قضايا وآراء

نحو نظام نقدي عالمي عادل

أشرف دوابه
1300x600
1300x600
في رحاب دولة فلسطين المحتلة، وفي ضيافة الكيان الصهيوني في القدس الشريف، صرح مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون بأنه يمكن لأنقرة إنهاء الأزمة التي تمر بها الليرة التركية بإطلاق سراح القس الأمريكي المحتجز في تركيا، أندرو برانسون.

وهذا الخبر يعكس طبيعة أزمة الليرة التركية أنها ذات أصول سياسية بامتياز، مع استغلال الوتر الحساس ممثلا في الديون قصيرة الأجل للقطاع الخاص التركي من قبل الولايات المتحدة. فمن افتعل الأزمة قادر على حلها كما هو ظاهر من تصريحات جون بولتون، وخاصة إذا كان من افتعل هذه الأزمة هو أكبر اقتصاد في العالم، ويستخدم المؤسسات الاقتصادية الدولية لخدمة أغراضه، وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي.

من افتعل الأزمة قادر على حلها كما هو ظاهر من تصريحات جون بولتون، وخاصة إذا كان من افتعل هذه الأزمة هو أكبر اقتصاد في العالم، ويستخدم المؤسسات الاقتصادية الدولية لخدمة أغراضه

إن من يمتلك القوة العسكرية يمتلك القوة الاقتصادية، وفي القلب منها القوة النقدية، والعكس صحيح أيضا. فالنقود عنصر قوة، ومن يمتلك القوة يمكنه إدارة شؤون النقد، وكذلك من يدير شؤون النقد يمتلك القوة، لذا تنظر الولايات المتحدة للدولار الأمريكي وهيمنته على أنه سر بقائها ومصدر قوتها، وهو ما توصل إليه كبار مسؤولي الجيش والاستخبارات حيث أدركوا - كما يقول جيمس ريكاردز صاحب كتاب حرب العملات - أنه لا يمكن الحفاظ على الهيمنة الأمريكية العسكرية الفريدة من نوعها إلا من خلال دور الدولار الذي يوازيه فرادة وهيمنة، وإذا سقط الدولار سيسقط معه الأمن القومي الأمريكي.

ولو عدنا بالوراء قليلا لنعلم قيمة القوة في تشكيل العملة والنظام النقدي. ففي العام 1944م، تمكنت الولايات المتحدة من فرض إرادتها بقوتها العسكرية والاقتصادية بإقرار نظام نقدي عالمي جديد، من خلال مؤتمر بريتون وودز الذي حضره ممثلين عن 44 دولة، وعقد في شهر تموز/ يوليو 1944م في نيوهامشاير بالولايات المتحدة الأمريكية. وارتكز النظام النقدي إلى الذهب، من خلال دولار أمريكي يمكن للشركاء التجاريين تحويله بحرية إلى ذهب بسعر 35 دولار للأونصة، وإلى عملات أخرى ترتكز بشكل غير مباشر إلى الذهب من خلال سعر صرف ثابت في مقابل الدولار الأمريكي. ويعمل صندوق النقد الدولي على توفير قروض قصيرة الأجل لدول محددة تواجه حالة من العجز الاقتصادي، ولا يمكن للدول خفض قيمة عملاتها إلا بإذن من الصندوق، حيث لا يمنح ذلك بصورة عامة إلا في حالات العجز التجاري المستمر الذي يواكبه تضخم مرتفع.

وبالرغم من أن هذه الاتفاقية وما نتج عنها من تأسيس صندوق النقد الدولي للقيام بتلك المهام هي اتفاقية لصالح الحيتان الكبار، فإن الولايات المتحدة أبت إلا أن تراعي مصالحها، وضربت عرض الحائط بتلك الاتفاقية وميثاق صندوق النقد الدولي ومصالح المجتمع الدولي، وجعلت منهما نسيا منسيا. ففي يوم الأحد 15 آب/ أغسطس 1971م، قطع الرئيس الأمريكي نيكسون مسلسل بوننزا الأكثر شعبية في الولايات المتحدة، ليعلن عن سياسته الاقتصادية الجديدة في ظل تنامي العجز الأمريكي والمعروض من النقود، حيث أعلن عن إغلاق نافذة الذهب بمنع تحويل الدولار إلى ذهب، وبذلك انهارت اتفاقية بريتون وودز، بل أصبح صندوق النقد الدولي لا لزوم له في ظل ميثاق تأسيسه، ودوره في استقرار أسعار الصرف وقابلية الدولار للتحويل لذهب.. هذا الصندوق الذي عجز أن يقدم كلمة نقد واحدة للولايات المتحدة على هذا السلوك النفعي المنفرد، بل تناسي ميثاقه ووجه وجهته حيثما تريد الولايات المتحدة.
يمكن القول إن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تقترض بفوائد لتمويل عجز ميزان مدفوعاتها، كما باتت السيولة الدولية مرتبطة ارتباطا وثيقا بميزان المدفوعات الأمريكي

