قضايا وآراء

"اللامركزيّة" السّوريّة والإرادة الدّوليّة

جلال زين الدين
1300x600
1300x600
تردّد في الآونة الأخيرة مصطلح "اللامركزية السّياسيّة"؛ باعتباره خيار الخلاص الوحيد للسوريين على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم السّياسيّة والعرقيّة والدِّينيّة والطّائفيّة. ولعلّ زيارة وفد مجلس سوريا الدّيمقراطيّة، المعروف اختصاراً بـ"مسد"، المُهيمَن عليها من قبل قوّات الحماية الكردية، تأتي بهدف تحقيق هذه النّقطة "اللامركزية" كهدف استراتيجي لهذه الزّيارة، وَفق ما صرّح القادة الكرد.

ورغم الحبر الكثير الذي سال حول زيارة هذا الوفد إلى دمشق، واعتبار كثيرين هذه الزّيارة خطوة نحو إعادة المناطق الخاضعة للسيطرة الكردية إلى حضن النظام مُتهمين القيادات الكرديّة بالخيانة للقضيّة الكرديّة من جهة، والعمالة للنظام السّوري على حساب الثّورة، لكننا نستبعد هذا السّيناريو (التّسليم) رغم حصوله سابقاً في أجزاء من حلب الشّرقيّة. وليس مبعث الاستبعاد الثّقة بالقيادات الكرديّة، إنّما اختلاف الظّروف. فقرار زيارة مجلس سوريا الدّيمقراطيّة إلى دمشق ليس قراراً أو خياراً كرديّاً خالصاً، رغم توفر الرّغبة والإرادة الكردية لهذا اللقاء. فقد استشار وفد "مسد" المبعوثَ الأمريكي في التحالف الدولي بربت ماكفورك الذي وافق على ذهاب الوفد لدمشق مُقترحاً على الوفد التّركيز على استعادة الخدمات في المرحلة الحاليّة، كما أنَّ مرارة نتائج استفتاء كردستان ما زالت واقعاً معاشاً، فضلاً عن ألم خسارة عفرين في عملية "غصن الزيتون".

فهذه الظّروف (حالة الإحباط واليأس وتلاشي حلم دولة "كردستان") تمثّل العامل الدّاخلي الأوّل الذي يُراهن عليه النّظام السّوري لإخضاع الكرد والهروب من استحقاق "لامركزية الحكم". أمّا العامل الثّاني، فيتمثّل باختراق أجهزة مخابراته لصفوف القيادات الكرديّة، فغير خافٍ على متابعِ الشّأن السّوري العلاقات بين النّظام السّوري وقيادات حزب العمال الكردستاني منذ الثمانينيات (عهد أوجلان). فتجارة النّظام السّوري بالورقة الكرديّة قديمة جداً، ويعزّز هذين العاملين حاجةُ "مسد" لإمكانات النّظام لتوفير الخدمات التي أكدّ عليها ماكفورك.

والحقّ يقال أنّ كلّ العوامل تعدُّ هباءً منثوراً أمام الإرادتين الرّوسيّة والأمريكيّة. ولا نبتعد عن الحقيقة إذا اعتبرنا لقاءات "مسد" مع النّظام السّوري ثمرة من ثمار قمّة هلسنكي الأخيرة بين الرّئيسين ترامب وبوتين؛ اللذين وضعا الخطوط العريضة لأفق الحلّ السّوري.. الحلّ القائم على حكم ديمقراطي "لا مركزي" لسوريا المستقبل.

ويهدف الرّوس والأمريكان قبل الكرد (الذين باتوا مضطرين لقبول كلّ ما يعرض عليهم) من هذا اللقاء؛ إلى استطلاع حدود ما قد يقبل به النّظام السّوري طواعيةً قبل الإكراه، بدلالة الرّعاية الدّوليّة لهذا اللقاء، وفق ما أوضح رئيس حزب سوريا المستقبل إبراهيم القفطان.

