قضايا وآراء

التهجير وإعادة رسم الخارطة الديمغرافية

حسين عبد العزيز
1300x600
1300x600
في سوريا يعتبر التهجير "جريمة حرب موصوفة"، ذلك أنه لم يحصل نتيجة نزوح إرادي للسكان بقدر ما هو نتاج وسائل ضغط وترهيب واضطهاد اضطرتهم إلى الرحيل.

وفق القانون الدولي، يعتبر التهجير القسري بمثابة الإبادة الجماعية وفق البروتوكولات الأربعة لاتفاقيات جنيف عام 1949 ومن ثم الملحقين بها لعام 1977، لأنه "ممارسة ممنهجة تنفذها حكومات أو قوى شبه عسكرية أو مجموعات متعصبة تجاه مجموعات عرقية أو دينية أو مذهبية بهدف إخلاء مدن وقرى وأراض معينة وإحلال مجاميع سكانية أخرى بدلا عنها".

لقد كان من أهم نتاج الحرب وسياسة التهجير، إعادة تشكيل البنية الديمغرافية في البلاد، وما نتج عنها من تبدل في طبيعة الأدوار التي تلعبها المجتمعات العرقية والدينية الأساسية.

شكل الخامس من يونيو/ حزيران عام 2013 تاريخ فارق في مسار الثورة السورية، ففي هذا التاريخ استطاع النظام السيطرة على مدينة القصير جنوب غربي مدينة حمص كتتويج للتعاون بينه وبين "حزب الله" وإيران، ولتبدأ معها سياسة التهجير القسري والتغيير الديمغرافي.

لم يعتمد النظام الأسلوب العسكري المباشر لعملية التغيير الديمغرافي والتهجير القسري، وإنما استخدم أساليب غير مباشرة عنوانها الظاهري اتفاقات بين الجانبيين، لكن مضمونها يقوم على الحصار الاقتصادي الخانق الذي دمر مع مرور السنين كامل المنظومة الحياتية، ثم اللجوء إلى التهديد بالقصف، وفي أحس الأحوال القبول بالمصالحة، مع ما يترتب على ذلك من اعتقال وإهانات للسوريين شباب ونساء.

اعتمد النظام التهجير القسري لإضعاف المقاومة المدنية للسنة من خلال استبعاد المقاتلين مع عائلاتهم عن مناطقهم والإبقاء على البقية التي أصبحت بلا أنياب بعدما استهلكت الحرب رصيدها الاجتماعي، في وقت اعتمد التغيير الديمغرافي خصوصا في القلمون الغربي من حمص شمال إلى مضايا والزبداني جنوبا، فهذه المناطق تشكل المقابل السني للانتشار الشيعي في لبنان، وكانت السياسة الإيرانية واضحة في ضرورة إجراء تغيير ديمغرافي.

لم يضطر النظام في الغوطة الشرقية والقلمون الشرقي إلى اعتماد التغيير الديمغرافي لأن هذه المناطق لا تشكل تهديدا بالمعنى الديمغرافي أولا، ولا إمكانية لتوطين سكان جدد بسبب خصوصيتهما الجغرافية ثانيا.

التهجير الجماعي يحقق الغاية في القلمون الشرقي كما الغوطة الشرقية، فالقوى السنية التي تشكل تهديدا وقوة أصبحت خارج المعادة، وهذا أمر كاف بالنسبة للنظام، أما من بقي فلا حول ولا قوة لهم.

تهجير العرب

في ظل احتدام المعارك خلال الأعوام السابقة في الشمال والشمال الشرقي من سوريا من جهة، وفي ظل غياب تغطيات إعلامية واضحة، استغلت الوحدات الكردية للقيام بعمليات تغيير ديمغرافي في الرقة والحسكة.

ومع استحالة تشكيل إقليم صاف من الناحية العرقية بسبب الكثافة السكانية للعرب وبسبب وجود أقليات أخرى غير كردية في محافظتي الرقة والحسكة، لجأت الوحدات الكردية إلى عملية تهجير بطيئة مترافقة مع عمليات تبديل ديمغرافي.

ترغب وحدات حماية الشعب الكردي التي تلقى دعما كبيرا من الولايات المتحدة الأميركية في إقامة إقليم ذاتي على غرار شمال العراق، في خطوة لوضع أسس قيام الدولة الكردية.

وكانت منظمة العفو الدولية اتهمت الوحدات الكردية بشن هجمات ترقى إلى جرائم حرب بطردها آلاف المدنيين غير الأكراد وهدم منازلهم.

ووثقت المنظمة عام 2015 حالات في أكثر من 12 قرية في مناطق يسيطر عليها الأكراد قامت فيها وحدات حماية الشعب الكردية بإجبار السكان على الفرار أو هدم منازلهم.

لم تكتف الوحدات الكردية بذلك، بل قامت بمحاولات لطرد "عرب الغمر" من مناطقهم عبر استصدار قرار من "هيئة الدفاع الذاتي" التابعة لـ"الإدارة الذاتية" تجنيد الشباب من أبناء المحافظات السورية المقيمين في الحسكة.

وشمل هذا القرار للمرة الأولى "عرب الغمر" الذين ما زال بعض الأكراد يعتبرونهم من أهالي الرقة وريف حلب، ممن نقلوا إلى الحسكة مع سجلاتهم المدنية عقب بناء سد الفرات، ما اعتبر استهدافا للتركيبة السكانية في الحسكة لصالح العرب. 

عمليات التضييق على العرب شملت أيضا صدور قرار من "هيئة التعليم" التابعة للإدارة الذاتية ينهي عقود مجموعة من المعلمين العرب، بذريعة عدم تأقلمهم مع المناهج التي أعدتها، والتي تسوق لفكر الوحدات الكردية وأيديولوجيتها، فضلا عن أدلجة الأطفال وتمجيد العسكرة.

أدى فائض القوة العسكرية لدى الأكراد في سوريا، مع وفرة قومية في الوعي، إلى حالة من العمى السياسي، فضربوا عرض الحائط طبيعة البنى الاجتماعية في البلاد من جهة وماهية المواقف الإقليمية الدولية من قيام حكم ذاتي كردي.

سيطرة الوحدات الكردية على مناطق جغرافية واسعة مليئة بثروات طبيعية أدى إلى امتلاك حضور اقتصادي، هو الأول من نوعه في تاريخ الأكراد السوريين، وترافق ذلك مع حضور عسكري أميركي على الأرض لا أحد يستطيع الاقتراب منه، ثم ترافق ذلك مع هيمنة إدارية/ سياسية مطلقة على الأرض التي تشكل في الوعي الكردي أهمية كبرى. 

وليس مصادفةً أن التوزيع الجغرافي للإدارة الذاتية في سوريا يتطابق مع مفهوم الكومونات الذي رافق المخيلة الماركسية لحزب العمال الكردستاني خلال نضاله في الثمانينيات.

من هنا يمكن فهم تمسك الأكراد بالأرض وما يتطلب ذلك من اعتماد أساليب إما مباشرة أو غير مباشرة لدفع العرب للنزوح عن أراضيهم، كي يتحول الأكراد إلى أغلبية سكانية في هذه المناطق، وهذا ما يفسر عملية التغيير الديمغرافي في مدن تتمتع بحضور كردي لكنها محاطة بحزام عربي كما هو الحال مع تل أبيض شمالي الرقة وعين العربـ كوباني شمال شرقي محافظة حلب.
0
التعليقات (0)