قضايا وآراء

مقالة في "مدنية" الدولة التونسية

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
قد تكون كلمة "مدنية الدولة" من أكثر المفردات الدائرة على ألسنة المشتغلين بالشأن العام في تونس. ويعود دورانها أساسا إلى وظيفتها السجالية في الصراع الدائر بين القوى "الحداثية" والإسلاميين، خاصة حركة النهضة. فالقوى "الحداثية" التي تريد احتكار صفة المدنية تستحضر هذه الكلمة للتشكيك في مدى قدرة النهضة على أن تكون حركة "مدنية"، أما النهضويون فيخضعون إلى منطق رد فعل بافلوفي، بحيث يسارعون إلى تأكيد مدنية حركتهم دون أن يكلفوا أنفسهم عناء طرح السؤالين التاليين: ما معنى أن أكون مدنيا بمنطق "العائلة الديمقراطية" في تونس؟ وهل لما يُسمّى بالقوى الديمقراطية، بمختلف مكوّناتها البورقيبية واليسارية والقومية، أية ميزة أو أفضلية تجعلها حكما ومرجعا في المسألة "المدنية"؟

تُعبّر العلاقة بين القوى "الحداثية" وحركة النهضة عن ظاهرة نراها أعمق من أن تُختزل في موازين القوى الموضوعية. فتلك العلاقة، في تقديرنا، تعكس أساسا موازين قوى فكرية أو "نفسية". فعندما خرج الإسلامي من منطق "الاستعلاء الإيماني" وما يرتبط به من مقولات، مثل الاستخلاف وتحكيم الشريعة والفرقة الناجية والغربة وغيرها، وجد نفسه يتحرك في حقل سياسي معلمن، وهو حقل لا يمكن للإسلامي أن يكون فيه سيد المعنى الجماعي أو منتجه، بل لا يُسمح له حتى بالاشتراك في إنتاجه. فـ"الاستضعاف الديمقراطي" (أو الاستهداف الديمقراطي الممنهج) يضع الإسلامي في موقع تبرير الذات، بعد أن كان على العالم كله أن يُبرر ذاته أمامه، خلال فترة السرية أو العمل غير القانوني.
تُعبّر العلاقة بين القوى "الحداثية" وحركة النهضة عن ظاهرة نراها أعمق من أن تُختزل في موازين القوى الموضوعية. فتلك العلاقة، في تقديرنا، تعكس أساسا موازين قوى فكرية أو "نفسية

مثل أغلب السجالات المؤدلجة والمسيّسة في فترة الانتقال الديمقراطي الهش، يمكننا اعتبار السجال الدائر حول مدنية الدولة ضربا من السجال المخاتل الذي يدار بغير مفرداته الأصلية. فالصراع على "مدنية" الدولة ليس في النهاية إلا صراعا على "لائكيتها" (وليس علمانيتها)، أي هي صراع تديره النخب اللائكية (بمختلف منحدراتها الأيديولوجية) ضد الوافد الجديد على الحقل السياسي القانوني (أي حركة النهضة تحديدا)، وذلك للدفاع عن تصور لائكي للدولة ولعلاقتها بالدين (بل دفاعا عن حقل سياسي قانوني بلا إسلاميين أو على الأقل بلا إسلاميين في مركز القرار السياسي).

