مرة أخرى.

وفي الوقت الذي اختفى فيه، بدا وكأن الصحافة العربية هي القضية التي كان مستعدا للموت من أجلها.

وقال إغناطيوس إن الصورة عن خاشقجي قدمها بارينت روبن، الزميل البارز في مركز التعاون الدولي بجامعة نيويورك، وأحد أهم الخبراء الأمريكيين في أفغانستان. وكانا قد التقيا عام 1989 عندما كان روبن في رحلة لإلقاء المحاضرات. كان عمر خاشقجي حينها 31 عاما وقدم تقريرا من حلقتين كتبه عن رحلاته مع المجاهدين العرب في افغانستان قبل ذلك بعام. وأظهرت صورة الصحافي الطويل الملتحي واقفا بين المجاهدين العرب ويحمل قاذفة صواريخ بين يديه. ولم يكن خاشقجي ليسافر مع المجاهدين بهذه الطريقة بدون دعم تكتيكي من المخابرات السعودية والتي كانت تنسق الدعم للمجاهدين الأفغان مع وكالة الاستخبارات الأمريكية (سي آي إيه) ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان. ويتذكر روبن أن جمال خلال الحوارات بينهما انتقد الأمير سلمان، الذي كان في ذلك الوقت أميرا لمنطقة الرياض ورئيسا للجنة دعم المجاهدين الأفغان لدعمه غير الحكيم للجماعات السلفية التي كانت تؤثر على الحرب. ويقول روبن  "كان هذا جمال"، "فقد التقينا للتو ولأول مرة ولكنه بدأ بالشكوى" لغريب عن أخطاء العائلة المالكة، مع أن شخصا حذرا كان سيبقي فمه مغلقا، ولكن ليس جمال.

وهناك تناسق قاتل لذلك اللقاء في عام 1989، فسلمان هو الملك الآن وابنه محمد بن سلمان هو ولي العهد. وأخبرت مصادر أمنية هذا الأسبوع أن محمد بن سلمان المعروف في الغرب باختصار "م ب س" قام بالتآمر لخداع وجذب واعتقال خاشقجي الذي يخشى من تعليقاته الصريحة ويخافه.

وماذا حدث بعد دخول خاشقجي القنصلية يظل سرا غامضا. ويقول المسؤولون الأتراك إنه عُذب وقتل وقطع لأجزاء على يد فرقة موت من 15 شخصا أرسلت من الرياض. وترى عدة مصادر أمريكية أن السعوديين ربما حاولوا اختطافه ونقله إلى السعودية في محاولة فاشلة أدت لمقتله. لكن ما هو واضح هو أن اختفاء خاشقجي من القنصلية هو هجوم فاضح على صحافي شجاع.

ويضيف الكاتب أن اهتمامات خاشقجي الفكرية تشكلت وهو في سن العشرين عندما درس في الولايات المتحدة وكان عضوا متحمسا في جماعة الإخوان المسلمين. وكانت هذه حركة سرية تحاول تطهير العالم العربي من الفساد والاستبداد، ولم يكن خاشقجي وحيدا في تفكيره. وأمسك بمذاق تلك الفترة الصحافي بمجلة "نيويوركر"، لورنس رايت، حيث التقى مع خاشقجي في السعودية قبل 15 عاما. ونقل رايت عن الصحافي السعودي الذي تحدث عن جاذبية الإخوان المسلمين: "كنا نأمل بإقامة دولة إسلامية في أي مكان. وكنا نعتقد أن واحدة قد تقود إلى الأخرى. وستؤدي إلى انهيار الدومينو ونعيد تشكيل تاريخ الإنسانية".

انضم أسامة بن لادن للإخوان المسلمين في نفس الوقت الذي انضم فيه خاشقجي إليها نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي حسبما يقول رايت. واشترك الاثنان بنفس الحماس في الحرب في أفغانستان؛ أولا ضد الاتحاد السوفييتي وثانيا من أجل السلطة في كابول. وكان خاشقجي يغطي الحرب كصحافي وبالتأكيد كان متعاطفا مع القضية.

