قضايا وآراء

بل ضاعت القدس منذ نصف قرن!

أميرة أبو الفتوح
1300x600
1300x600
مر 51 عاما على هزيمة العرب المخزية في حرب الخامس من حزيران/ يونيو عام 1967، والتي احتل على أثرها الكيان الصهيوني سيناء والجولان والضفة الغربية وغزة والقدس في ست ساعات. مر هذا اليوم الذي حل بالكارثة على الأمة العربية مرور الكرام، ولم يستوقف الإعلام العربي المتصهين عند هذا الحدث الجلل، وكأن شيئا لم يحدث في ذلك اليوم، بينما كان الإعلام الصهيوني يحتفل بانتصاره على الجيوش العربية واحتلاله للقدس الذي احتفل قبلها بأسبوعين.. يوم النكبة، يوم اغتصابه أرض فلسطين، يحتفل بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس واعتبارها العاصمة للكيان الصهيوني!

منذ الخامس من حزيران/ يونيو عام 1967 والعالم العربي يعيش تبعات هذه الهزيمة النكراء، فقد ضاع ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية، وضاعت القدس التي هي ملك مسلمي العالم، كله وليس الفلسطينيين فقط. لم تضع القدس يوم إعلان ترامب القدس عاصمة للكيان الصهيوني ونقله للسفارة الأمريكية في 14 أيار/ مايو عام 2018، بل ضاعت منذ هزيمة حزيران/ يونيو عام 1967.

كل الكوارث التي حلت على الأمة العربية خلال الخمسين عاما الماضية كانت جراء حرب حزيران/ يونيو التي دخلها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعنجهية وغرور، ودون الإعداد والجهوزية لها، حيث كان نصف جيشه في اليمن يعاني من الحصار والهزيمة! أعلن إغلاق مضيق تيران أمام الملاحة الصهيونية، وكان ذلك بمثابة إعلان حرب على الكيان الصهيوني.. اتخذ هذا القرار وكأنه ذاهب لحفل ترفيهي أو سهرة سمر، وليس لحرب مصيرية للأمة، وكان قد أقيمت بالفعل حفلتان غنائيتان ساهرتان حضرهما حوالي 400 طيار حربي، من أصل 600 طيار في القوات المصرية، وسهروا حتى الخامسة بعد فجر يوم الاثنين 5 حزيران/ يونيو. واشترك في الحفلتين مجموعة كبيرة من الفنانين والمطربين المصريين، وأحيت إحداهما الراقصة سهير زكي، والثانية الراقصة زينات علوي. وفي الساعة السابعة صباحا من يوم 5 حزيران/ يونيو، استقل صدقي محمود، قائد سلاح الطيران، والذي حضر الحفل مع ضباطه ومعه المشير عبد الحكيم عامر، القائد العام للقوات المسلحة، بصحبة كبار قادة الجيش طائرة حربية ليتفقدوا أوضاع الجيش المصري في سيناء والذي كان من المفروض أنه على أهبة الاستعداد لصد هجوم إسرائيلي وشيك! وبينما كانوا في الجو، وبينما كان معظم الطيارين نائمين من آثار السهرة، قام العدو الصهيوني بضربة مفاجئة لمعظم المطارات والقواعد الحربية في مصر لتدمرها تماما، وتدمر معها كل الطائرات المقاتلة الرابطة على أرضها في العراء بدون طياريها، وبدون مخابئ خرسانية تحميها؛ رفضت القيادة بناءها بسبب تكلفتها العالية!! وهكذا، وبوجود كبار قادة الجيش معلقين في الهواء وفشلهم في إعطاء أي أوامر لضباطهم، وبتدمير سلاح الطيران المصري بالكامل، تعرض الجيش المصري في سيناء لمذبحة كبرى، وتم سحقه تماما بواسطة الطيران الصهيوني؛ بينما كان ينسحب من سيناء إلى الضفة الغربية لقناة السويس انسحابا عشوائيا ارتجاليا بدون تخطيط ولا ترتيب ولا تنظيم..

