كتاب عربي 21

حالة طوارئ (2)

طارق أوشن
1300x600
1300x600

بالمستشفى العمومي لم تجد الممرضة المداومة غير عبارة: لن يراك الطبيب فحالتك ليست حالة طارئة، لتواجه بها الشابة مريم التي التجأت إلى المستشفى لإثبات حالة اغتصاب تعرضت لها. مريم، كما أشرت في الجزء الأول من المقال، شخصية متخيلة في فيلم (على كف عفريت – 2017) للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، وهي في الآن ذاته شخصية حقيقية بنفس الاسم تعرضت لجريمة اغتصاب في العام 2012 بتونس ما بعد "ثورة الياسمين".


وعندما فشل المسؤولون الأمنيون في مقر الشرطة، حيث توجهت الفتاة المغتصبة لتقديم شكواها برجال الشرطة الثلاثة الذين اغتصبوها، في إقناعها بالترغيب والتهديد بالتنازل عن شكواها، لم يجد أحد الأمنيين غير استحضار الوطنية وضرورة التضحية من أجل تونس الخضراء في مواجهة الأخطار المحدقة بها من كل جانب، والتخويف من المستقبل في حال تم المساس بسمعة جهاز الأمن باعتبار أن الأمنيين هم حماة الديار الساهرين على أمن المواطن واستقرار الوطن.


المسؤول الأمني: حكاية كيما (مثل) حكايتك تنجم (تستطيع) تدخل لبلاد في الحيط.. تحل (تفتح) في وجوهنا بيبان جهنم.. انت تحبيها تونس؟ قل لي انت تحبيها تونس الخضراء؟ احنا ايلي علينا المسؤولية التاريخية باش نحافظوا على البلاد وأمنها واستقرارها..

 

احنا ايلي كابسين (ضاغطين) على الذيوبا (الذئاب) باش (من أجل) ما يدخلوش ينهشونا.. والله غدوة (غدا) من غير أمن انت وأنا وخويا واختي وأمك وصغاري يغتصبوهم ويغتصبوا لبلاد وتتعمل فوضى وتولي (تصبح) لبلاد مرتع للإرهابيين والسراق والميليشيات والعصابات.. قل لي تما بلاد تعيش من غير أمن؟ تونس تعيش من غير أمن؟ البلاد على كف عفريت وانت تحبي تشكي؟


هذه هي حالة الطوارئ الوحيدة التي يعترف بها النظام البوليسي والعسكري العربي. غير ذلك لا مجال للشكوى أو الاستنكار.


يستنكر المسؤول الأمني على فتاة مغتصبة أن تقدم شكواها لمعاقبة جناة يدعي أنهم حماة البلاد، فقد ألف النظام البوليسي والمنتسبين إليه أن يعيثوا فسادا في أجساد رجال ونساء وأطفال الوطن دون حساب. هم سادة البلاد والبلاد ضيعة ورثوها عن الأسلاف جيلا أمنيا مستبدا بعد جيل. وبالمقابل يخوفها من أن تقع فريسة اغتصاب افتراضي من أعداء "وهميين" أو حقيقيين. ثمن الدفاع عن شرف الوطن وأبنائه وبناته هو استباحة ذات الشرف في أي مخفر أو سجن أو معتقل، وفي ذلك يتساوى الثوار والسياسيون وبائعات الهوى من الخليج إلى المحيط.


اجتماع أمني كبير في (فيلم حلاوة الروح – 1990) للمخرج أحمد فؤاد درويش.

 

 المسؤول الأمني: اتأخرت عليكم شوية (قليلا).


اللواء همت: لا يا سعادة الباشا.. ما حصلش حاجة.


المسؤول الأمني: محصلش ازاي يا لواء همت؟ اومال ايه ايلي حصل ده كله؟ أظن كفاية الوقت ايلي ضاع. نبتدي من غير مقدمات.. الوضع الداخلي أصبح لا يحتمل أي خلخلة.. المسألة معدتش تحتمل أية ميوعة أو هزل. البلد ايلي بناها أجدادنا واستنفذنا عمرنا واحنا بنبنيه أصبح مهدد بشوية عيال وشوية شبان مراهقين ممكن باستغلالهم لحماس الشباب حواليهم واندفاعه يقوضوا هذا البناء الكبير ولا ايه يا أفكار بيه؟


أفكار بيه: والله الرأي رأي سعادتك. الأولاد دول عاوزين يعملوا ثوار وأبطال وبعضهم بيخش السجن مخصوص علشان يخرج بعد كده بطل.. على كل حال احنا حننفذ ايلي هما عايزينه. حندخلهم السجن بس مش علشان يخرجوا أبطال انما علشان نعقمهم.


المسؤول الأمني: أيوه.. نكسرهم من جوّه. نسحق فيهم الحاجة ده ايلي عملاهم ثوريين وأبطال. نحول السجن من لوكندة يقيموا فيها كزعماء وأبطال لطاحونة يخشها الواحد منهم بني آدم ويطلع منها مسحوق إنسان.. 


ولتحقيق ذلك يتقدم أفكار بيه بخطته الإجرائية.


أفكار بيه: فيه أذية تسقي الحديد تقويه وفيه أذية تفك الحديد.. الأولاد دول علشان تكسرهم من جوه لازم تكسر رجولتهم..


والحل كان تشكيل فرقة اغتصاب بزعامة الشاويش عباس، وهو بالمناسبة مجرد خليفة للشاويش فرج في فيلم (الكرنك - 1975) للمخرج علي بدرخان، وضابط أمن الدولة في فيلم (عمارة يعقوبيان - 2006) للمخرج مروان حامد وهو يحقق مع الطالب الإسلامي طه الشاذلي قبل أن يطلق عليه مرؤوسيه بهدوء: خلاص يا طه.. حنعمل فيك زي ما يتعمل في حاتم رشيد.. واحنا عندنا ناس بتعمل الحكاية ده كويس أوي.. قلعوه هدومه!


