كتاب عربي 21

شيطنة التغيير وتبرير الاستبداد

محمد هنيد
1300x600
1300x600

لماذا تُشَيطَن الثورات ولماذا كل هذا التهجم على ربيع الشعوب؟ لماذا نجعل من التجربة العربية الأنصع في التاريخ الحديث مثالا للفشل ودرسا في الدمار ومدعاة للندم؟ 

ينشط اليوم على الساحة الإعلامية خطاب تقريعي يتجلى في الهجوم الإعلامي والرسمي الشرس على مُخرجات الربيع العربي وتصويرها على أنها السبب الأساسي لما آلت إليه الأمور في المنطقة، حيث تتعمّد مصادر كثيرة الربط السببي بين تمدد حالة الفوضى وانتشار الاقتتال وبين المطالب التي رفعتها الشعوب منذ حوالي ثماني سنوات تقريبا.

إنها ببساطة شديدة تعمل على إقناع المخاطب بأن الثورات العربية لم تجلب غير الفوضى والخراب وأنها لم تحقق نتيجة إيجابية واحدة. هذا الخطاب لا يقتصر على منصات إعلامية أو مواقف رسمية بعينها بل يشمل كذلك مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات أخرى غير رسمية. 

واقع متأزم

أولا يتأسس خطاب الشيطنة على الواقع المرئي المتأزم في المشهد العربي، أي أنه يجعل من المعيش اليومي للفرد والجماعة مستندا مبدئيا لخطابه دون الغوص في الأسباب الحقيقية والتراكمات العميقة التي أدت إليه لأنه لا يمكن منطقيا أن نفسر راهن التردي العربي بأحداث تعود إلى أقل من عقد من الزمان. فقد يكون من المنطقى القول بأن دور الثورات كان دورا المسرّع للوضع العام لكنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون مصدر الحالة نفسها وسببها. 

إن حالة الفوضى العربية حالة قديمة نسبيا لأنها تعود في أقطار عربية معينة إلى طبيعة الأداء السياسي والاقتصادي للنظام الرسمي منذ نشأته في منتصف القرن الماضي. فكيف يمكن أن نقفز على أكثر من نصف قرن من الزمان لنحصر المشهد في حادثة لا يتجاوز عمرها ثماني سنوات؟ 

لا يخفى على أحد أن هذا الخطاب يرتبط شديد الارتباط بالسلطة الحاكمة ومنصاتها الإعلامية والفكرية لأنها الخاسر الأكبر من موجات التغيير ومطالب الحرية والمساواة. فمطلب التغيير بما هو أساسا مطلب شعبي جماهيري إنما يستهدف رأس النظام الرسمي العربي في شكله السياسي وليس شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" إلا خير دليل على ذلك. 

شيطنة التغيير

لكن الأخطر في هذا الخطاب هو تماهيه مع آليات أخرى استعملتها السلطة السياسية من أجل جعل التغيير وجعل المطالبة به من أكبر المحرمات. فإذا كان سقوط النظام من أسوأ كوابيس النظام فإن الحيلولة دون وقوعه تعدّ من أهم وظائفه ومن أسمى أهدافه. 

في كل تجارب التغيير العربية سلمية كانت أو غير سلمية حرص النظام على جعلها درسا في التوحش والدموية بهدف منع تجددها وجعلها عبرة للتجارب المحتملة المقبلة. ففي الجزائر تحولت "العشرية السوداء" إلى كابوس وطني يرعب الجزائريين وصار حاجزا نفسيا أمام كل بادرة لتغيير النظام. في سوريا مثلت تجربة حماه مجزرة بشعة جعلت من النظام قدَرا لا فكاك منه وهو نفس النظام الذي يعيد اليوم ذات الدرس بوحشية نادرة من أجل أن تتحول فرصة التغيير إلى حمام من الدم والأشلاء. أما في مصر فإن القمع الذي واجهت به الآلة العسكرية ثورة يناير تشكل هي الأخرى نموذجا في شيطنة التغيير وفي وأد أي مخرج سلمي من الحالة الاستبدادية. 