إن الولايات المتحدة، بقوتها العسكرية والاقتصادية، فرضت على العالم عملتها، الدولار، لتلعب دور عملة الاحتياط الدولية، وبات الاحتياطي الفيدرالي هو البنك المركزي للعالم، الذي يبيع نقود ورقية بدون غطاء لها ولا مخزن لقيمتها، ويطبع منها دون رقيب لتلبية الاحتياجات العسكرية للولايات المتحدة وتمويل عجز ميزان مدفوعاتها، حتى يمكن القول إن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تقترض بفوائد لتمويل عجز ميزان مدفوعاتها، كما باتت السيولة الدولية - ومدى ملاءمتها في مواجهة احتياجات المدفوعات الدولية - مرتبطة ارتباطا وثيقا بميزان المدفوعات الأمريكي، وبات الاقتصاد العالمي متغيرا تابعا للاقتصاد الأمريكي، وأصبحت الفوضى النقدية هي عنوان النظام النقدي العالمي، لا سيما حينما تحولت دول العالم - وخاصة النامية منها - إلى ضحية السلوك الأمريكي النفعي بانتقال أزمة نظام النقد الدولي إليها، في صورة تفاقم في عجز موازين مدفوعاتها واحتياطياتها النقدية، والتلاعب بأسعار صرفها، وهو ما نتج عنه أزمة عميقة في ديونها الخارجية، بصورة أدت لتعطيل التنمية فيها لحساب دفع أعباء الديون، لا سيما في ظل فخ الديون الذي يتبناه صندوق النقد الدولي للهيمنة على الدول الصغار لصالح الكبار.
فرصة لتشكيل نظام نقدي جديد وعادل يعكس مصالح الجميع، من خلال تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة له بعيدا عن مجلس الأمن وسيطرته، بصورة تعمل على تحقيق الاستقرار النقدي عالميا وتدعيم جهود التنمية للجميع

إن أزمة العملة التركية ومثيلتها من العملات الروسية والإيرانية، فضلا عن التجاذب بين ترامب ودول الاتحاد الأوروبي والصين، وما حدث من آثار للأزمة المالية العالمية التي انفجرت في الولايات المتحدة عام 2008م، قد يكون فرصة لتشكيل نظام نقدي جديد وعادل يعكس مصالح الجميع، من خلال تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة له بعيدا عن مجلس الأمن وسيطرته، بصورة تعمل على تحقيق الاستقرار النقدي عالميا وتدعيم جهود التنمية للجميع، من خلال إنشاء وحدة نقدية عالمية تكون مقبولة من الجميع للوفاء بالمعاملات الدولية، وتكون أصلا للاحتياطيات الدولية، بعيدا عن انفراد دولة واحدة بها تتحكم بإصدارها، وتفتح باب المضاربات عليها.

ومع ذلك، فإن هذا الأمر، وإن كان فرصة، ولكنه ليس ميسرا بسهولة في ظل دفاع الولايات المتحدة عن وجودها، والمواقف الرخوة التي نجدها من دول الاتحاد الأوروبي واليابان تجاه الولايات المتحدة، وذلك للتحالف السياسي والعسكري والاقتصادي بينهم، وحرص الصين على تجارتها البينية مع الولايات المتحدة، فإنه من المهم البدء في عمل تكتلات اقتصادية بين الدول المتضررة من سياسة الولايات المتحدة، وتبديل الاحتياطيات الدولية تدريجيا من الدولار إلى الذهب والعملات الأخرى بعيدا عن الدولار، وإقرار نظام المدفوعات الثنائية بصورة أكثر فعالية، مع التوجه تدريجيا نحو إزاحة الدولار من خلال تلك التحالفات وإقرار عملة دولية تراعي مصالح الجميع، يكون قوامها التغطية الذهبية.
التعليقات (0)