قضايا وآراء

عن عنف الثورة: فرنسا نموذجا

حسين عبد العزيز
1300x600
1300x600

بسبب قوة الملكية المطلقة التي بلغت ذروتها مع هنري الرابع ولويس الرابع عشر والسادس عشر، لم يكن في فرنسا مؤسسات قابلة للحياة رغم بنيتها البيروقراطية القوية، ولا طبقة نبلاء وبرلمان قادرين على مواجهة الحكم الملكي المطلق.


ميز صموئيل هنتنغتون بين نوعين من الأنظمة أثناء عملية العصرنة: أنظمة تفتقد لمؤسسات سياسية قوية (إنكلترا)، وأخرى تمتلك مؤسسات وبيروقراطية قوية (فرنسا)، في الحالة الأولى (حالة المؤسسات الضعيفة / إنكلترا) يتطور المجتمع نحو التشاركية السياسية الأوسع، أما في الحالة الثانية (حالة المؤسسات القوية / فرنسا) يواجه المجتمع مشكلات خطيرة في تكيفه مع المشاركة السياسية بسبب طبيعة بنيته السياسية القوية.


وتبدو الأنظمة البيروقراطية بمركزيتها العالية كفرنسا أكثر عصرية من الأنظمة الإقطاعية الأكثر تعددية كإنكلترا، لكن المفارقة أن الأنظمة الإقطاعية كإنكلترا أثبتت أنها أكثر قابلية للتكيف مع الأنظمة الملكية، وفي هذه المراحل يتابع هنتنغتون بأن حدة الصراع خفت بين الأوليغارشية والطبقة المتوسطة في إنكلترا، وبرهنت المؤسسات السياسية على قدرتها في استيعاب الجماعات من الطبقة الوسطى الجديدة داخل النظام السياسي.


لقد أدى فشل حرب الفروند 1648 ـ 1652 إلى ردة فعل ملكية جعلت من الحكم المطلق الإلهي واقعا قائما، وليس صدفة أن هذه الانطلاقة تزامنت مع قوة الشعور بالاستقلال القومي المرتبط بالسيادة الفرنسية، وعادت الكتابات المعارضة للسياسة (الحق الإلهي، الحق الطبيعي) للظهور مجددا في فرنسا لويس الرابع عشر وعادت معها عملية تأليه الملك.


وبنفس القدر انتشرت الكتابات المعادية ليس للملكية في حد ذاتها وإنما للطغيان الملكي ممثلا بالملك ووزرائه، وكان مصدر هذه الكتابات بداية في أوساط الليبرالية النبيلة التي استلهمت بعض المفاهيم من العصور الوسطي، لا سيما من التقليد الروماني.


طور الفلاسفة الفرنسيون الذين كانوا غير فاعلين في الحياة السياسية بسبب الاستبداد الملكي، أيديولوجيات مثالية مفارقة للواقع باسم العقل والحقوق والطبيعة والحرية والمساواة ..إلخ، وهذه الأيديولوجيات طبعت التنوير الفرنسي بطابعها: فولتير يدعو إلى إعلان الحرب على الكنيسة، وديدرو يدعو إلى قتل الملك، وآخرون يجاهرون بالإلحاد ويضعون الدين في مرتبة دونية مع العامة، وهكذا تحولت كثير من المفاهيم السياسية التي كانت معتدلة في إنكلترا إلى مفاهيم راديكالية في فرنسا، وباسم هذه الأيديولوجيات ستكشف الثورة عن أنيابها وتنجب عهد الرعب الفرنسي أثناء الثورة مع روبسبير واليعاقبة.


في هذا الوضع كانت الإقطاعية في تراجع، وزاد من أزمتها بوادر ظهور البرجوازية والزراعة التجارية، حيث فشلت الطبقة الارستقراطية في الاندماج بالرأسمالية الوليدة والتحول إلى التجارة الزراعية، واستعاضت عن هذا العجز بخلق ترتيبات إقطاعية لاستخراج الفائض الاقتصادي من الفلاحين والقضاء على ما تبقى من امتيازاتهم يقول بارنغتون مور، الأمر الذي حال دون التوصل إلى حل يرضي الفلاحين ويجنب البلاد العنف كما حدث في إنكلترا.


