كتاب عربي 21

المؤامرة التسويقية لـ"الإصلاحات"... في أحضان صندوق النقد

طارق الكحلاوي
1300x600
1300x600


قبل بضعة أشهر اجتاحت الواجهات الإشهارية للعاصمة التونسية حملة مجهولة المصدر تحت عنوان "نحب نقدم" و"ايجا نفهمو الإصلاحات". كنت من بين الذين تساءلوا عن مغزى الموضوع خاصة أن ورود كلمة "الإصلاحات" فيها جعلني كما هي العادة شديد الانتباه للموضوع. إذ مثلما قلت في مقال سابق كلما ورد هذا المصطلح إلا وتحسست كافة أسلحة الشك والريبة لدي.

بحثت حينها في الإنترنت فوجدت موقعا يحمل عنوانا رسميا (gov.tn) بما يحيل أنها حملة رسمية خاصة أنها تتضمن أساسا وثائق حكومية لا غير، والموضوع كما هو متوقع التسويق لـ"الإصلاحات" التي سطرها صندوق النقد والتي يطبقها بعمى كامل الائتلاف الحاكم الحالي. كان الأمر غريبا بعض الشيء... لما تحتاج حكومة معنية حصرا بالتنفيذ إلى التسويق لهذه التعليمات؟ تبين الآن بوضوح ومثلما كشف ذلك برلمانيون بريطانيون أنه حتى التسويق لم يكن بإرادة الحكومة. الإصلاحات والتسويق هي سلعة أجنبية وليست الحكومة سوى يافطة لتشريعها.

كانت البداية للفضيحة هذه المرة الساهرون على صرف المال العام البريطاني أي نواب مجلس العموم. إذ نشرت "الغادريان" البريطانية منذ أسبوع مقالا يتضمن مقتطفات من وثائق وتصريحات نواب بريطانيين تفيد أن شركة التسويق الإعلامي (M&C Saatchi) القريبة عادة من حزب المحافظين "لإدارة حملة إعلاميّة بهدف دعم حكومة يوسف الشاهد بعد التحركات الشعبية التي شهدتها عدّة مناطق في تونس خلال شهر جانفي 2018، احتجاجا على قانون المالية."

تضيف "الغارديان" أنّه "تمّ التعاقد مع وكالة الإعلان المذكورة لإدارة حملة تستهدف الجمهور التونسي"، مبيّنة "أنّ من أهداف شركة الإشهار العالميّة تحسين الوعي العام بدور الحكومة في تخطيط وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التي تأتي في إطار خطة يدعمها صندوق النقد الدولي لخفض عجز الميزانية وتعزيز النمو في تونس."

وأشارت "الغادريان" إلى أنّ الحكومة البريطانية قامت بتمويل شركة "Saatchi M&C" عبر صندوق "الأمن والاستقرار CSSF" الذي تمّ بعثه بدعم حكومي من وزارتي التنمية والخارجية البريطانيتين وهو ما يعني أن التمويل يتم تقريبا بشكل سري وملتوي لإخفاء هوية الداعم.

المثير أكثر في الموضوع تأكيد الصحيفة نقلا عن مصدر من وزارة الخارجية البريطانية، أنّ شركة الإشهار العالمية "Saatchi M&C" لا تعمل بشكل مباشر مع الحكومة التونسية "بل مع مكتب رئيس الحكومة" حصرا أي يوسف الشاهد وهو المعني بالإقالة الآن ويمثل وضعه مأزقا للعمل الطبيعي للدولة.


أخيرا كشفت "الغارديان" أنّ لجنة التدقيق في المساعدات بالبرلمان فتحت تحقيقا في طريقة عمل البرنامج وتتبع ملفّ تمويل الحملة في تونس "خاصة في علاقة بانتهاك حقوق الإنسان التي دعمها الصندوق بشكل غير مباشر في احتجاجات جانفي الأخيرة".