وفي منتصف التسعينات من القرن الماضي أصبح خاشقجي قلقا من تطرف بن لادن وبقية الجهاديين حسبما ينقل عنه أصدقائه. وكان يتحول باتجاه الإيمان بالديمقراطية والحرية باعتبارهما الأمل الوحيد لتطهير العالم العربي من الفساد والحكم الفاسد.

وحدثت مواجهة مهمة بين خاشقحجي وبن لادن في مقابلة له عام 1995 في السودان. ويذكر رايت كيف تباهى بن لادن بأن الإرهاب الذي سيقوم به هو الكفيل بطرد الولايات المتحدة من الجزيرة العربية. وضغط عليه الصحافي لنبذ العنف داخل السعودية قائلا: "أسامة، هذا أمر خطير. ويبدو أنك من يعلن الحرب وستعطي الأمريكيين الحق في ملاحقتك". ورفض بن لادن جهود خاشقجي لأخذ تصريح واضح منه بنبذ العنف.

ويتذكر روبن أن خاشقجي توصل في التسعينات إلى نتيجة مفادها هي أن الحرب الأهلية في أفغانستان كانت كارثة. وكان الثلج ينزل ويرتدي روبن قبعة الأفغان، حيث وبخه خاشقجي قائلا: "لم نعد نرتدي هذه القبعة" و"نطلق عليها القبعة التي دمرت أفغانستان".

وشاهد العالم في 11 أيلول/سبتمبر 2001 الآثار المدمرة لأيديولوجية القاعدة. وعلى خلاف بقية السعوديين لم يحاول خاشقجي التبرير للسعوديين الذين قادوا الطائرات التي استخدمت في الهجوم.

وكتب مقالة في 10 أيلول/سبتمبر 2002  قال فيها  إن على العرب الاعتراف بأن بن لادن هاجم السعودية والإسلام عندما ضرب البرجين.

وتذكر ماجي ميتشل سليم، إحدى صديقات خاشقجي وقابلته أول مرة عام 2002 عندما كانت تعمل في معهد الشرق الأوسط (تعمل الأن في مؤسسة قطر الدولية بواشنطن) وكانت المناسبة مؤتمرا عقده منتدى الفكر العربي الذي تموله عائلة الملك فيصل.. تتذكر سليم صحافيا طامحا برز من خلال علاقاته مع عائلة فيصل، تركي وشقيقه سعود الفيصل الذي تولى منصب الخارجية لمدة طويلة. وكلاهما درسا في جامعة برنستون، وقدما الوجه العقلاني المعتدل للعائلة المالكة. وكان خاشقجي مقربا من هؤلاء الأمراء، ولكنه كان مستعدا لنقد المؤسسة الدينية  أيضا. وفي عام 2003 عندما أصبح رئيس تحرير صحيفة "الوطن"، وهي صحيفة تملكها عائلة الفيصل، لم يمكث سوى شهرين، فقد عزل من منصبه بعدما انتقد المؤسسة الدينية.

ثم جاءت عائلة الفيصل لإنقاذ خاشقجي، فقد كان تركي سفيرا في لندن ووجه دعوة لجمال كي يعمل هناك. وتقول سليم: "من أجل إنقاذ حياته أخرجوه من المملكة". وعندما انتقل تركي إلى واشنطن في عام 2005 جلب معه خاشقجي ليكون المتحدث باسمه.

وكانت مرحلة صعبة، فالأمير بندر الذي كان سفيرا لمدة طويلة في واشنطن، وكان يعرف ببندر بوش نظرا لعلاقاته مع آل بوش (الرئيسين 41 و 43) وظل يزور البيت الأبيض سرا وهو ما أغضب تركي؛ السفير الجديد الذي كان يحاول تخفيض النفقات على شركات العلاقات العامة خاصة كيوأورفيس كومينوكيشن.

