قضايا وآراء

أغسطس بين أنقرة ورابعة

حمزة زوبع
1300x600
1300x600
يحمل شهر آب/ أغسطس ذكريات "أم المجازر" البشرية التي وقعت في بر مصر عبر تاريخها الممتد من آلاف السنين، وهي مجزرة "رابعة العدوية" التي نفذها جنرالات العسكر بتمويل إماراتي وسعودي، وتخطيط صهيوني، وموافقة أمريكية غير معلنة، وصمت غربي غير مبرر.. تلك المجزرة التي كان من حظ منفذيها السيئ أنها أذيعت على الهواء مباشرة، وتم نقلها عبر شاشات التلفزة ومواقع الإنترنت، وما أذيع منها ليس سوى النزر اليسير؛ لأن ما خفي كان أعظم دائما.

تطل الذكرى وجنرالات العسكر يحاولون طمس الجريمة، وتحويل الشهداء والجرحى وذويهم من ضحايا إلى مدانين تمت إدانتهم عبر قضاء فاسد وبآليات تفتقر إلى الحد الأدنى من معايير العدالة النزيهة، لذا فلا غرابة أن تأتي مؤسسة القضاء المصري في عهد الجنرالات في مرتبة متدنية جدا في سلم تقييم شفافية ونزاهة القضاء على مستوى العالم.

يحاول إعلام الجنرالات قلب الحقائق عبر القضاء، تارة وعبر بعض منتسبيه الذين اخترقوا صف المدافعين عن الشرعية ثم انقلبوا عليها، مثل المستشار عماد أبو هاشم الذي تحول من موقف الداعم للشرعية والمنادي بمقاضاة جنرالات العسكر وإدانتهم دوليا؛ إلى مطالب للجنرالات بتحريك قضية دولية ضد قيادات الإخوان، متهما إياهم بأنهم وراء المجزرة وكل المجازر التي يعلم القاصي والداني أن الجنرالات هم من قاموا بها وافتخروا بارتكابها.

وكما جرى ذبح المصريين الثوار في ميدان رابعة، يريد ترامب وابن سلمان وابن زايد و"بن يامين" حصار تركيا وذبحها في شهر آب/ أغسطس أيضا.. هذه المرة سيكون الذبح على نصب البوصة والمضاربات من أجل ضرب اقتصاد تركيا القوي والمتماسك والمتصاعد، حسب التقارير الدولية والإقليمية.

لعلنا نتذكر أن أزمة عاصفة حلت ببعض دول أوروبا قبل سنوات، وكان أكثر المتضررين فيها اليونان والبرتغال، وبدرجة أقل إسبانيا وإيطاليا، بينما كان اقتصاد تركيا أكثر نموا؛ لأن تركيا ساعتها لم تكن قد دخلت حيز اهتمام الخصوم، وتحديدا لم تكن قد وقفت وبقوة مع الشقيقة قطر ضد الغزو السعودي الإماراتي الذي كان قاب قوسين أو أدنى، ولولا رحمة الله ثم تدخل تركيا لكانت قطر في خبر كان.

هذه الواقعة تحديدا، والتي انحازت فيها تركيا للمبادئ ووقفت ضد رغبة ترامب نفسه، والذي أثبتت الروايات أنه كان يرغب وبقوة في أن تغزو السعودية قطر.. هذه الواقعة هي مربط الفرس وهي بيت القصيد، وهي بيت الداء، فكيف لتركيا أن تتمرد على البيت الأبيض والبيت الأسود وكل أعراب البترول من أنصار الانقلابات ومحاربي الثورات العربية؟

أضف إلى ذلك، أن تركيا تمتلك أدلة على تورط للبيت الأبيض في محاولة الانقلاب الفاشلة قبل عامين، أو قبل عام من محاولة غزو السعودية لقطر، وقد شرحت تركيا للجميع وبينت لهم ما لديها من أدلة على تورط أمريكي واضح وفاضح، وحاولت قدر جهدها إعادة العلاقات الأمريكية التركية إلى مسارها الطبيعي، وهو التعامل بندية، لكن الأمريكان يريدونها خاضعة لهم من دون الناس.

