قضايا وآراء

صراعات الأيديولوجيا تبعد التونسيين عن همومهم الحقيقية

نور الدين العويديدي
1300x600
1300x600
التنافس على أشده هذه الأيام في تونس بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة حول تشكيل التحالفات الداعمة لكل منهما.. رئيس الحكومة نجح عبر المقربين منه في تشكيل كتلته البرلمانية المكونة من 34 عضوا مؤيدين لسياساته في البرلمان، ورئيس الدولة يجمع الخارجين عن الحزب، الذي يقوده نجله، لإعادتهم إلى حزب عرف تمزقات وتشققات كثيرة، أضعفت نفوذه، وجعلت رئيس الحكومة يتمرد عليه..

في الأثناء، ينزلق الدينار التونسي أكثر أمام العملات الدولية وخاصة اليورو والدولار، ويواصل الفساد استشراءه في البلاد، في ظل حكومة ترفع شعار محاربة الفساد، والجانب الأكبر من نخب البلاد تشغلها مراجعة القوانين المنظمة للعلاقات الحميمية وتقاسم الميراث داخل الأسرة وحقوق الشواذ أكثر، مما يشغلها وضع الاقتصاد الممعن في تراجعه، رغم بعض المؤشرات الإيجابية في قطاعات دون أخرى.

تحالفات جديدة والعين على 2019

يقال إن أقسى الصراعات هو الصراع على السلطة.. وهذا ما يجري في تونس اليوم. إنه صراع بين أبناء الحزب الواحد، حزب نداء تونس على من يقود البلاد بعد انتخابات العام القادم. فرئيس الدولة الباجي قايد السبسي، مؤسس النداء ورئيسه الشرفي حاليا، يسعى جاهدا للملمة حزبه، حتى يضمن له موقعا محوريا في إدارة السلطة بعد انتخابات 2019 البرلمانية والرئاسية.
إنه صراع بين أبناء الحزب الواحد، حزب نداء تونس على من يقود البلاد بعد انتخابات العام القادم

ولذلك، فأجندة الرئيس قايد السبسي تكاد تغلب عليها اجتماعاته مع المنشقين عن حزبه لإعادتهم مجددا إلى حظيرة الحزب، وأبرز هؤلاء زعيم حزب مشروع تونس اليساري، محسن مرزوق، الذي كان يوما ما أمينا عاما لحزب النداء، وخرج منه مطرودا، وهو (مرزوق) يبذل جهودا كبيرة هذه الأيام لإقناع أركان حزبه (مشروع تونس) بفضيلة العودة إلى حزب النداء أو التحالف معه في البرلمان، لإعادة "التوازن" للحياة السياسية مع كتلة حركة النهضة، بعد أن كان قد أقنعهم سابقا بفضيلة الانشقاق عن النداء.

في المقابل، نجح رئيس الحكومة يوسف الشاهد في تشكيل كتلته البرلمانية، التي أطلقت على نفسها اسم كتلة "الائتلاف الوطني"، وتضم نواب الكتلة الوطنية، ونواب حزب الاتحاد الوطني الحر، وبعض النواب المستقيلين من "مشروع تونس"، ونوابا آخرين من المستقلين. وباتت هذه الكتلة الثالثة في ترتيب الكتل في البرلمان بعد كتلة حركة النهضة (68 نائبا)، ثم كتلة نداء تونس (نحو 50 نائبا)، ثم كتلة الائتلاف الوطني بـ34 نائبا.
إنها الحرب المفتوحة بين أجنحة الحكم، والاتهامات المتبادلة بالفساد واحدة من أسلحتها شديدة المضاء

الصراع لا يتوقف عند تشكيل الائتلافات أو ترميمها.. ملف الفساد في قلب الصراع. فرجال الأعمال الممولون الرئيسيون سابقا لحزب نداء تونس، وخاصة رجل الأعمال العصامي شفيق جراية، يعتبره رئيس الحكومة والمقربين منه أبرز الفاسدين. وجراية معتقل منذ أيار/ مايو 2017 دون محاكمة. ويتحدث المقربون من رئيس الحكومة عن رؤوس أخرى قد تلحق قريبا للسجن بجراية، أكثرهم من المقربين من حافظ قايد السبسي، منسق حزب نداء تونس.. إنها الحرب المفتوحة بين أجنحة الحكم، والاتهامات المتبادلة بالفساد واحدة من أسلحتها شديدة المضاء.