عسكرة الثورات

ليس هدف النظام الرسمي إلا البحث في تشويه النماذج الثورية سواء بشيطنتها ووسمها بالخيانة أم عبر تسليحها من الداخل ليبرر قمعها والقضاء عليها. فمن ناحية أولى ترفض السلطة السياسية العربية أي إصلاح داخلي جدي ثم هي تسحق كل مطالبة بالتغيير لكي تفتح الباب على كل أشكال الفوضى الممكنة مثلما هو الحال في أغلب الأقطار العربية. 

لكن خطاب شيطنة التغير يجد صداه في مستويات أبعد من هذا بكثير فهو لا يقتصر على منع سقوط النظام الرسمي بل يهدف أيضا إلى جعل الواقع المرير قدرا لا خلاص منه في ذهن العامة من الناس، حيث لا يستمد النظام شرعية وجوده من الأداء السياسي والاقتصادي والاجتماعي بقدر ما يستمدها من قدرته على كسر عزيمة المطالبين بواقع أفضل. 

يكاد اليأس يسيطر اليوم على المشهد العربي وخاصة على قواه الثورية بعد مرارة التجربة الأخيرة التي لم تكتمل بعد فرغم كل الاحتقان الاجتماعي ورغم كل الوعي بفساد النظام ورغم كل المعاناة اليومية لملايين السكان فإن الخوف من الأسوأ صار يشكل حاجزا سميكا أمام كل مبادرة للحركة والفعل. كيف يمكن أن ترضى مئات الملايين من الجماهير المسحوقة بواقعها الأليم وكيف يمكن أن تصبر كل هذا الصبر على عقود من الفساد والتجهيل والتفقير والقتل والتشريد؟ 

الاستبداد إلى زوال

لكن مهما بالغت السلطة السياسية في الهروب إلى الأمام وفي منع كل شروط التغيير السلمي فإن حركة التاريخ سيكون لها رأي آخر. إذ لا يمكن لأي نظام قمعي مهما بلغ من القسوة والعنف أن يمنع شروط التغيير الإجتماعي ما لم يصنع هو نفسه الشروط الحقيقية التي تضمن له البقاء، حيث لم تصمد في التاريخ الحديث والقديم أعتى الأنظمة المستبدة لأنها بكل بساطة لا تمتلك شروط البقاء. 

بناء عليه فإذا كانت شيطنة الربيع العربي بما هي جزء من منطق النظام الاستبدادي ومن خطابه قادرة على تأمين هيكل النظام لفترة تاريخية ما فإنه من المستحيل أن تنجح في منع سقوطه يوما ما. بل إن كل المؤشرات تؤكد عجز المنطق السياسي العربي عن تجديد نفسه وتجديد آلياته بشكل يؤشر على بلوغه نقطة اللاعودة ووصوله إلى درجة الانقطاع. وهو وضع تعكسه حالة التخبط والهيجان التي تعتري الفعل السياسي العربي داخليا وخارجيا لتجعل منه اليوم جسدا في مرحلة متقدمة من التحلل والانكسار بشكل يؤكد أنه يعيش آخر أطواره. 

 