احتجزت تركيا قساً كان يقوم بأعمال التجسس، وقدمت للبيت الأبيض الأدلة ليس على تجسسه وحده، بل على تورط ضباط أمريكيين في قاعدة إنجرليك التركية في محاولة الانقلاب، وطالبت أمريكا بفتح تحقيق في الأمر... ولكن البيت الأبيض ظل يعتقد أن تركيا تجاوزت حدود الخضوع والخنوع، وتريد أن تتعامل بندية أكثر، وهو ما رآه ترامب أمرا يستحق العقوبة... ففرض العقوبات وهدد بحرب اقتصادية، وقال في إحدى تغريداته إن الليرة التركية تنهار أمام الدولار الأمريكي القوي.. وهو ما يعني أنه أعلن الحرب بدون مواربة، وبناء عليه فسوف تشاركه في الحرب كل من السعودية والإمارات بطريقة أو بأخرى، ولم لا؟ فتركيا حرمت ابن سلمان من غزو قطر، والذي كان يراه ضروريا لتعزيز سلطته في المملكة بعد أن فشلت خطته لفعل ذلك عبر غزو اليمن، والذي أصبح وضع ابن سلمان فيه مخزيا ومؤلما ومكلفا للغاية.

الحرب الاقتصادية المعلنة اليوم تعلم تركيا أنها كانت قادمة، وأن مواقفها المنحازة للشعوب وللحقيقة (وليست للمال والسلطان) ستكلفها الكثير، لكن اللافت للنظر أن تركيا لم تعد جنرالات العسكر الذين باعوا تركيا بالمال وأفسدوا كل شيء.. الخبر المفرح أن تركيا لم تعد فقط الحزب الحاكم ولا الرئيس أردوغان، ففي اللحظة التي أعلن فيها ترامب الحرب الاقتصادية على تركيا، كان رموز المعارضة التركية يعلنون وقوفهم وانحيازهم لتركيا ضد ترامب وقراراته... بينما لا يزال من يسمون بالمعارضة المصرية في الداخل منحازين للجنرالات القتلة، ويقدمون المبادرات والنداءات لكي يمر القتلة بفعلتهم، من عفو ينجو فيه الجنرالات من المحاسبة، بينما يُتهم فيه الأبرياء وأولياء الدم بأنهم هم القتلة.

الحرب الاقتصادية التي دشنها ترامب من البيت الأبيض ضد تركيا، ليست بالأمر السهل ولا البسيط، ولا يجب التقليل من آثارها، ولكن في نفس الوقت لا يجب التقليل من مكانة تركيا، ليس في جغرافية العالم، بل في جغرافية القلوب المحبة والعاشقة للحرية، وهو ما يمثل دعما معنويا يضاف إلى وسائل الدعم الأخرى، وبكل تأكيد تعرف الحكومة التركية (أو عليها أن تعرف) كيف تدير معركة ليست قصيرة المدى وليست هينة... ولكنها ليست مستحيلة، فلدى تركيا من الأوراق ما يؤهلها للتصدي وعبور هذه الحرب بأقل كلفة ممكنة.

آب/ أغسطس يحمل ذكرى مذبحة القرن... ويحمل ذكرى الغزو العراقي للكويت ومبادرات تخرج من هنا وهناك لكي تخرج العسكر من ورطتهم.. ويحمل نذر حرب اقتصادية على تركيا التي انحازت للإنسانية في كل وقت وحين... ولكنه يحمل بشارات الوعي الذي انتشر والمقاومة التي بدأت تتبلور ملامحها... وبشارات النصر الذي حتما سيلوح يوما ما في الأفق.
التعليقات (1)
مصري جدا
الثلاثاء، 14-08-2018 02:28 م
لن اكتب في السياسة تعليقا على المقال لان الكلمة اصبحت مثل العلقم خاصة مع ذكريات احداث الألم والخيبة ،،، واجمل ما في الصفحة كاملة هي ابتسامتك المريحة يا دكتور زوبع ،، يكفي هذا