مقالات مختارة

ترامب يقطع خيوط أمريكا مع العالم

سعيد الشهابي
1300x600
1300x600

في عالم تمثل الولايات المتحدة فيه القطب الأكبر سياسيا واقتصاديا وعسكريا، يصعب التنبؤ بمستقبل يعم فيه الأمن والاستقرار والكرامة الإنسانية. فقرارها الأخير الانسحاب من عضوية مجلس حقوق الإنسان يؤكد حقيقة مرة: أن أمريكا تمارس سياسة بلا أخلاق. وهناك عدد من الحقائق التي يجدر ذكرها لتوضيح ذلك: 


الحقيقة الأولى: أن أمريكا فرضت نفسها على المسرح الدولي بشكل كامل بعد الحرب العالمية الثانية، وتنامى دورها خلال حقبة الحرب الباردة. ومن المؤكد أن استخدامها القنبلة الذرية في تلك الحرب وتدميرها هيروشيما وناغازاكي كان مدخلها لتلك الهيمنة لاحقا. فكان لها دور مباشر في الحرب الكورية في 1952 وفيتنام والشرق الأوسط. وتصدرت الصراع الغربي ضد التمدد الشيوعي الذي ارتبط بالاتحاد السوفياتي. 


الثانية: أنها اعتمدت، وما تزال تعتمد، على قوتها العسكرية الكبيرة لفرض نفسها ومواقفها على العالم. ومنذ أن أصبحت جزءا من حلف الناتو تعاظم دورها العالمي، معتمدة على أوروبا التي تعتبرها الساحة الخلفية لها. وتحت عنوان التصدي للشيوعية، كادت تدخل العالم في صراع نووي آخر في 1961 خلال ما يعرف بأزمة الصواريخ الكوبية. 


الثالثة: أنها في الوقت الذي احتضنت فيه المؤسسات الدولية الكبرى على أراضيها خصوصا الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، فإنها سعت منذ البداية لاستخدام تلك المؤسسات أدوات لتنفيذ سياساتها. وساهم نظام الفيتو الذي يعطي كلا من الدول الخمس الأعضاء بذلك المجلس حق نقض أي مشروع قرار ينوي المجلس إصداره، في تهميش دور الأمم المتحدة ومجلس الأمن، إذ أصبح لكل من تلك الدول القدرة على منع صدور القرارات الملزمة، الأمر الذي أدى لتفاقم الأزمات بدلا من حلها. وهكذا ساهمت أمريكا في تهميش دور الأمم المتحدة في الصراعات الدولية. 


الرابعة: أن أمريكا، بقدرة قادر، فرضت نفسها حامية للكيان الإسرائيلي، خصوصا بعد حرب 1967، وبذلك تعذر صدور أي قرار من ذلك المجلس ضد سياسات قوات الاحتلال، حتى عندما يرتكب أبشع الجرائم، كما فعل في قانا في 1996. 


وأصبح العالم متأرجحا في مواقفه إزاء الأمم المتحدة ومجلس الأمن لسببين: حصر العضوية الدائمة بالدول الخمس الكبرى (أمريكا وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا)، ومنح حق النقض لكل من تلك الدول. 


الخامسة: أن أمريكا ترى في وعي شعوب العالم تهديدا لهيمنتها، فكلما توسع حضور دول «العالم الثالث» في المنظمة الدولية ومؤسساتها، توسعت المعارضة للسياسات الأمريكية. يضاف إلى ذلك أن تلك الدول اعتادت تاريخيا رفض السياسات الإسرائيلية، خصوصا تحت غطاء منظمة عدم الانحياز، الأمر الذي ترى أمريكا فيه تهديدا لنفوذها واستهدافا لـ «إسرائيل». ولذلك تعتبر الولايات المتحدة من أقل الدول رغبة في توقيع المعاهدات والمواثيق الدولية. 


السادسة: أن أمريكا نصبت نفسها ضامنة لـ «إسرائيل» وحامية لها من الغضب الدولي الناجم عن سياساتها التوسعية والإجرامية ضد الشعب الفلطسيني. إنه ترابط وثيق يزداد متانة وقوة ويحول دون حل القضية الفلسطينية التي مضى عليها سبعون عاما. وقد عملت الولايات المتحدة طوال نصف القرن الماضي على تحييد دول كثيرة في إفريقيا وأمريكا الجنوبية، في موقفها الداعم للقضية الفلسطينية.


وكما هو الأمر في أغلب دول العالم، فإن السياسات الاستراتيجية للدول ثابتة لا تخضع لتغيرات جذرية بتغير الرئيس أو الحكومة. فهذه الدول محكومة بقوى داخلية عديدة، لا ينتخب منها إلا السلطة التشريعية والتنفيذية اللتين تلتزمان عادة بتلك الثوابت.


وظاهرة «الدولة العميقة» ليست محصورة ببلد دون آخر، بل هي ظاهرة عامة في الدولة الحديثة. ويمكن القول إن الحريات العامة إنما يسمح بها عندما تكون «الدولة العميقة» تملك سيطرة تامة على الأمور. ويمكن الادعاء بأن الحريات العامة تتوسع عندما تكون الدولة «بوليسية» وليس العكس. فأجهزة الأمن والاستخبارات في الدول الغربية قوية جدا، وبالتالي تتيح فرصا أوسع للتعبير عن الرأي، لأنها تعلم أن ذلك لن يؤثر على النظام السياسي أبدا. والدولة العميقة في أمريكا قوية وفاعلة ومهيمنة على الأمور.


