كتاب عربي 21

أمريكا آخراً.. التوافق مع النظام الدولي الجديد

طه أوزهان
1300x600
1300x600
تستبدل التعددية بالثنائية، وتتآكل الحدود المفتوحة بسبب السياسات المهووسة بمنع الهجرة، واضطربت التجارة الحرة بسبب إجراءات الحماية

كان الربع الأخير من القرن العشرين هو ذروة العولمة السياسية، ومثلت هزيمة الشيوعية انتصاراً جلياً للغرب وللنظام النيوليبرالي.

وبحسب الأدبيات التي أنتجت في ذلك الوقت، كان المتوقع للنظام الدولي المرتكز شمالاً أن يستمر في العمل بسلاسة من على ظهر المنصة التي أقامتها المؤسسات السياسية والاقتصادية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية. حينها، اعتمدت المقاربات والنظريات التي انتقدت هذه الفكرة على فرضية مفادها أن "النظام" يمكن أن يعاني من تهديد وجودي فقط على أيدي مؤثرات خارجية. 

ولم يخطر ببال أحد أنه يمكن للمنظومة أن تتهدد من قبل بانيها، وخاصة الولايات المتحدة. فلم سيقدم موجد منظومة ما على تدميرها؟

سقوط العولمة

اكتسحت الهولة والتعددية العالم، وشكلت موجة سياسية واقتصادية لا قبل لأحد بإيقافها. وبنهاية الألفية، لم تترك زوايا من هذا العالم لم يصلها الإنسان. 

ولربما كان العقد الأخير من القرن العشرين الأكثر ألواناً، وبالطبع أكثر المواسم ألواناً هو الخريف.

في تسعينيات القرن العشرين، كان النظام العالمي الجديد يمر بأعمق تحول شهده منذ تدويل التجارة، إلا أن هذه الفترة التي شهدت تقديس العولمة من كل ناحية لم تدم طويلاً. ففي مطلع الألفية الجديدة بدأت الأوراق تتساقط، وسرعان ما انحسرت الأزمة المالية لعام 2008 عن ركود اقتصادي عالمي. 

هذه الأزمة الاقتصادية، التي وضعت بذور الركود السياسي العالمي الذي نعيش فيه الآن، استمرت لعدة سنوات في الغرب. كانت مرحلة تحولية، ثم ما لبثت الفوضى السياسية الناجمة عن ذلك أن ألقت بظلال من الشك على كل النظام الاقتصادي الذي تأسس بعد عام 1945، والذي كان معتاداً على التعامل مع الصراعات السياسية والاقتصادية غير الغربية.

ولكن الوضع كان مختلفاً هذه المرة، فقد واجهت الاقتصاديات المتطورة والديمقراطيات الناضجة معضلاتها الخاصة بها: كانوا بحاجة لتنفيذ الخطاب الاقتصادي المتعجرف الذي طالما وعظوا به بقية العالم لسنين. كانت تلك الحزمة محملة بالتعددية والحدود المفتوحة والحركة الحرة للبضائع والأيدي العاملة ورؤوس الأموال.

تخضع هذه الحزمة الآن للاختبار، والنتائج ليست واعدة. بل في واقع الأمر يتم الآن تطوير الحزمة المقابلة، حيث تستبدل التعددية بالثنائية، وتتآكل الحدود المفتوحة بسبب السياسات المهووسة بمنع الهجرة، وتتعرض الديمقراطية لضغط يحط من جودتها بسبب صعود اليمين المتطرف، وتضطرب التجارة الحرة بسبب إجراءات الحماية.

عواقب الثنائية

ليس من الضرورة بمكان أن يؤدي تشويه التعددية - بشكل مباشر وآني - إلى الثنائية. أما الأحادية فمرحلة انتقالية، وهي التي تحدد مدى جودة الثنائية التي تأتي بعدها. وأفضل مثال على ذلك هي التحركات الأحادية التي يقوم بها الرئيس دونالد ترامب، وكذلك قرار بريطانيا مغادرة الاتحاد الأوروبي. واليوم، تشكل الأجندات الخلافية لكل من واشنطن ولندن جهداً جهيداً من أجل تكييف أحاديتهم وتحويلها إلى منظومة ثنائية متوقعة.