وفي محاولته الحد من هيمنة الطبقة الإقطاعية بدأ الملك إدخال جزء من البرجوازية الصاعدة في المؤسسة البيروقراطية للدولة، وكان من نتيجة ذلك أن هذه الطبقة الجديدة بدأت تتبنى مقولات الدولة وتتسم بسمات مشابهة لسمات الإقطاع، وهذه ممارسة ميزت فرنسا عن إنكلترا.


هنا تلاقت مصالح البرجوازية البيروقراطية وتباعدت في نفس الوقت مع مصالح الإقطاع، وكان أساس الخلاف في طبيعة العلاقة مع الدولة، وعدم التفاهم بينهما أدى إلى عدم استقرار شمولي للمسار السياسي الفرنسي، حيث خضع التطور لسياق سخط الجماهير وليس لتوجهات الفئات المهيمنة كما في إنكلترا.


ولذلك خاضت الديمقراطية الفرنسية صراعا عنيفا مع إقطاع رجعي ودولة ذات صلة وثيقة بقوى تحاول الحفاظ على الوضع الاجتماعي وتثبيته وعلى رأسها الكنيسة التي لم تشهد أي حركة إصلاح، وهذا ما يفسر سبب الحركة العنيفة المناهضة للدين والكهنوت.


لم تكن البرجوازية عشية الثورة الفرنسية هي القوى المحركة لها، فقد كانت الملكية بخطواتها الإصلاحية وتنظيمها السياسي الصارم قد مهدت للحداثة من غير قصد، كما ساهمت محاولة الطبقة الإقطاعية إعادة ترتيب كينونتها الاقتصادية والسياسية في تحريك الأفكار الثورية من دون قصد أيضا.


كان لرد الفعل الملكي، أو الثورة المضادة الدور الرئيسي في تحويل انتفاضة جماهيرية محدودة إلى ثورة انتفاضة واسعة ثم الثورة، حيث أدت عملية محاصرة باريس بالجنود إلى دفع فقراء المدينة لاقتحام سجن الباستيل للحصول على السلاح للدفاع عن أنفسهم، وقد شكل سقوط الباستيل بداية التحرير، لكنه شكل بداية الاتجاه الراديكالي للثورة، الذي سيعبر عنه في عدة محطات: اجتياح قصر تويليري عام 1792، وإعدام الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت في 21 كانون الثاني / يناير عام 1793، وانتفاضة باريس الكبرى نهاية شهر أيار / مايو عام 1793.


بدأت الثورة بين قوتين الإقطاعية والبيروقراطية المتحالفة مؤقتا معها من جهة والملكية من جهة ثانية، غير أنه سرعان ما دخلت البرجوازية على الخط والملاك الصغار وأغنياء الفلاحين، قبل أن يتحول الفلاحون الفقراء في الريف وفقراء باريس (اللامتسرولين) إلى قوة حقيقية ستدفع لاحقا الثورة نحو أقصى اليسار.


على الصعيد الديني، بقيت مسألة الإيمان متأرجحة بين الإصلاح بشكله الكالفيني والإصلاح المضاد بشكله الكاثوليكي بلا حل، فقد حافظت فرنسا على خصوصية في القارة الأوروبية حيال المسألة الدينية (إيمان واحد، شريعة واحدة، ملك واحد)، حيث لم يكن بالإمكان تطبيق النموذج الإنكليزي في صيغته الأنجليكانية في فرنسا بسبب وجود كنيسة كاثوليكية فرنسية قوية ولبقاء معظم الشعب على الديانة الكاثوليكية.