ولمّا كان هذا المقام لا يسمح بتفصيل القول في النماذج العلمانية الكبرى، فإننا نكتفي بالتنصيص على أنّ اللائكية الفرنسية ليست إلا نموذجا محليا ادّعى الكونية بحكم ارتباطه بالاستعمار. وقد نجحت النخب التي قادت الدولة بعد الاستقلال الصوري عن فرنسا في فرضه على المجتمع (وإن بصورة ضمنية)، باعتباره فلسفة التحديث السياسية. وقد كان لهذه الفلسفة السياسية أثر كبير في مسارات التحديث ومآلاته، بل أثر بالغ في تشكّل الأساطير التأسيسية "للنمط المجتمعي التونسي" (باعتبار النمط المجتمعي التونسي تأكيدا على اختلاف تونس وتميزها الإيجابي عن جوارها العربي والإسلامي والإفريقي من جهة أولى، وباعتباره، من جهة ثانية، "تَونسة" موفقة بدرجات متباينة لمبادئ الجمهورية الفرنسية ولخياراتها الكبرى في المركزة وفي التحديث القسري وفي ما تسنده للدين، ومؤسساته، من دور لا يكاد يبين في تنظيم المجال العام).
التواطؤ الحداثي- النهضوي على استعمال لفظ "المدنية" يعكس في النهاية وعي الجميع بعلمانية الدولة، وهي علمانية "الأمر الواقع" بحكم تجنب الدستور نفسه التنصيص عليها

لم يكن المرحوم عبد الوهاب المسيري مجانبا للصواب عندما اعتبر أن مصطلح "العلمانية" هو من المصطلحات سيئة السمعة في بلادنا العربية والإسلامية. وقد حاول الفاعلون الجماعيون في تونس تجنب هذا المصطلح واستبداله باستعمالات أخرى أقل إثارة للرأي العام، من مثل "مدنية الدولة". ونحن نذهب إلى أنّ التواطؤ الحداثي- النهضوي على استعمال لفظ "المدنية" يعكس في النهاية وعي الجميع بعلمانية الدولة، وهي علمانية "الأمر الواقع" بحكم تجنب الدستور نفسه التنصيص عليها. ولكنّ ذلك التواطؤ يعكس أيضا عجز الجميع عن مواجهة الكلفة الانتخابية (أو الدينية) لصياغة هذا الوعي صياغة صريحة لا لبس فيها. فأغلب القوى"الحداثية" لا تريد مواجهة التدين العفوي بمصطلح العلمانية (أو اللائكية)؛ لأنه قد سبق أن رسخ فيه المطابقة بين العلمانية والإلحاد، أو على الأقل معاداة الدين. أما النهضويون فهم في حرج أكبر؛ لأن إقرارهم بعلمانية الدولة سيضرب علة وجودهم ذاتها (باعتبارهم حزبا سياسيا ذا مرجعية إسلامية)، ولن ينفعهم عندها التفريق الذي وضعه المرحوم المسيري بين العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية، فهو تفريق نخبوي لا يمكن أن يُغير الكثير في القناعات الدينية لعموم المتدينين، أو حتى المحافظين.

إن السجال حول "مدنية الدولة" هو في بعض وجوهه مجرد "هدنة" بين اللائكيين والإسلاميين، أو لنقل إنه قراءة براغماتية لموازين القوى بين هؤلاء الخصوم، رغم أنهم لا يترددون في فترات الأزمة عن الحديث بمفردات "الصراع الوجودي" واطّراح مفردات الصراع السياسي، وهي قراءة تسمح للجميع بالتحرك خارج المفردات "الحدّية" أو "النهائية" التي تقلّص هامش المناورة (والسفسطة)، بل تجعله في حكم المنعدم أحيانا، والأخطر من ذلك أنها ذات كلفة عالية؛ لأنها لا تسمح بالخسارة الجزئية بل تهدد بالخسارة الكلية في حال تعذر الانتصار التام.
السجال حول "مدنية الدولة" هو في بعض وجوهه مجرد "هدنة" بين اللائكيين والإسلاميين، أو لنقل إنه قراءة براغماتية لموازين القوى بين هؤلاء الخصوم