من السبعينيات مرورا بالتسعينيات وبدايات الألفية الجديدة ووصولا لما بعد "الربيع العربي"، تختلف الأسماء وتتغير المواقع لكن الثابت واحد: الاغتصاب ممارسة سلطوية دأبت الأنظمة الاستبدادية على تبنيها وسيلة عقاب ضد المعارضين أو وسيلة تنفيس على رجالها في مواجهة الرعايا والعبيد. قوانين الطوارئ التي لا تنتهي في البلدان العربية حتى يتم التجديد لها هي صك الأمان الذي يرعى انتهاك الأعراض وإزهاق الأرواح. ولتكريس سياسة كتم الأصوات كرست ذات الأنظمة بإعلامها ومدارسها ومساجدها قاعدة التستر على الجريمة باعتبار التعرض للتحرش أو الاغتصاب وصمة عار و"فضيحة" لا مجال إلا لسترهما مهما كان لذلك من آثار سلبية في نفسيات الضحايا. 


في (فيلم رشيدة – 2002) للمخرجة الجزائرية يمينة بشير، تصل فتاة هاربة من مختطفيها من الجماعات الإرهابية إلى قريتها وهي في حالة يرثى لها. يتحلق أهل القرية حولها وتبادر النسوة لستر جسدها بأغطية رأس كن يضعنها. في مشهد موالي تبدو الفتاة مصدومة وهي على باب بيت أهلها.


الأب: ليست ابنتي.. لا أريدها.. أريدها أن تموت.


الأخت: استغفر ربك يا والدي.. ليست مذنبة في شيء.


الأب: يا ليتهم قتلوها.


الأخت: أتركها معي لتبقى مستورة.


الأب: لا أريدها.. لقد فضحتنا أمام جيراننا وأقاربنا.. لقد فضحتنا.. هذه لم تعد ابنتي.


في العشرية السوداء التي عاشتها الجزائر اختلط الحابل بالنابل والحق بالباطل، لكن الضحايا كانوا دوما من المواطنين الأبرياء. النساء لم يكنّ في مأمن من التعرض للاختطاف والاغتصاب فيما كان إخوانهن من الذكور يتعرضون للقتل فرادى وجماعات.

 

قصص المآسي التي تعرضت لها نساء الجزائر ممنوعة من الحكي كما في كثير من بلدان الجغرافيا العربية، حيث لا سلطة للقانون في زنازين الأنظمة أو معتقلات المليشيات، ففيها من التفاصيل ما يخدش حياء السلطة الحاكمة ويسيء لمشاعر وتقاليد مجتمع مدفوع لإغلاق صفحة سوداء من التاريخ الجزائري المعاصر عنوة وغصبا.


يعود المخرج الجزائري مرزاق علواش في (فيلم السطوح -2013) إلى الموضوع من خلال شخصيات عدة كانت عائشة واحدة منها. في الفيلم متابعة ناقدة ونافذة لما بعد مبادرة المصالحة والوفاق المدني التي لم تمكن المجتمع من التصالح من الذات بعد أن زرعته في بذور عنف صار مسيطرا على حيوات الناس في علاقاته البينية وعلاقاتهم مع السلطة والمال.


على سطح إحدى عمارات العاصمة الجزائر، يجلس المراهق كريمو بجانب عمة والدته عائشة لتناول الغذاء.

 

بعيدا عنهم تجلس والدته حزينة تدخن سيجارة.


العمة: أطفئي السيجارة والتحقي بنا.. أطفئي السيجارة.. ألا تسمعينني؟ لم أعد قادرة على تحملك. أقسم أنني سأهاتف والدك إن لم تمتثلي. أنا جادة في كلامي. خذي ابنك واذهبي عند والدك. عودي إلى وهران عند والدك أفضل لك.


تبكي أم كريمو دون أن يكترث لها أحدهما. بعد فترة يلتحق بها ويحاول احتضانها لكنها تدفعه بعيدا.


عائشة، كما جاء على لسان إحدى شخصيات الفيلم، ضحية للجماعات الإرهابية التي اختطفتها في تسعينيات القرن الماضي، قبل أن تهرب وهي حامل فطردها والدها من البيت. تختزن عائشة حقدا دفينا وشحنة من العنف ورغبة في الانتقام تتقاسمها مع ابنها – نتيجة الاغتصاب في مواجهة النفس والآخرين. وعائشة وكريمو مجرد نموذج من عشرات أو مئات يعاد استنساخ قصصهن في ليبيا وسوريا وغيرها من دول الجوار.


في العام 2015، قدم المخرج نبيل عيوش فيلم (الزين لي فيك)، وداخل مكتب بمخفر للشرطة، وبعد الانتهاء من تسجيل أقوال نهى، التي اعتقلت من أمام ملهى ليلي، يأمر الضابط زميله بالخروج وإغلاق الباب.


الضابط: وقعي هنا.. ماذا تقرئين؟ هل سنزور أقوالك؟ أغلق الباب وأنت تغادر.


نهى: أمين.. أرجوك. لا أرغب في ممارسة الجنس معك.


الضابط: مم تخافين؟


يجرها من شعرها ويمارس عليها بالقوة فوق مكتبه. لا تستطيع نهى، كما كثير ممن تعرضن ولا يزلن للمعاملة ذاتها، تقديم شكاية فهي في حضرة حماة القانون. والزمن العربي زمن حالة طوارئ ممتدة في الزمان والمكان.

















0
التعليقات (0)