قضايا وآراء

أمريكا القومية

يحيى اليحياوي
1300x600
1300x600
في تقديمه لخطاب تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية قبل حوالي سنة ونصف، قال دونالد ترامب ضمن ما قال: "إن سياسة هذا البلد لن تكون أبدا كما كانت عليه"...

ولأنه لا بد من توضيح عملي لهذه الجملة الجامعة المانعة، فقد جاء على لسان
مستشاره في الأمن القومي الجنرال ماكماستر. يقول ماكماستر: "إنها الرؤية الثاقبة بأن العالم ليس مجموعة شاملة، بل حلبة. الأمم والفاعلون غير الحكوميين والفاعلون الاقتصاديون يتدافعون ويحاربون من أجل الامتيازات، من بين ظهرانيها. نحن نقدم القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية بدون منازع"... لكن، يتابع المستشار: "عوض أن نجهل أو نتجاهل هذه الخاصية الأولية للعلاقات الدولية، نحن نتحمل مسؤوليتها ووزرها".

من البديهي أن يكون توضيح مستشار شؤون الأمن القومي في سياق رئيسه، لكن المثير حقا فيما قال، هو تشديده أولا على القوة العسكرية، فيما لم يأت التنصيص على القوة الأخلاقية إلا في مؤخرة أولويات الترتيب.

بيد أن هذا الكلام لا ينفي مع ذلك وجود عناصر وصل بين ما صرح به الرئيس ترامب ومستشاره، وما سبق وصدر عن الرؤساء السابقين ومستشاريهم. إذ نلاحظ، على الأقل بهذه الجزئية، أن ثمة تمثلا مشتركا واحدا لمقام ومكانة الولايات المتحدة الأمريكية بالداخل وعلى مستوى العالم، كائنا من يكن قاطن البيت الأبيض ومستشاروه في الأمن القومي.

يقول برجنسكي مستشار الأمن القومي للرئيس الديموقراطي كارتر، وإن بصيغة "أقل خشونة وأكثر مرونة": "بفضل تواجدها العالمي الهائل، فإن لأمريكا الحق في أن تتمتع بمستوى في الأمن أكبر من مستوى باقي الدول... إن المقاولة سترفع حتما من حظوظ نجاحها، إذا سلمت باقي بلدان العالم بأن الاستراتيجية الكبرى لأمريكا تهدف إلى إقامة مجموعة عالمية بمصالح مشتركة ومتقاسمة"...

بيد أنه، وعلى الرغم من أن موقف مستشاري الأمن القومي الأمريكي يصب في نفس الخانة، مع اختلاف في الصيغة وفي النبرة، فإن الرئيس ترامب، الذي لا يرى في العالم إلا مجالا لـ"الفوضى الشاملة"، وفي الإنسان "أعنف الحيوانات على الإطلاق"، لا يرى مستقبلا زاهرا لأمريكا إلا في ظل تفوقها المطلق على كل منافسيها، وبكل المجالات والميادين، العسكري منها والسياسي قبل الثقافي أو الأخلاقي أو ما سواها.

ليس من الصدفة في شيء والحالة هذه، أن يتنكر الرجل لكل الالتزامات السابقة التي قطعها أسلافه، والتي لا تبدو له متماهية مع هذا التصور، أو تم نسجها على النقيض منه. بمعنى أنه لا يتبنى إطلاقا علاقات الأمن التي لا تخدم أولا وأخيرا المصلحة القومية الأمريكية. من هنا يمكن فهم تنكره للعلاقات مع آسيا/المحيط الهادي العابرة للحدود، وتقويضه لاتفاقية التبادل الحر الشمال/أمريكي بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، وتهديده بإعادة النظر في هياكل، لا بل في جدوى وجود حلف شمال الأطلسي، الذي لا يبدو له ذا أهمية أو مصلحة عملية.

لا يبدو الرئيس ترامب مهتما بما قطعه أسلافه من عهود، بقدر اهتمامه بتلك التي لها نتائج مباشرة على أرض الواقع.. إنه يريد أن يضع الولايات المتحدة على خط الوصل مع نسبة نمو عالية (4 في المئة فما فوق)، ومن ثم توجيه كل مفاصل الدولة بهذه الجهة، والنظر (النظر فقط) في ما قد تقدمه علاقات أمريكا الخارجية لهذا الهدف...