واللافت أنّ النّظام السّوري لم يرفض فكرة "اللامركزيّة" من حيث المبدأ، حيث توصل الطّرفان إلى تشكيل لجان من الشّمال السّوري، والحكومة تقوم بدراسة القانون 107 الخاص بالإدارة المحليّة ومشروع الإدارة الذّاتيّة (حسب إعلام قسد).

ويرجع قبول النّظام السّوري فكرة "اللامركزية" لضغوط الدّبلوماسيّة الرّوسيّة التي تدرك جيداً أنّ "اللامركزيّة" هي الحلّ السّياسي الوحيد الذي يمكن جمع الأطراف عليه، ولا سيما بعد شبه انسداد أمام مواصلة الحلّ العسكري وفق العقيدة الرّوسيّة. ومن هنا تعمل الدّبلوماسيّة الرّوسيّة على خطوط متوازية مع الأمريكان والأتراك وغيرهم. فالأمريكان والأتراك لن ينسحبوا من سوريا شرقاً أو شمالاً قبل إنجاز حلّ سياسي حقيقي. وهنا تكمُن عقدة المنشار للروس؛ فلا يستطيعون تجاوز الأمريكان، ولا يريدون إزعاج الأتراك، وبالتّالي لا يمكنهم إعلان النّجاح في سوريا دون الوصول لحل سياسي يشمل الجغرافيّة السوريّة يرضي اللاعبين الدّوليين والإقليميين.

فزيارة وفد "مسد" لا تمثّل أيّ نصر للنظام السّوري كما يروّج إعلامه؛ لأنّ إرادتهما صفر أمام الإرادة الدوليّة، ولا تمثّل نصراً للكرد باعتبارهم لا يستطيعون الخروج عن الخطوط المرسومة لهم. وما يُؤسف له أنّ حال المعارضة السّورية الرّسميّة لا تختلف كثيراً عن حال النّظام، ووفد "مسد" فأستانة من نسختها الأولى لنسختها العاشرة أدوات للإرادة الدّوليّة المتحكمة بالشّأن السّوري.

وتبقى إمكانيّة نجاح حلّ سياسي يفضي لحكم "لا مركزي" موضع شكّ لدى كثيرين؛ لأنّ هذا الحل يؤدي ضمناً لانهيار النّظام الأمني الحامي لمنظومة الاستبداد، ما يعني ولادة سوريا جديدة بعيداً عن استبداد الأسد، وهذا ما لا يريده الرّوس الذين قد يجدون أنفسهم أمام خيارات مرّة، فيصعب الجمع بين حكم "لا مركزي" يحافظ على الحكم الأمني وبين اللاعبين الدوليين والإقليميين، ولا سيما الأتراك الذين قد يرحبون بالحكم "اللامركزي" ويفضلونه على "الفيدرالية" التي قد تشكّل نواة دولة كرديّة. ونزعم هنا - خلافاً لكثيرين - أنّ تركيا لا تعارض، بل قد تشجع الحكم "اللامركزي"، ولكن شريطة أن يكون عادلاً وممثّلاً حقيقياً للنسيج الاجتماعي، حيث يدرك الأتراك أكثر من غيرهم أنّه في حال تطبيق هذا المبدأ فإنّ "الخطر الكردي" سيزول نهائياً باعتبار الكرد يشكلون أقليّة في الشّرق السّوري. ومن جانب آخر، فإنّ تركيا تمنح الكرد في شرق تركيا أكثر من الحقوق التي سيحصلون عليها في سوريا في حال نجاح تجربة "الحكم اللامركزي".

فالعقبة ليست تركيا، وليست الثوار الذين تآكلت قدراتهم، إنّما المعادلة الصّعبة عند الرّوس، وربما يكون ذلك السّبب الرّئيس وراء التّردد الرّوسي في السّير نحو حلّ سياسي حقيقي ينهي مأساة السّوريين.
التعليقات (0)

خبر عاجل