ومع كل ذلك، خرج الإعلام المضلل، إعلام هيكل وأحمد سعيد، ليدلس ويكذب ويخدع الشعوب العربية بأن القوات المسلحة المصرية الباسلة قد أسقطت مئتي طائرة، وأنها على مقربة من دخول مدينة تل أبيب!!

الموضوع لم يكن فشلا عسكريا فادحا فقط، بل كان أيضا فسادا إداريا وانحلالا أخلاقيا، وتجسسا وخيانة وتنافسا وصراعا بين القيادات العسكرية، وفيما بينها وبين القيادة السياسية!

 اعتمد جمال عبد الناصر على حنجرته وخطابه الشعبوي الذي يلهب الشارع العربي الذي يعشق فلسطين، والمستعد لتقديم الغالي والنفيس من أجل تحريرها من الدنس الصهيوني! عاش الشعب العربي من المحيط إلى الخليج على أكذوبة عبد الناصر، وأنه سيرمي إسرائيل في البحر، ليفيق على الحقيقة المفزعة، على الهزيمة النكراء واحتلال مَن كان يريد رميها في البحر؛ للمزيد من الأراضي العربية في ثلاث دول عربية وضياع القدس والمسجد الأقصى! ومن الغريب أن مَن يطلقون على أنفسهم "القوميين العرب" لا يزالون يرفعون صور عبد الناصر ويرددون شعاراته الجوفاء، بينما هو الذي أضاع الأرض وأضاع القدس وأضاع المسجد الأقصى! ولم نر منهم أي رد فعل أو تحرك إيجابي إزاء العربدة الصهيونية في غزة والغارات المتكررة عليها، ولا عند نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، بل الأدهى من هذا هو موقفهم من مسيرة العودة الكبرى، فلم يكتفوا بالصمت ويبلعوا ألسنتهم كما بلعوها عند نقل السفارة، بل هاجموا هذا التحرك السلمي واعتبروه انتحارا لأبناء الشعب الفلسطيني؛ بلا ثمن يذكر! ومن المفارقة العجيبة في زمن انحراف البوصلة وتغير المعايير القومية وتبدل المفاهيم العقائدية، أن هؤلاء القوميين العرب بمواقفهم هذه قد أصبحوا في نفس الخندق مع أخصامهم من الليبراليين والعلمانيين الذين أدانوا هذا الحراك السلمي، والذين كانوا أيضا يدينون النضال المسلح ضد الكيان الصهيوني! 

منذ نصف قرن والعالم العربي يدور في دائرة مفرغة، وإن كان مركز الارتكاز فيه هو فلسطين، ولكن تعاني شعوبها من حالة من اللااتزان بسبب انحراف البوصلة، بفعل حكامهم الذين تاجروا بالقضية الفلسطينية منذ جمال عبد الناصر حتى يومنا هذا، وإن اتخذت أشكالا مختلفة وصورا متعددة، للحفاظ على كرسي الحكم. فقد فطنوا أن الحفاظ على أمن الكيان الصهيوني هو ثمن هذا الكرسي أو الضريبة التي تدفع لنيله، لذلك أصبح الحكام العرب هم حارسو حدود الكيان الصهيوني، وبذلك أصبحوا وكلاءه في المنطقة، يحكمون بما يمليه عليهم، فأصبحوا ينادون بالسلام الدافئ، ويستعجلون تصفية القضية الفلسطينية ضمن ما يعرف بصفقة القرن، للتطبيع معه وإتمام الشراكة الاقتصادية، بل والعسكرية أيضا، بينهم، ويتجهون لإقامة محور عربي صهيوني يضم مصر والسعودية والإمارات مع الكيان الصهيوني لمواجهة إيران، وربما أيضا لمواجهة تركيا التي تحتضن الإخوان المسلمين، العدو المشرك لهم والتي يصنفونها على أنها منظمة إرهابية، وأن الحرب المصرح بها عالميا هي الحرب على الإرهاب، وهي في حقيقتها حرب على الإسلام!

