قضايا وآراء

غضب تونسي من "تفاهة" التلفزيون في رمضان

نور الدين العويديدي
1300x600
1300x600

ضجة صاخبة بين التونسيين في وسائل التواصل الاجتماعي تثيرها "كاميرا خفية" ومسلسل عن حياة أحد "الصعاليك" الذي اشتهر بإجرامه وعنفه الشديد وتردده الدائم على السجون في خمسينيات وستينيات القرن الماضي في تونس.. 


غضب واسع فجره شعور كثير من التونسيين بسيطرة التفاهة والانحطاط على معظم قنوات التلفزيون في بلادهم، وميل أصحاب المال للإثارة الفجة وللاتجار بمشاعر الناس، والعزف على لحن الجنس وإثارة الغرائز، والسخرية من المحرمات الدينية، والتطاول على مشتركات القيم السياسية الجامعة، بغاية لفت الأنظار، ومن ثم جلب الإعلانات، بما يضمن الربح في موسم الربح التلفزيوني: رمضان.


وفي الحقيقة أنه منذ عقود تمكن التلفزيون في معظم البلاد العربية من الانحراف بشهر رمضان المبارك من شهر عبادة وتضامن اجتماعي إلى شهر للترفيه والفرجة.

 

وتدحرج الترفيه والفرجة سريعا نحو التهريج والعراء والإيحاءات الجنسية المبتذلة، واستفزاز الناس في قيمهم الجامعة، بما جعل التلفزيون في تصادم حاد مع قيم الشهر الفضيل ونقيضا لها.

هل هي إشاعة للتفاهة والانحطاط؟

 
أثار مسلسل "علي شورب"، الذي تبثه قناة التاسعة، جدلا واسعا قبل بثه. فاختيار شخصية منحرف ونزيل سجون ومجرم اشتهر بإثارة الرعب بين الناس، ليكون بطل مسلسل تلفزيوني في شهر رمضان، اختيار  استفز كثيرا من التونسيين من النخب والعوام ليتخذوا من الفضاء الافتراضي ساحة للتعبير عن غضبهم واستهجانهم له.


وبمتابعة كاتب السطور لهذا العمل، الذي يعرف موقع "ويكيبيديا" بطله بأنه "أشهر سجين في تاريخ تونس، فقد حوكم في ما يربو عن 1500 قضية، بين عنف وسرقة وبلطجة وتعكير للصفو العام وقضايا أخرى"، لم يجد فيه طرافة إبداعية، ولا قوة صورة، ولا عبقرية إخراج، ولا حبكة درامية، ولا قدرة على تفكيك أمراض المجتمع بغاية علاجه.

 

تم إنتاج "كاميرا خفية" تقوم على فكرة توريط ضيوف مختارين في "مقالب" تلفزية، لمعرفة حقيقة مواقفهم من التطبيع مع إسرائيل.

بل وجد لوحات ومشاهد متجاورة متتابعة لا يكاد يربط بينها من رابط سوى اقترانها بشكل اعتباطي بشخصية البطل أو أحد أفراد عائلته. ويقدم كل ذلك بشكل فني متواضع لا جاذبية فيه ولا إمتاع.


ويبدو المسلسل في حلقاته الأولى التي عرضت حتى كتابة هذا المقال متماهيا مع شخصية هذا "الصعلوك" المعتمد على عضلاته وسيلته الوحيدة في فرض نفسه على الناس.

 

وأما القيم التي بدا وكأن المسلسل يروج لها، بطرق مباشرة وغير مباشرة، فهي عبادة القوة والخضوع لها وتملقها، والقوة بديلا عن العلم والعمل والتفاني فيه، إذ تنحاز أم البطل لابنها نزيل السجون على حساب ابنها المتعلم، ويوبخ أحد أبطال العمل أم صبي تحاول دفع ابنها للتعلم والكف عن الإعجاب بـ"الفتوة" والبطل "شورب"، صائحا في وجهها بأن التعليم لا جدوى منه، وأن العضلات والقوة هي الأفضل وهي الأضمن لتحقيق المراد.


وأما البطل "شورب" الذي يبدو مهموما بفرض سطوته على منافسيه من "الفتوات"، وعلى استغلال قوته لابتزاز الناس وأخذ حقوقهم بالقوة، فضلا عن تورطه في ترويج المخدرات لصالح مسؤول أمني فاسد، فإن همه يبدو الانتصار لراقصة يهودية "مسكينة مظلومة"، كما يقدمها المسلسل، "محرومة" من استعراض مهارتها، وإعطائها فرصة كي "تتألق" وتفرض نفسها في ملهى "الكافي شانطة" على حساب راقصة أخرى يحبها ويتعلق بها صاحب الملهى الليلي، الذي يبدو جبانا خاضعا لعلي شورب في حضوره، منقلبا عليه في غيابه.

 

يتم استضافة شخصية عامة بحجة إجراء مقابلة تلفزيونية معها، لصالح قناة تلفزيونية دولية معروفة، ثم يكتشف الضيف أنه استدرج لمقر سري لسفارة إسرائيلية غير معلنة في تونس

ويحشر المسلسل قضايا دينية مثل زيارة الأولياء وذبح النذور على أعتابهم، ويناقشها بطريقة سطحية فيها الكثير من إسقاطات واقع اليوم، ما يوحي بأن العمل فيه الكثير من التسرع والارتجال، وتوجهه أغراض سياسية حينية.