أما الرئيس، فله سلطات محدودة يستطيع ممارستها بشرط ألا تتعارض مع ثوابت الدولة العميقة. ومنذ نصف قرن أصبحت الولايات المتحدة ملتزمة بضمان أمن «إسرائيل». هذه سياسة يلتزم بها الرؤساء سواء من الجمهوريين أم الديمقراطيين. ولا يقل باراك أوباما، برغم انفتاحه النسبي، عمن سبقه ومن تلاه حول المسألة الإسرائيلية. الأمر الملاحظ أن الرئيس الحالي، دونالد ترامب، كثف الجرعة الإسرائيلية في سياساته، وانطلق في علاقاته الخارجية على أساس ذلك. فمتانة علاقته بالسعودية مرتبطة بأمرين: حصول أمريكا على مئات المليارات من الرياض، وتطبيع علاقاتها بالكيان الإسرائيلي. وينطبق ذلك على العلاقة مع الإمارات أيضا. ووسع ترامب سياساته الداعمة بلا حدود للكيان الإسرائيلي باستهداف المؤسسات الدولية التي تمارس سياسات ناقدة للسياسات الإسرائيلية. 


وبرغم قوة أمريكا وحجمها الاقتصادي والسياسي، إلا أنها ما تزال تتحسس من العمل الدولي المشترك، وتصر على الاحتفاظ بدورها القيادي الذي يتجاوز المؤسسات الدولية في كثير من الأحيان. ولذلك فهي تتخذ قرارات ضد هذه الدولة أو تلك، وإن تعارضت مع المواقف الدولية التوافقية.


هذه الظاهرة تواصلت منذ تسعة عقود تقريبا. ففي العام 1930، وقعت دول كثيرة ميثاق العمل الجبري الذي يعتبر أحد الأسس الثمانية لمنظمة العمل الدولية، ولكن الولايات المتحدة رفضت التصديق على هذا الميثاق حتى اليوم. وهناك أكثر من ]ربعين ميثاقا أو معاهدة دولية تصر الولايات المتحدة إما على رفضها أو التوقيع عليها دون التصديق عليها، أي جعلها ضمن التشريعات المحلية. ومن هذه المواثيق اتفاقية كيوتو الهادفة للحد من الانبعاث الحراري التي وقعتها أمريكا بعد ضغوط كبيرة في 1997، ولكنها لم تصدق عليها.


وفي التسعينيات أيضا رفضت واشنطن توقيع بروتوكولات روما التي تنظم عمل المحكمة الجنائية الدولية. وما تزال ترفض ذلك حتى اليوم برغم المطالبة الدولية بذلك. وفي الأول من شهر حزيران/يونيو 2017 أعلن الرئيس ترامب أن أمريكا ستوقف المشاركة في اتفاقية باريس المناخية التي وقعتها دول العالم في 2015. وكان رد فعل الدول الصناعية التي هي الأكثر من حيث انبعاث ثاني أوكسيد الكربون (دول الاتحاد الأوروبي والصين والهند)، تأكيدها الالتزام باتفاقية باريس للحد من ذلك الانبعاث.


وبرر ترامب قرار الانسحاب من تلك الاتفاقية، بأنه حماية للتجارة والصناعة الأمريكيتين. وضمن سياسته المؤسسة على مبدأ «أمريكا أولا» يعتقد ترامب أنه يحمي المصالح الأمريكية، ولا يعير اهتماما للمصلحة العامة لشعوب العالم. لقد تداعت الأوضاع المناخية في العالم بشكل مروع، الأمر الذي دفع الساسة منذ أكثر من ثلاثين عاما للتوقف عند ظاهرة الانبعاث الحراري وآثارها على المناخ، وسعوا للتوصل لاتفاقات تقلل ذلك الانبعاث. فمن المؤكد أن تساهل العالم إزاء قضايا التلوث والبيئة، واللهث المتواصل لتحصيل عائدات مالية كبيرة بأي طريق، يساهم بشكل مباشر في ظاهرة التلوث الخطيرة. فالإفراط في استخدام البلاستيك أصبح مصدر تهديد للبيئة العامة. 


وفي 12 تشرين الأول/أكتوبر 2017 أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية انسحابها من المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو).


وقالت، «إن القرار يعكس قلق الولايات المتحدة تجاه ضرورة إصلاحات جذرية في المنظمة، وتجاه استمرار الانحياز ضد إسرائيل في اليونسكو». 


وعلى الفور رحب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو بذلك القرار قائلا: «هذا القرار شجاع وأخلاقي؛ لأن منظمة اليونسكو أصبحت مسرح عبث». جاء القرار الأمريكي قبل أن يقرر نتنياهو الانسحاب من المنظمة المذكورة. ولكن الغضب الدولي الأكبر حدث عندما قرر الرئيس الأمريكي سحب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران، وهو الاتفاق الذي كان من أهم إنجازات العمل الدولي المشترك.


جاء القرار الأمريكي بعد جهود مضنية بذلها رئيس الوزراء الإسرائيلي على مدى سنوات لإسقاط الاتفاق واستبداله بعمل عدواني على إيران (عسكري أو اقتصادي). هذا القرار الأمريكي أحدث إحباطا واسعا على الصعيد الدولي؛ لأنه كشف للعالم غياب التوافق الغربي ووجود خلافات جوهرية بين ضفتي الأطلسي.


وما تزال أوروبا ملتزمة بالاتفاق وتسعى لتخفيف وطأة الانسحاب الأمريكي على وضع العالم واستقراره وأمنه. ثم جاء قرار الانسحاب من مجلس حقوق الإنسان بدعوى أنه منحاز ضد «إسرائيل»، ليكمل المسار الأمريكي الذي يتجه نحو العزلة من جهة، والانحياز لأنظمة الاحتلال والاستبداد من جهة أخرى.

 

القدس العربي
0
التعليقات (0)