فلو أدار الحداثي التونسي صراعه بالمفردات المطابقة له، انطلاقا من مرجعيته اللائكية، لكان عليه أن يتحدث عن "لائكية الدولة" لا عن مدنيتها أو حتى علمانيتها. فالمدنية لا تضادد إلا حالة التوحش حسب الدرس الخلدوني، ولا تضادد (في الدرس السياسي الحديث) إلا الدولة العسكرية أو الكنسية، لا الدولة التي تستلهم الدين أو تدير العلاقة معه خارج إطار التصادم والنفي المتبادل. كما أنّ اللائكية لا يمكن أن تختزل التجارب العلمانية، فهي طريقة خاصة في إدارة العلاقة بين الدولة و"الشؤون الدينية"، وهي طريقة لا يبدو أنها الأفضل مقارنة بالنموذج الأنجلوسكسوني ونجاحه في إدارة الاختلاف والتعدد والغيرية على عكس النموذج اللاّئكي الفرنسي المأزوم، حتى في سياقه التداولي الأصلي (بل إن جاذبية النموذج اللائكي الفرنسي تنخفض كثيرا استنادا إلى الإحصائيات، التي أثبتت أن أغلب المنتمين إلى المنظمات الإرهابية التكفيرية ينتمون إلى الدول الفرانكفونية، ذات الخلفية السياسية اللائكية، وليس إلى المستعمرات البريطانية السابقة).

مهما كان تعريفنا لـ"مدنية الدولة"، قد يكون من الصعب على النخبة" الحداثية" في تونس أن تقنعنا، انطلاقا من تجربتها في الحكم أو من أصولها النظرية، بأنها حكم أو مرجع معنى موثوق في هذه المسألة. ولكننا أيضا لا نرى الإسلاميين أفضل حالا منهم، سواء أحكمنا عليهم انطلاقا من إدارتهم للثورات العربية أم حكمنا عليهم انطلاقا من تاريخهم/ فقههم السلطاني. ونحن نعتبر أن تركيز السؤال السياسي في جوهر الدولة أو طبيعتها، هو ضرب من التغطية أو التلهية على آليات اشتغالها الواقعي. كما أننا نعتبر أنّ سؤال "مدنية الدولة" هو عند النخب الحداثية مجرد سؤال بلاغي، ولم يصبح بعدُ سؤالا استفهاميا (أي أنه، من جهة أولى، مجرد جواب جاهز وغير قابل للمراجعة، لكنه يخاتل في شكل سؤال، وهو، من جهة ثانية، ليس سؤالا حواريا، بل هو سؤال أقرب إلى الحوار الداخلي الذي يعكس انغلاق الأنا وانكفاءها على ذاتها، أكثر مما يعكس انفتاحها على الآخر أو الشريك حتى في اختلافه الجذري).
لا نرى الإسلاميين أفضل حالا منهم، سواء أحكمنا عليهم انطلاقا من إدارتهم للثورات العربية أم حكمنا عليهم انطلاقا من تاريخهم/ فقههم السلطاني