 

الحكومة التونسية ردت على التقرير الصحفي بالنفي في بلاغ لرئاسة الحكومة، ما تم تداوله، استنادا إلى مصادر صحفية أجنبية، مفادها قيام الحكومة البريطانية بتمويل "حملة إعلامية لمواجهة الاحتجاجات" لفائدة الحكومة التونسية، مؤكدا أن الحكومة التونسية "لم تتعاقد إطلاقا مع أي شركة إشهار، في علاقة بما عرفته البلاد من احتجاجات اجتماعية".

 

غير أنه من سوء حظ الحكومة أو رئيس الحكومة ومساعديه تحديدا أن الحكومة البريطانية ردت على الرد التونسي من خلال تصريح لسفيرتها في تونس لتؤكد عمليا كل المعطيات الواردة في تقرير "الغارديان". إذ قالت سفيرة المملكة المتحدة بتونس لويس دي سوزا، إن الحكومة في لندن اتفقت مع الشركة الإشهارية “M & C Saatchi” من أجل القيام بحملة لفائدة الحكومة التونسية حول الإصلاحات الاقتصادية التي تقوم بها.

 

وأضافت ”لويس دي سوزا”، في تصريح الأربعاء 4 جويلية 2018، أن الهدف من هذه الحملة الدعائية التي كانت بطلب من الحكومة التونسية هو إشعار المواطنين بالإصلاحات الاقتصادية المنجزة من قبل الحكومة، مشيرة إلى أن هذه الحملة تم تمويلها من قبل صندوق الصراع والاستقرار والأمن (CSSF).
فالحكومة البريطانية على ما يبدو عندما تفكر في "الإصلاحات الاقتصادية" تفكر مباشرة في إمكانية تأثيرها المباشر على "الاستقرار والأمن" وهو تحليل منطقي ويعكس معرفة عميقة بالآثار الالية لأي خطط يسطرها صندوق النقد في أي مكان. في المقابل فإن الائتلاف الحاكم يتنافس فيما بين رؤوسه من رؤساء أحزاب ورئاسة حكومة على تطبيق التعليمات "الإصلاحية" وتسويقها.

 

أحد وسائل الحملة أي الموقع الإلكتروني يتضمن مقدمة تعكس مستوى الاستغفال الذي تنظر به الحكومة للمواطنين الشباب منهم على وجه الخصوص. الفقرة بالدارجة التونسية تتضمن: "الكلنا نعرفو أنه بلادنا لازمها تحولات كبيرة حتى تخلط لازدهارها الاقتصادي وحتى نضمنو العدالة الاجتماعية. وفي نفس الوقت الي الحكومة التونسية تخطط لإصلاح المنظومة الاقتصادية والاجتماعية يهمّها أنه التوانسة الكل يكونو على علم بأشغالها والأهداف إلي تحبنا نخلطولها جميع. هذاكة علاش موقع الويب «نحب نقدّم» يوفّر لنا كل ما يلزم باش نفهمو الإصلاحات الكبرى ونقدّمو."


هذه الصياغة الإنشائية التي تربط مصطلحات "التقدم" و"الإصلاح" و"الازدهار" و"العدالة الاجتماعية" هي عصارة المال العمومي البريطاني. غني عن القول إن الشباب التونسي لاسيما الذي احتج أو الذي يشعر بالاحتقان لم ينتبه عموما إلى التسويق باللغة الخشبية آنفة الذكر.

 

هذه اللعبة التواصلية تحيلنا على مسرحية بدائية بلا ضوابط أو معنى. مجرد ملهاة بلا طعم. تغطي على الإصلاحات الاقتصادية الفعلية التي ينتظرها التونسيون والتي لا يمكن إلا أن تصدر مضمونا وتسويقا عن العقل التونسي المتحرر من استبداد الماضي واستبداد المؤسسات المالية الدولية.



0
التعليقات (0)