كتاب عربي 21

الموت تحت الترفيه

أحمد عمر
1300x600
1300x600
كنت أريد أن أقول: إننا نموت تحت وطأة الترفيه، وإن المدرب الألماني يواخيم لوف (يواخيم الأسد) لم يقل لفريقه "سودتم وجوهنا"، فالفريق سيعود إلى ألمانيا ويلعب، وقد عاد مستقبلاً بالورود. الرياضة في أوروبا ليست لهواً، إنها عمل مثل الأشغال الشاقة والشيقة، وفي أوروبا، الرجل غالبا في مكانه المناسب. وفي أوروبا كؤوس كثيرة، غير كأس المدام وكأس الغرام. وإن مباراة في مونديال لهو ولعب، لا تسوّد وجهاً أسود.. الذي يسود الوجه هو كل ما سوى الكرة.

كنت أريد أن أقول إن الفرق العربية في مونديال روسيا رفهتنا كثيراً، وحوّلت مباريات "المجد" إلى سيرك، وإن حياتنا مقسومة قسمين: إما الموت تحت التعذيب، أو الموت تحت الترفيه، فعندما نخسر المجد، نكسب الضحك، وشتان طبعاً، فالحاصلون على ناصية المجد المصمد يضحكون أيضاً، وضحكاتهم أنغام وورود، وليست كضحكة الديك مذبوحاً من الألم بيد الدجاج.

كنت أريد أن أقول: إنه أثناء المونديال وقبلها بسبع سنوات عجاف، أكلنا ما حصدنا.. زرع الأسد الشوك وحصدنا القتاد. رفع الرئيس السوري للشعب البطاقة الحمراء، وحكما التماس، روسيا وإيران، متواطئان، ومرتشيان، والجمهور العالمي يشجع اللعب "الحلو"، ويطالبنا بضبط النفس، وخفض التصعيد، وكتم الأنين.

كنت أريد أن أقول: إنّ الشعر كان ديوان العرب يوماً، وليست الكرة، ثم صار ديوانهم ديوان المظالم، ولم يعد الشعر ديواناً لهم، الظلم ديوانهم الحالي. وإن الكرة واحدة من دواوين الغرب الكثيرة.

كنت أريد أن أقول: إن الرؤساء العرب راسبون في كل المناهج: العلوم والفيزياء والكيمياء واللغة العربية، والدين والوطنية طبعاً، ويسمّون المنهاج، "مادة" في سوريا، و"مقرراً" في مصر، وقد صرفوا جهدهم لمنهاجين من مناهج العلوم، هما: التربية العسكرية في كل مناحي الحياة، وكرة القدم في موسم الكأس، أما التربية الرياضية فهي على الأذى والذل. وكانت الرياضة في المدرسة منهاجاً من أخس المناهج وأذلها.. إنها عادة حصة درسية حرّة، يسرح فيها الطلاب في الباحة المدرسية، ويحكون في محظورات الكلام والسياسة همساً، ترويضاً للنفس المكلومة على الذل والهوان.

كنت أريد أن أقول: إني شاهدت أمس مثل كثيرين على وسائل التواصل الاجتماعي؛ مدوّناً مصرياً يقود سيارته، وهو في ثياب "الحرب" الرياضية، كان يرتدي كنزة فريقه الحمراء، وشكا وبكى من غلاء سعر الفانلة التي اشتراها للإحرام في زمن الحج الكروي إلى مونديال روسيا، ويطلب من أمه الدعاء للفريق، لكن الفريق جاء بانقلاب يا روح أمك، بل صيّر نفسه مشيراً، ولا يعرف سوى فعل واحد، هو التسلل، وتسجيل الأهداف في مرمى الشعب. ولو فاز الفريق المصري - لا سمح الله - على الفريق الروسي، لما وسعت المشير المصري الدنيا، ولصارت أم الدنيا جدة "ونينة"، وأمسى بعدها رئيساً نووياً، هزم دولة عظمى لها حق الفيتو، فقد صارت الرياضة فجأة أهم من كل المناهج والمقررات والمواد، هي التي ترفع الرأس وتجلب العزّة. 