لذلك، فهو لا يخجل من المجاهرة بضرورة القيام بإصلاح جبائي شامل، وبتحرير كل مفاصل الاقتصاد وبأسرع مدى ممكن، وتحقيق الاستقلال الذاتي في مصادر الطاقة وإعادة التفاوض حول كل المعاهدات والاتفاقيات التي أبرمها الرؤساء السابقون مع هذا الطرف أو ذاك... إنه ينادي بوضوح ودون تردد، بضرورة نهج سياسة انعزالية، لكن دونما أن يعني ذلك التقوقع الصرف والبدائي حول الذات: إنه يتطلع لإحياء الماضي الأسطوري الذي ضمن لأمريكا القوة الداخلية الصلبة، وفسح لها في المجال فيما بعد (وفيما بعد فقط) للتفوق على باقي بلدان العالم، وبالانطلاق من هذه القاعدة الصلبة لا العكس...

ليس من الغرابة في شيء إذن، وبضعة شهور فقط على تبوئه مقعد الرئاسة، أن يعمد إلى شن هجوم عنيف على النخب التقليدية وعلى البيروقراطية التي غالبا ما تكون خلف نجاح هذا الرئيس أو ذاك. والشاهد القاطع على ذلك أن ثلثي المناصب الحساسة في وزارة الخارجية لا تزال شاغرة، اعتبارا من لدنه على كونها غير مهمة "ولا تصلح لأي شيء".

بالمقابل، رفع الرئيس ترامب من مقام الطبقات المتوسطة وطبقة العمال، واعتبرهم مفتاح الوصل مع فترات الازدهار الأمريكي التي عاشتها البلاد في زمن رونالد ريغان مثلا. إنها الطبقات التي لم تستفد، بنظره، من مزايا الاقتصاد الأمريكي، وحان الوقت لمجازاتها وإعادة الاعتبار لها.

إنه هنا إنما يمثل الامتداد الطبيعي لسياسة أمريكية خارجية تبغض الصداقات وتركز على التحالفات، تماما كما هو الحال في تدافعات الفاعلين في السوق. إنه يريد علاقات عسكرية مع "حلفاء" محددين، تكون أمريكا هي المالك الأساس لحصص رأس مال الحلف، ويكون لها امتياز وأفضلية الحصول على الأرباح المتأتية من ذلك قبل من هم معها في الحلف... في الشركة؛ بمنطوقه الخاص.

وعلى هذا الأساس، فقد كان الرئيس الأمريكي متناسقا مع تصوره عندما طالب العربية السعودية وبعض دول الخليج الأخرى؛ بأداء "أجرة الأمريكان" نظير الحماية التي قدموها ويقدمونها لهم من مدة بعيدة. ولم يكن خارجا على نطاق ما وعد به عندما صرح بأن بلاده لا تجني مقابلا ماديا مباشرا من تواجدها في باكستان أو من تواجد أساطيلها بهذه المنطقة من العالم أو تلك.. إن "البزنس الحقيقي للشعب الأمريكي هو البزنس"... يقول الرئيس ويردد أتباعه من خلفه. وعليه، فمنطق الربح الاقتصادي يجب أن لا يعمل من بين ظهراني السوق فحسب، بل يجب أن يكون الخيط الناظم لأي فعل وقرار، حتى وإن كان من طبيعة عسكرية أو سياسية خالصة.

من جهة أخرى، فإن كل مفاصل سياسة الرئيس الأمريكي المناهضة للهجرة، ونعوت "الحثالة" التي وزعها ويوزعها على الأفارقة والهايتيين (على هامش إعداده لقانون الهجرة الجديد) ونقله للسفارة الأمريكية للقدس إرضاء للوبي اليهودي، وتهديده بضرب إيران.. كلها "إجراءات عملية خشنة" كان الرؤساء السابقون يتحرجون من ركوب ناصيتها أو الجهر الصريح بها حتى...

إنه لا يبدي أي حرج عندما يعلن بأن أي اتفاق لا يخدم ثلاثية "النجاح والقوة والمال" لا يلزمه، حتى وإن مس الأمر استقرار السياسة الخارجية ومبدأ التوافق "التاريخي" بين الحزبين حولها... لا بل ولا يعنيه حتى وإن أدى إلى اهتزاز مصداقية الولايات المتحدة مع هذا الحليف أو ذاك، مع هذه المنظمة الدولية أو تلك.

الرئيس ترامب لا يؤمن بمقولة "أعطي وآخذ". إنه يؤمن بأطروحة "لا أعطي إلا بالقدر الذي آخذ... وإن استطعت أن آخذ دون أن أعطي فذاك أفضل وأحسن".
التعليقات (0)