ختاما، فإننا نرى أنّ الحوار اللائكي- الإسلامي في مسألة "مدنية الدولة" سيبقى ضربا من حوار الصم، ما لم يحاول الفاعلون الجماعيون الإجابة "معا" على الأسئلة التالية: هل إن اللائكية الفرنسية هي أفضل النماذج العلمانية المتاحة لنا بعد الثورة، أم إن علينا التفكير في مراجعتها (أو حتى تغييرها) انطلاقا من الواقع التونسي الجديد، بل انطلاقا من واقع اللائكية الفرنسية في ديارها؟ وهل إن مدنية الدولة تتعارض مع استلهام المرجعية الدينية بالضرورة؟ ولماذا تصرّ أغلب النخب الحداثية على اعتبار المنظومة الكونية لحقوق الانسان ديانة لا تقبل الاجتهاد ولا التجديف (على عكس الأديان التقليدية)؟ وما معنى أن تكون "إسلاميا" في مجتمع مسلم يحكمه قانون وضعي؟ وما معنى أن تكون "حداثيا" في مجتمع متخلف وتابع؟ إنها بعض الأسئلة التي قد يكون على النخبتين اللائكية والإسلامية التفكير فيها "معا"، انطلاقا من التسليم المتبادل بأن الحداثة والمدنية والديمقراطية ليست حكرا على اللائكيين دون الإسلاميين، وانطلاقا من التسليم كذلك بأن الإسلام ليس بستان الإسلاميين ووديعة الله عندهم دون غيرهم من الناس.
التعليقات (1)
محمد علي الباصومي
السبت، 01-09-2018 12:23 م
تفاعلي مع هذا المقال الممتاز سيكون من خلال الملاحظات المنفصلة التالية: إن طرح المفاهيم للمسائلة، بقدر ما هو حاسم للخروج حالات والمراوحة في ذات المكان في الأزمات، وضروري لحلّ الإشكالات المستعصية، بقدر ما يكون التحرّج من الخوض في هذه الأبحاث والتهرّب منها هو المتوقّع من العقول التي تخشى على الأصول الفكرية لمرجعياتها أو مبررات مواقفها السياسية.. الأسباب التي ذكرها الكاتب الكريم بخصوص النخب العلمانية والإسلامية "تواطئهم" حول فكرة مدنية الدولة، وقيام ذلك حائلا دون صياغة مشاريع مواطنية محلّية تتناسب مع ثقافتنا العربية-الإسلامية وراهننا الحضاري والسياسي.. هي فكرة أجدها ذكية وصحيحة، يجدر بنا مزيد إثارتها وتفصيلها وإحراج النخب بها.. علّهم يكفّون عن التفافهم عمّا هو مُتخلّد بذمّتهم، أي طريح الأسئلة الختامية لهذا المقال.. في سياق الملاحظة السابقة، فإنّ تفسير النسخة المختارة من العلمانيين في تونس بالإستعمار الفرنسي منطقية وتجد ما يصدّقها، على أنّه من الغريب أن معظم العلمانيين المصريين، الذين استعمرهم الأنقليز، اختاروا النسخة المتطرفة من العلمانية أيضا.. (بعكس شريحة من نخبة الشام التي تبدو أكثر وعيا بتعدّد نسخ العلمانية وحسن تعاملها مع هوية شعوبهم..) ما يفتح الباب أمام حزمة من الأسباب.. إن القول بأنّ الإسلاميين (نسخة الإسلام السياسي) ليسوا أفضل حالا في طريقة اشتغال "عقلهم" من عموم اللّائكيين يبدو لي سليما، على أنّ المعايير التي اختارها المقال (سواء أحكمنا عليهم انطلاقا من إدارتهم للثورات العربية أم حكمنا عليهم انطلاقا من تاريخهم/ فقههم السلطاني) قد لا تكون كافية أو مناسبة لإصدار هذا الحكم، باعتبار أن القول بأنهم "حكموا" فعلا أمر مشكوك فيه، في حين أنه يبدو لي أن مشاركتهم في الحكم هي هامشية إلى حد ما، وتأتي في سياق إحدى عناصر مناورتهم للحفاظ على وجودهم في ظل تواطئ قوى الداخل والخارج لإعادة إنتاج الهولوكوست.. كما أنّ القول بأن فقههم لا يزال سلطانيا يحتاج إلى مسائلة.. فتقديري أنه إذا كان للإسلام السياسي من "مزيّة" على المستوى الفكري، فهو طلاقه مع الأحكام "الشرعية" في المسألة السياسية، فيما هو لا يزال سلفيا في مجال العقيدة والأخلاق والإقتصاد... إنّ تحديد المفاهيم مسألة مهمة وضرورية في أي مجال معرفي، وترتفع منسوب أهميته مع اتساع وتداخل منتجاتُ هذا المجال مع غيره من المجالات الفكرية، ومه أثره على سلوك النّاس... وتقديري أنه من أكثر الحقول المعرفية التي تعاني تحريفا مفاهيميا عميقا وشاملا هو مجال المعرفة الدينية، فمعظم مصطلحاته المفاتيح (cocepts) تختلف مفاهيمها في الإصطلاح عنها فيما نستقرأه من المرجع المؤسس، أي القرآن الكريم، بمعنى أن ثقافتنا الدينية هي ثقافة غير قرآنية على مستوى المفاهيم والأدوات، ومن ذلك مصطلحات: السنة، والحديث، والذكر، والحدود، والإسلام، والإيمان، والإحسان، والصلاة، والزكاة، والمكروه، والمستحب...