التعليقات (5)
متفائل
السبت، 06-10-2018 10:36 ص
أخي من سدني ، اليوم وبعد مرور قرن على سقوط الخلافة العثمانية ، يلوح في الأفق فارس متميز ، ليس بطلا استعراضيا ، بل حركة مجتمعية واعدة ، يتبدى ذلك في حدود التجربة التركية أو المسار التركي المنبعث من عمق التاريخ ، سيكولوجية هذا الفرس ليست ذاتها سيكولوجية البطل المهوم الذي بات صورة مشوهة تكررت كثيرا ، في مقابل سيكولوجية الاستعمار الذي تمثل خلاصته أمريكا اليوم ولواحقها ذات التوجه الليبرالي الرأسمالي ، لا ينفع معه سوى البناء على خط التحول الحضاري ، المسار الذي يجب أن تتركز حوله جهودنا ومساهماتنا وفعلنا الإبداعي .
من سدني
الجمعة، 05-10-2018 04:00 ص
ولماذا التجاهل وعدم التصريح بالصحيح وهو انه بعد سقوط الدولة العثمانية ( او الخلافة ) لم يحكم بلادنا الا متعاون اوعميل او صهيوني متخفي بالوطنية مع من استعمر البلاد وقتل العباد ووضع شروط الحياة لدولنا ولشعوبها وبالله عليكم لو قارنا بين الاستعمار الفرنسي لسوريا ولبنان وبين الحكم النصيري ولو قارنا بين من حكم مصر منذ جلاء الإنكليز عنها والواقع الذي نحن فيه هناك ثورات على حكام عملاء صهاينه تربوا على مواءد الغرب ودرسوا مناهجه الخاصة بحكم الشعوب الاسلاميه والعربيه وحكموها بما يطلبه الغرب منهم ولايسعنا ان نقول اننا لازلنا تحت الاستعمار والانتداب وحق للشعوب ان تتحرر باي طريق يناسبها
متفائل
الخميس، 04-10-2018 04:01 م
سنن الكون لا تحابي زيدا ولا عمر ، المشروع الغائب وسط تململ الشارع العربي والإسلامي هو مشروع النهضة الحضاري ، شروطه تتصل بما هو سنني ، ولا أخالك تختلف معي إذا قلت أن الحركات الإسلامية والقومية واليسارية في حدود عالمنا العربي كانت وهي اليوم كذلك بعيدة كل البعد عن المسار السنني النهضوي الحضاري ، شروط النهضة غائبة ، وعليه لا يمكن أن تؤول وجهة المسار الثوري حل المشكلات الخانقة وسط الركام المتحرك على مرأى ومسمع التوجه الليبرالي الرأسمالي الاستعماري .
متفائل
الخميس، 04-10-2018 02:52 م
الأستاذ محمد : تعلم أن التاريخ يكتبه الغالب ، والمغلوب هو المتهم ، حتى من أقرب الناس إليه ، ما ينطبق على الفرد يمكن أن ينطبق على الجماعة ، فحتى الأنظمة الفاسدة في حدود عالمنا العربي والإسلامي لم تشذ عن ذلك ، مصير الأنظمة المتهالكة على حافة التاريخ يتصل بمدى حاجة الغالب ، وكلما ادت وحشية الغالب تعرت أكثر تلك الأدوات وصارت قاب قوسين أو أدنى من السقوط ، سقط مبارك ولم يسقط نظامه ، لا لشيء سوى لأن النخبة التي قاربت العمل والنشاط السياسي لم تر سوى صورتها داخل حدود المشهد وسط الركام المتحرك ، النخبة ضبطت حركتها وفق حركة مبارك الذي تعرى كفاية وصار يغطي كل الأعطاب ، لذلك استرجع النظام أنفاسه على حساب النخبة التي طغت صورتها وادت أنانيتها وانكشف حمقها ، الثورات العربية ظاهرة قائمة ، فهي جدا مربكة ، حتى بالنسبة للغالب الذي يتصدر المشهد العالمي لكتابة التاريخ ، وليس أدل على ذلك محاولة انفراد الإدارة الأمريكية بأقننة سلوك الآخرين في حركتهم وسكونهم ، لا يهمها عرف ولا نظام دولي ولا قيم مجتمعية ، فهل تقوى نخبنا على تجاو خطوط المحنة التي سطرها الغالب ، غير ممكن قريبا ، لذلك لا تستغرب أخي محمد من اصطفاف النخب على خط تجريم الثورة أو الربيع العربي ، المغلوب هذا هو شأنه .
مصري جدا
الخميس، 04-10-2018 02:09 م
يا سيدي ليس اللوم فقط على الثورات المضادة ،،، لكن بالله عليك الا يشيطن دعاة التغيير انفسهم بعضهم البعض ،،، راجع موقف شركاء الثورة في كل البلدان ،،، الذين تحولوا من شركاء الى خصوم ثم اعداء لدرجة تحالف بعضهم مع الثورات المضادة ،،، يا سيدي هذه اجيال نشآت في اجواء الخصومة والعداء والكراهية ،، لم تتربى على التعايش والتسامح والقبول والشراكة ،، بالفعل نحن بحاجة لبناء حيل جديد ،،، لكن ليس على غرار البناء السابق ،،