بالمقابل لم يكن بالإمكان تطبيق النموذج الجرماني المتمثل بإتفاقية أوغسبورغ عام 1555 التي قسمت ألمانيا إلى إمارات كاثوليكية وأخرى بروتستانتية التي جعلت من مبدأ الناس على دين أمرائهم المعيار في تخفيف حدة الصراع الديني، بسبب قوة الدولة ووحدتها.


لقد اعتمدت الملكية الفرنسية في مواجهة الهيجان الديني طريق التسامح وإن بدرجات، وظل هذا التسامح يسم التاريخ الفرنسي طيلة القرن الـ 16، مع فرانسوا الأول وهنري الثاني وشارل التاسع وهنري الثالث والملكة الأم كاترينا دي ميدتشي، وخلال هذا القرن صدرت قرارات كثيرة لتخفيف حدة التوتر بين الكاثوليك والكالفينيين، منها قرار أمبواز وحوار بواسي ومؤتمر سان جرمان وقرار بواتييه، وأخيرا مرسوم نانت الذي أصدره الملك لويس الرابع عشر عام 1598 وألغاه فيما بعد الملك لويس السادس عشر عام 1685.


في الواقع لم يكن الحكم المطلق الفرنسي مضطرا إلى خوض صراع عنيف مع الكنيسة الكاثوليكية في روما، لأن الحكم الملكي توصل إلى تفاهمات مع روما تمثلت في تنازل الأخيرة عن عدد من الامتيازات منذ منتصف القرن الـ 15، فضلا عن أن الكنيسة رغم ذلك ظلت قوية وفاعلة في فرنسا.


هنا تبرز المفارقة الفرنسية الفاقعة، دولة مركزية لم تستخدم القمع الرهيب لفرض ديانة واحدة على غرار إنكلترا، ولم تقبل تقسيم البلاد كما جرى في ألمانيا، إنها استخدمت الطريق الأوسط الذي يعتبر غريبا في التاريخ الفرنسي، لكن هذا الطريق ترتبت عليه نتيجتين رئيسيتين: الأولى، (إيجابية) وهي أن غياب الإصلاح الملكي أو بالأحرى تردد الملكية الفرنسية في فرض الإصلاح على الطريقة الإنكليزية، دفع رواد الإصلاح إلى المطالبة بفصل الدين عن الدولة كمطلب أيديولوجي لتمكين الطائفة الجديدة من العيش بسلام، وهذا المطلب شكل إرهاصات العلمنة في فرنسا.


أما النتيجة الثانية، (سيئة) وهي أن غياب الإصلاح الجدي ترك المسألة الدينية مفتوحة بلا حل، وما قرارات التسامح إلا محاولة للتهدئة المؤقتة، بل كانت أحيانا سببا للفتنة، من هنا يمكن فهم كيف أن مقولة الحق الإلهي التي نشرتها الملكية في القرنين الـ 17 و18 كانت في جزء منها من أجل التعالي على الصراعات الدينية، أي التعالي على الدين نفسه الذي قسم فرنسا، باسم مشروعية دينية / سياسية متعالية تفيض مباشرة من الله إلى الملك يقول مارسيل غوشيه، ولذلك ستأتي الثورة الفرنسية لتشكل رد فعل عنيف على الملكية والدين معا، وتدفع الفلاسفة ورجالات الثورة إلى البحث عن دين طبيعي يشكل قطيعة إبيستمولوجية وتاريخية مع المرحلة السابقة.


يتساءل خوسيه كازانوفا عن أسباب اختلاف وضعية الدين بين بلد وآخر، ومع أن مقارنته كانت بين أوروبا والولايات المتحدة، فإن هذه المقارنة تصلح أيضا للتمييز داخل الفضاء الأوروبي ذاته، بين فرنسا وإنكلترا على سبيل المثال، وقد وجد السبب الرئيسي في هذا التغير خارج الدين لأن الإصلاح البروتستانتي بشقيه السياسي والعقيدي كان واحدا في جميع الدول التي شهدت حركة الإصلاح الديني، وبالتالي فسبب تغير وضعية الدين مرتبط بطبيعة الدولة والكنيسة والثقافة العلمية.

0
التعليقات (0)