وتتذكر سليم أنها تحدثت مع خاشقجي حول التوتر بين تركي وبندر، واعتقد أن هذا ما يفعله الأمراء مع بعضهم البعض" و"كان محبطا لأجل الأمير تركي". وكمتحدث باسم تركي وجد نفسه وسط النيران و"كانت بمثابة موت بطيء" لخاشقجي. وبعد استبدال تركي عاد خاشقجي إلى المملكة وأصبح للمرة الثانية رئيسا لتحرير "الوطن" عام 2007 واستطاع البقاء فيها إلى 2010 ، حيث نشر مقالا ضد السلفية المتطرفة، وهي مشكلة أقلقته منذ 20 عاما ووجد نفسه في الخارج.

ويتذكر روبن زيارته لخاشقجي في الرياض عام 2009  بعدما أصبح روبن موظفا في إدارة باراك أوباما وكخبير عن أفغانستان للمبعوث الخاص ريتشارد هولبروك. وقال إن واحدا ممن يعرفهم في السعودية "حذرني عدم مقابلة جمال"، لأن "هذا سيؤدي لشك الحكومة" وقد قابله روبن على أي حال.

ومع اندلاع تظاهرات الربيع العربي في بداية 2011 واحتجاجات الشوارع في ساحة التحرير التي أخرجت الرئيس حسني مبارك من السلطة. وبالنسبة للسعوديين فقد كان هذا كابوسا. أما بالنسبة لخاشقجي فقد كانت الحركة المؤيدة للديمقراطية حلما تحقق.

ويضيف: "أتذكر أنني تحدثت معه في كانون الثاني/يناير وذلك قبل سقوط مبارك وأخبرني أن "النهضة" التي تتراكم منذ قرن قد حصلت في النهاية. وفي هذا وكغير ذلك من الأمور فقد كان تفاؤله في غير مكانه".

وكان راعي خاشقجي من أجل الصحافة الحرة هو الوليد بن طلال، الملياردير السعودي الميال للإصلاح. وموّل الوليد قناة تلفزيون اسمها "العرب" ومقرها البحرين، وكانت هناك إمكانية أن تصبح منافسة لقناة الجزيرة في قطر. وخرجت القناة للهواء عام 2015 بعد أربعة أعوام من التخطيط. وبعد أن هز الربيع العربي البحرين وأماكن أخرى في المنطقة. وفي اليوم الأول لخروجها بثت مقابلة مع سياسي شيعي معارض للنظام. ولم تتم القناة 24 ساعة قبل أن تسحب السلطات البحرينية عنها التيار الكهربائي. ووجد خاشقجي نفسه بدون عمل مرة أخرى. وتتذكر سليم أنها قالت لخاشقجي: "يا رجل، ماذا كنت تتوقع أن يحدث". وكان هذا جمال، فقد سمح لسياسي شيعي معارض بالظهور على القناة ولم يسمح للأسبوع أن يمر بدون صحافة حقيقية.

وأكدت حادثة البحرين قيمة مهمة وصفها عدد من أصدقائه الخلص. ووصفتها سليم بهذه الطريقة: "كان لديه إيمان أبدي أن الأمور جيدة وأن الحق سينتصر وكان يؤمن بالخير في الناس".

وكان إرث الربيع العربي مؤلما له حيث أرسل روبن رسالة نصية من خاشقجي في حزيران/يونيو 2014: "هالو روبن، كما ترى تسير الأمور من سيء إلى أسوأ في العالم العربي والأمل الوحيد يكمن من خلال إعادة الدفع نحو الديمقراطية، وهو الشعور الإيجابي الذي انتشر في العرب بعد عام 2011".

وبعد إغلاق القناة التلفزيونية في البحرين حاول روبن التهوين عليه وأرسل له رسالة نصية: "أرى أنك خلقت مشاكل مرة أخرى واستمر في هذا". ورد خاشقجي: "أفكر أن الوقت قد حان للذهاب إلى مكان آمن في الغرب حيث للشعور بالحرية والكتابة بدون خوف، ولن نحظى بالحرية في العالم العربي بدون ديمقراطية حقيقية".

وبدأ خاشقجي يكتب عمودا في صحيفة الحياة التي تصدر من لندن. وفي كانون الأول/ديسمبر2015 كتب مقالا كان الأوضح الذي عبر فيه عن رحلته: "في العالم العربي يعتقد الجميع أن الصحافي لا يمكن أن يكون حرا ولكنني أمثل نفسي وهو أحسن شيء يمكن عمله وماذا ستكون قيمتي لو خضعت للضغط وغيرت رأيي؟".