كنت أريد أن أقول: إن رياضة العرب الأولى، كانت ركوب الخيل، وأعزُّ مكان في الدنى سرج سابح. وأريد أن أسهبَ في وصف تلك الرياضة وفرسانها، أنبياء وملوكاً وخفافا وثقالاً، لولا أن الحديث سيطول.

وكنت أريد أن أقول: طوبى لمحمد صلاح بالجنسية الشيشانية، في هذه اللحظة التاريخية الحرجة من تاريخ أمتنا، التي تبحث فيها عاصمة المسلمين عن الترفيه، وأخشى أنها وقعت في درك التسفيه، وإن الجنسية الشيشانية من الدرجة العاشرة، فليس للمواطن الشيشاني حصانة. وكل من السيسي وقديروف من فريق واحد، هو فريق السعير.

كنت أريد أن أقول: إن الأنبياء بعثوا في غير زمن كرة القدم.

كنت أريد أن أقول: عزيزي العربي المخذول المرفوس بالأقدام، تمتع بنكهة الفصام الرياضي، والنزوح النفسي، ومرض الشقيقة الوطنية: لكل عربي في هذا العالم فريقان؛ فريقه الوطني، وفريق ثان قد يكون إيطاليا أو البرازيل أو ألمانيا..

كنت أريد أن أقول: إن المفكرين يزعمون أن كرة القدم هي تعويض عن الحروب، لكن الحروب ما زالت تقع، بل إن الروس يلعبون بالكرة في المونديال، وبالنار في سوريا وأوكرانيا. وإنني أدّعي أن كرة القدم حرب أيضاً، وتسبب الأحقاد والضغائن.

كنت أريد أن أقول أشياء مثل هذه لا معنى لها.

كنت أريد أن أقول: إنه من الأسف أن لبنانياً قُتل بسبب خسارة الفريق الألماني، وليس الفريق اللبناني، ولا العربي، ولا على الجبهة طبعا، فـ"الجبهات" في الأرض والأقدام في الأعلى.

وكنت أريد أن أحزن على ما وقع لمحمد صلاح، الذي أُلبس السلطانية.

وكنت أريد أن أقول: إن شعار الثورة السورية كان الموت ولا المذلة، وقد حصلنا على الاثنين: الموت والمذلة؛ لأننا لعبنا من غير خطة، ولا تدريب، وبِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ.

كنت أريد أقول أشياء من هذا القبيل، وهذا المونديال.

وكنت أريد أن أنقل عن ابن كثير قصَّة مفادُها أنَّ ما أيقظ الخليفة وجعلهُ يُدرك مدى الخطر المُحيط به وبالدولة والإسلام والناس؛ أنَّه وأثناء الحصار، كان المُستعصم (آخر الخلفاء العباسيين) يتلهَّى بالجواري والرَّاقصات من حوله، فأُصيبت جارية كانت تلعب بين يديه وتُضحكه تُدعى "عرفة"، أثناء تبادل رشق النبال مع المغول، ما أثار فزع الخليفة، ولمَّا أُحضر السهم الذي قتل الجارية، وُجد مكتوبا عليه: "إِذَا أَرَادَ اللهُ إِنفَاذَ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ أَذهَبَ مِن ذَوِي العُقُولِ عُقُولَهُمُ".

كنت أريد أن أردد قول الشاعر الواعظ، بعد رثاء الراقصة عرفة:

كيف يُرجى الصَّلاحُ من أمرِ قومٍ

ضيَّعوا الحزم فيه أيّ ضياع

فمُطاع المقالِ غيرُ سديدٍ                    

وسديدُ المقال غيرُ مُطاع

كنت أريد أن أقول إنّ الحج عرفة وليس عرفة.

كنت أريد أن أقول وأقول، لكن في الفم... دم.
التعليقات (0)