حالة عدم الاتزان التي أصابت الأمة العربية نتيجة انحراف البوصلة؛ ما كان لها أن تحدث لولا هزيمة حزيران/ يونيو 1967، وما نتج من جرائها خلال تلك الخمسين عاما الماضية من مفاوضات عبثية يطلقون عليها مفاوضات سلام، وسلطات وهمية الغرض منها كبح جماح المقاومة التي تزعج العدو الصهيوني وتقض مضاجعه، وما هي إلا سلطة للتنسيق الأمني معه لحمايته من أبناء جلدتهم الأحرار الذين يناضلون من أجل استرداد أرضهم المغتصبة من ذلك العدو الذي يحمونه..

أخطر ما نتج عن انحراف البوصلة في الشعوب العربية هو تجريف العقل العربي قبل تجريف الأرض من قبل العدو الصهيوني، من خلال الإعلام العربي المتصهين وتلك النخب التي أعدت في المراكز البحثية الصهيونية في أمريكا وصرفت عليها دول البترول الأموال الطائلة، وعرفت بكتاب البترودولار الذين عادوا إلى بلداننا العربية يحملون أفكارا صهيونية انهزامية لمحو الهوية الإسلامية والعربية عن القضية الفلسطينية؛ وإعادة تشكيل الوجدان العربي من جديد، بحيث لا يحمل العداء للكيان الصهيوني، بل ويسقط أيضا القضية الفلسطينية من عقله ووجدانه، ويدعو للتطبيع العلني مع الكيان الصهيوني.. وللأسف استطاع هؤلاء أن يخترقوا نسيج الشعوب العربية في فترة عدم الاتزان التي تعيشها الأمة، فرأينا مَن يبث سمومه عبر الفضائيات لتسفيه وتسطيح فكرة المقاومة ضد العدو الصهيوني، بل أكثر من ذلك، محاولة إيهام الناس بأن حماس هي العدو الذي يتآمر على مصر ويقتل جنودها، وأن الكيان الصهيوني هو الصديق والحليف!! وشاهدنا من يرفع القبعة ويضرب تعظيم سلام لنتنياهو على الهواء ويدعوه للقضاء على حماس، بينما يرفع الحذاء لحماس!

هذه فترة استثنائية طارئة مهما طالت، وأعود وأكرر ما كان لها أن تحدث لولا هزيمة حزيران/ يونيو عام 1967 التي تجاهلتها وسائل الإعلام؛ لأن هذه الحالة صنعت على أعينها! 

***

ولكن يبقى الجانب المضيء في الأمة، وهو الشعب الفلسطيني البطل في غزة، وما يبذله من تضحيات جسام رغم الحصار الظالم المفروض عليه من قبل العدو الصهيوني والجارة العربية مصر، وإصراره على استمرار مسيرات العودة الكبرى السلمية، رغم ارتقاء الشهداء الذين تعدى عددهم المئة والخمسين، إلى جانب إصابة أكثر من 700 مواطن فلسطيني.. هذا عدا عن بطولات فصائل المقاومة التي أحدثت حالة من الردع مع العدو الصهيوني جعلته يهرع لمجلس الأمن ليشكو حماس التي أرعبته بقذائف الهاون، والتي لم تفلح قبته الحديدية لصد صواريخها، وهو الذي يمتلك ترسانة من الأسلحة النووية وغير النووية.. هذا الشعب العظيم الذي يلد الطفل فيه يحمل جينات الثورة بالفطرة لا يمكن أن يُهزم أن يهزم أبدا.. أمة تلد رزان النجار، تلك الفتاة الثائرة ذات العشرين ربيعا، المسعفة التي تتقدم الصفوف لتسعف الجرحى في مسيرات العودة ولا تأبه للنيران المحيطة بها من كل جانب وجاءتها رصاصات الغدر الصهيونية ليرتقي بها شهيدة، هي أمة تعشق الحياة بكرامة وعزة. وكما قال محمود درويش، لا هو موت ولا هو انتحار، ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة..

هذا ما يجعلني أتفاءل وأقول إن هذه الحالة الطارئة، حالة اللااتزان الناتجة عن هزيمة حزيران/ يونيو، لن تدوم طويلا، ومصيرها إلى زوال ككل الحالات التي مرت على الأمة طوال تاريخها في فترات الضباب وانعدام الرؤية وضياع البوصلة، والتي حتما ستعود إلى اتجاهها الطبيعي..
التعليقات (0)