لقد أظلم عالم خاشقجي مع صعود "م ب س" الذي أصبح والده ملكا عام 2015. واستخدم ابن سلمان كنائب لولي العهد أولا، ومن ثم كولي للعهد شبكة من الموالين له في الديوان الملكي لتقوية سلطاته وقمع المعارضين.

وعندما أعلن ابن سلمان عن رغبته بتحديث المملكة وإدخال بعض الإصلاحات مثل قيادة المرأة للسيارة وفتح دور السينما والترفيه والحد من سلطة الشرطة الدينية، كان خاشقجي داعما لها.

وحاول خاشقجي أن يكون متفائلا في البداية. وأرسل له روبن رسالة نصية في كانون الثاني/يناير 2016. وبعد الجولة الأولى من الاعتقالات وإعدام شيخ شيعي ومتشددين متهمين قال إنه قلق "وربما كان الهدف الرئيسي هم أشخاص مثلك"، فرد عليه متفائلا: "شكرا، يا صديقي لم أقرأها بهذه الطريقة، الحكومة تريد الظهور بمظهر المتشدد ضد المتطرفين وليس ضدنا نحن شعب السعودية".

ولكن الاعتقالات وحملات التطهير استمرت وقام "م ب س" بانقلاب ناعم في حزيران/يونيو 2017 وحل محل ولي العهد الأمير محمد بن نايف، وبعد ذلك قام في تشرين الثاني/نوفمبر 2017 بحملات واسعة واعتقل أكثر من 200  سعودي بمن فيهم أمراء احتجزهم في فندق ريتز كارلتون بالرياض.

وكان خاشقجي يقيم في لندن وابتعد عن الحياة العامة مع تزايد عنف ابن سلمان. وعقدت سليم حفلة عشاء لخاشقجي في 4 تموز/يوليو 2017 بمطعم في كلوس ماغيور بكافتن غاردن. وأخبرها في تلك الليلة أنه يريد اللجوء إلى الولايات المتحدة وانتقل إلى هناك بعد أسابيع. وكتب لروبن في أيلول/سبتمبر 2017  عن "م ب س" يقول: "هذا الولد خطير وأنا تحت ضغط شديد.. ويجب أن تكون "حكيما"، وتصمت، ولكنني أعتقد أنني سأتحدث بتعقل"، لكنه لم يستطع في النهاية مراقبة نفسه.

وحصل خاشقجي على منبر قوي في أيلول/سبتمبر 2017  عندما طلبت منه صحيفة "واشنطن بوست" المساهمة بشكل أسبوعي بمقال في قسم الآراء الدولية. واستهدف خاشقجي في أول مقال له "م ب س" بالقول: "عندما أتحدث عن الخوف والاستفزاز والاعتقالات والإهانة العامة للمثقفين والقادة الدينيين ممن تجرأوا وتحدثوا بصراحة، وأقول لك أنا من السعودية فهل ستندهش؟".

وقام أصدقاء خاشقجي بمساعدته على الحصول على إقامة دائمة في الولايات المتحدة. وكتب روبن رسالة لوزير الأمن الداخلي متذكرا لقاءه الأول عام 1989 وأكد على "شخصيته وثقافته ومعرفته ومنظوره السياسي وعمله كصحافي".

ودائما ما فكر خاشقجي إن كان سيتراجع ويقلل الخطر. وعندما زار سليم آخر مرة في آب/أغسطس في مكتبها قال لها: "أفكر منذ عامين أنني سأذهب إلى جزيرة بعيدة". وقال بصوت عال: "هل أستطيع التخلي؟ أم أنني لن أستطيع أن أواصل العمل"، والجواب كان دائما هو "لا، لا يستطيع التنازل".



 

 

 

لقراءة جميع ما نشر في "عربي21" عن قضية اختفاء خاشقجي اضغط (هنا)

التعليقات (0)