صراع داخل البيت وآخر خارجه

لا يتوقف الصراع داخل البيت الندائي أو داخل مكونات بقايا النظام القديم، بل يشمل الصراع حركة النهضة، ذات المرجعية الإسلامية. فالحركة التي رفضت إقالة رئيس الحكومة ووقفت إلى جانبه في البرلمان خلال الأشهر القليلة الماضية، تتعرض بين الفينة والفينة لهجمات مركزة من المقربين من دوائر رئيس الجمهورية.

وعلى الرغم من تمسك الحركة بخيار التوافق مع رئيس الدولة، باعتباره الخيار الذي حمى تونس مما وقعت فيه باقي الثورات العربية الأخرى، إلا أن رفض الحركة التجاوب مع الرئيس في إقالة رئيس الحكومة، جعل حركة النهضة تتعرض لهجمات مرتدة من حليفها وشريكها في الحكم. ولعل أبرز ما قام به رئيس الجمهورية لإحراج النهضة مبادرته للمساواة في الميراث، التي أعلن عنه يوم 13 آب/ أغسطس الجاري، والتي اضطرت النهضة لاتخاذ مواقف رافضة جعلتها عرضة للهجمات الإعلامية من قبل نخب الثقافة والإعلام الدائرة في فلك رئيس الجمهورية.
لعل أبرز ما قام به رئيس الجمهورية لإحراج النهضة مبادرته للمساواة في الميراث، التي أعلن عنه يوم 13 آب/ أغسطس الجاري، والتي اضطرت النهضة لاتخاذ مواقف رافضة جعلتها عرضة للهجمات الإعلامية

نخب منبتّة.. وواقع مر

بينما ينزلق الدينار التونسي أمام العملات الدولية، وخاصة اليورو والدولار، ليسجل اليورو 3.2 دينار والدولار 2.7 دينار، ويتفاقم الفساد ويستشري في مفاصل الدولة ومؤسساتها، لا تبدو نخب الثقافة والإعلام والسياسة ومنظمات المجتمع المدني مهتمة بالوضع الاقتصادي الصعب.. إنها تختلق معارك أخرى لها، لا صلة لها بما يشكو منه الناس.. فتقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة ما زال يشغل التونسيين عن واقعهم الصعب، ويقسمهم بين محافظين متمسكين بالتقاليد الاجتماعية، وحداثيين حريصين على الانسجام مع ما يسمونه الحقوق الكونية، ضاربين بعرض الحائط الرفض الواسع من قبل المجتمع للمساس بالمقدسات الدينية.

في الأثناء، أثبت استطلاع رأي أجراه المعهد الوطني للإحصاء، وهو معهد حكومي، أن 74 في المئة من التونسيين يرون أن الفساد هو معضلة البلاد الحقيقية، وأكثر من 63 في المئة يرون أن الفساد مستشر بشكل كبير في مؤسسات الدولة، ونحو 56 في المئة يرون أن الحكومة لا تبذل ما يكفي من جهد لمقاومة الفساد، أو أن جهودها قليلة الفاعلية، أو من دون فاعلية تذكر في محاربته.
يجد الرئيس، وكذلك النخب المحيطة به، من الوقت ما يكفي لتغيير نمط المجتمع ونظرته للعلاقات بين الجنسين في الميراث والأمور الحميمية.. دون أن يجدوا لا هم ولا باقي الأحزاب ومكونات المجتمع المدني الوقت الكافي لمعالجة أمراض الاقتصاد

وبينما كان يتوجب على الرئيس وعلى النخب المحيطة به، وعلى الأحزاب في الحكم والمعارضة، أن يركزوا همهم على مقاومة الفساد ومقاومة تدهور صرف الدينار، وما ينتجه من تضخم وغلاء شديد، ومقاومة غرق البلاد في الديون الخارجية، التي بلغت نحو 70 مليار دينار، يجد الرئيس، وكذلك النخب المحيطة به، من الوقت ما يكفي لتغيير نمط المجتمع ونظرته للعلاقات بين الجنسين في الميراث والأمور الحميمية.. دون أن يجدوا لا هم ولا باقي الأحزاب ومكونات المجتمع المدني الوقت الكافي لمعالجة أمراض الاقتصاد وتدهور المقدرة الشرائية واستشراء الفساد..

إنها الأيديولوجية؛ تصرف النخب بعيدا عن انشغالات المجتمع.
التعليقات (0)