إذن، القضية المهمة هي كيف ستؤثر تداعيات الثنائية على بقية العالم؟ وكم سيتآكل مما تبقى من التعددية، وكيف ستشق الثنائية طريقها في الدنيا المعولمة؟

سوف يغير النظام الناشئ من طبيعة المؤسسات الدولية، وسيجري تحولات في الاستثمار والتجارة والحوكمة الكونية، وسيشكل تحديات خلال السنوات القادمة. أما في المدى المنظور، فسوف تنشأ الاقتصاديات والأمنيات والسياسات الخارجية بناء على العالم الثنائي الجديد، وسوف تظهر أيضاً تناقضات وتهافتات.

ولما كنا في المراحل الأولى من إعادة ظهور الثنائية، فإن العالم يراقب ما يعتبر في كثير من الحالات تطورات مدهشة. لم يكن أحد يتوقع أن تتخلى القوة المهيمنة عن لعبة القرن العشرين. كثيرون يرون في حالة الاضطراب الحالية وضعاً مؤقتاً ناجماً عن انتخاب ترامب وصعود القومية في الغرب، ولكن هذا ببساطة وهم يبعث على الارتياح.

تشوه التطورات الأخيرة الوضع القائم وتخلق وضعاً اعتيادياً جديداً. ولعلها تكون فكرة أفضل لو أن جميع من يهمهم الأمر بدأوا في التكيف والعمل على إيجاد حلول ممكنة، أو ما يمكن أن يوصف بالهبوط السلس. لقد هيأت استراتيجية "أمريكا أولاً" المسرح لما هو آت: أمريكا آخراً. وهذا الزلزال الكوني الذي هز النظام العالمي الجديد الذي كان سائداً في القرن العشرين سيتسبب في إيجاد خطوط تصدع جديدة.

والأسوأ من ذلك، أن استراتيجية التكيف سوف تخلق "ورطة جسر الألفية في لندن"، والتي تعرف أيضاً باسم "الإثارة الجانبية المتزامنة".

مناطق الصراع

سوف يؤثر صعود الثنائية على مناطق الصراع حول العالم، بما في ذلك الحروب الأهلية البشعة. في كثير من الأوضاع اندلعت الحروب بالوكالة، متطلبة ردوداً سياسية متعددة وطارئة. لن تؤدي الثنائية فقط إلى تقليص الخيارات في صناعة السياسة، ولكنها ستوفر مساحة غير متوقعة للعناصر الفاعلة غير الحكومية وللأنظمة السلطوية.

ولعل سوريا المثال الأفضل على قتل الثنائية للآمال في إيجاد حل: فالتفاهمات الثنائية بين الولايات المتحدة وتركيا، وبين روسيا وتركيا، وبين الولايات المتحدة وأوروبا، وبين تركيا وإيران، وبين روسيا والولايات المتحدة، ثم بين إيران وروسيا ليست كافية لإحلال السلام الدائم، ففي كثير من الأحوال يلغي أحدهما الآخر. والمثال الآخر هو القضية الفلسطينية، والتي تغرق في وحل الثنائية الأمريكية الإسرائيلية.

في المراحل الأولية، لا محالة، سوف يعوم الاندفاع نحو الثنائية في مياه الأحادية. ليس من السهل التمييز بين واحد والآخر، وسيكون من السذاجة توقع أي تطورات سياسية واقتصادية ذات وزن نتيجة لذلك. تنزع الثنائية نحو الاعتماد على التخمين والشراكات - مثل الزواج الأيديولوجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل - بدلاً من الفهم الجيوسياسي العميق. ونتيجة لذلك، سوف تظل الثنائية الناشئة سجينة للأحادية.

وهذا من شأنه أن يودي بالآمال المعلقة على إصلاح النظام العالمي الحالي. ورغم أن اللاعبين الغربيين انتقدوا نمط ترامب، إلا أن عليهم أن يقبلوا بأن استراتيجيات تضخيم السلطة التي كانت في الاقتصاد السياسي للقرن العشرين قد ولى زمنها. فالعولمة التي ساعدتهم على الإثراء بشكل رهيب، هم وبقية العالم إلى حد ما، هي السبيل الوحيد نحو مستقبل أكثر عدلاً.
التعليقات (0)