"شالوم" هل يستهدف إشاعة التطبيع النفسي؟


الكاميرا الخفية، التي حملت اسم "شالوم"، وتبثها قناة "تونسنا"، قامت حولها ضجة كبيرة، هي الأخرى، حتى قبل أن يبدأ بثها.

 

فقد تم إنتاج "كاميرا خفية" تقوم على فكرة توريط ضيوف مختارين في "مقالب" تلفزية، لمعرفة حقيقة مواقفهم من التطبيع مع إسرائيل.

 

إذ يتم استضافة شخصية عامة بحجة إجراء مقابلة تلفزيونية معها، لصالح قناة تلفزيونية دولية معروفة، ثم يكتشف الضيف أنه استدرج لمقر سري لسفارة إسرائيلية غير معلنة في تونس، وهناك يتم مساومته على قبول التطبيع مع الإسرائيليين مقابل المال والدعم السياسي.


في الحلقة الأولى أستضيف مدرب كرة القدم التونسي المعروف مختار التليلي، وهو من أشهر المحسوبين على النظام السابق الذي قامت عليه الثورة التونسية. وقد وافق التليلي، دون تلكؤ ولا تردد، على تدريب فريق إسرائيلي مقابل دفعة مالية أولية ب300 ألف دولار ومبلغ 120 ألف دولار في الشهر.

 

وكان مشكل التليلي خوفه من الرأي العام التونسي، وحرصه على عدم الإقامة في تل أبيب، وأن يقيم بدلا منها في رام الله، وأن يدخل تل أبيب بحجة زيارة القدس، حتى لا يتهم بالتطبيع. وواضح من سياق الحلقة أن التليلي ليس له مشكل مع التطبيع.. مشكله الجوهري كيف يحمي نفسه من التهمة لا غير.


الحلقة الثانية كانت مع السياسي عبد الرؤوف العيادي، وهو من أبرز مقاومي التطبيع في تونس. وله تصريحات مشهورة عن سيطرة الموساد على مواقع قرار مهمة في تونس، وسعيه لفضحها وفضح المتعاونين مع العدو..

 

لكن العيادي بدا في الكاميرا الخفية غير رافض لفكرة التطبيع، وقابل بالحوار مع الإسرائيليين. وبينما يقول العيادي إنه تعرض للتهديد بالسلاح، ما جعله يضطر للمجاملة من أجل تأمين خروجه سالما من المكان، وأنه يعتزم مقاضاة الشركة المنتجة للعمل، يرى آخرون أن الرجل سقط في الامتحان.. امتحان الإغراء والتهديد.


المشاهدة الأولى للحلقة تجعل المرء يلاحظ بسرعة أن الحلقة فيها الكثير من التوتر من قبل الضيف، وفيها الكثير من التقطيع والتركيب، ما يعني أن هناك "لعبة مونتاج" وتركيب غير بريء للصور، بهدف توريط الرجل، وإخراجه عن قناعاته المعروفة.


المتعاطفون مع العيادي كثر في العالم الافتراضي. وأكثرهم لا يقبلون اتهامه بتلك التهم المناقضة لسيرته السياسية المعروفة. ويستشهد هؤلاء على صحة أقوالهم بأن العمل ليس له من هدف سوى تشويه المناضلين الحقيقيين ضد التطبيع والصهيونية، وأن شخصيات تصنف "بالفاسدة" وينظر لها في الساحة الوطنية على أنها شخصيات وصولية وطماعة وتحب المال حبا جما لم يقع إسقاطها في العمل، وتم إسقاط العيادي، الأمر الذي استنتج منه كثير من المدونين أن العمل غير جاد وغير مهني، وأن هدفه سياسي لا غير، إذ يتم تنبيه ضيوف معينين للمقلب، حتى يظهروا بمظهر الأبطال، بينما يتم تهديد آخرين بالسلاح والقتل حتى يضطروهم لتليين مواقفهم من التطبيع والصهيونية لحماية أنفسهم من القتل.


ويرى هؤلاء أن استهداف العيادي بشكل خاص، وهو الذي حذر كثيرا من خطر الموساد على تونس، هدفه إشاعة التطبيع بزعم أن القائمين على مقاومته مجرد انتهازيين وجبناء لا غير.


يذكر أن العمل كان مقررا أن يبث في قناة "التاسعة". لكن خلافا نشب بين منتج العمل والقناة، جعلها ترفض بث العمل، وجعل المنتج يدخل معها في صراع مفتوح، في وسائل الإعلام التونسية، متهما القناة بأنها تراجعت عن قرار البث، لأن العمل لم يورط قياديين في حركة النهضة الإسلامية في التطبيع مع العدو الصهيوني، على حد قوله.

الإثارة بديلا عن الجودة والاتقان

 
في الشرق العربي، وخاصة في بعض دول الخليج، يتم إنفاق عشرات ملايين الدولارات على الأعمال الدرامية والكوميدية الكبرى في شهر رمضان في أكثر من قناة تلفزيونية. أما في تونس حيث الإمكانيات المالية، التي تنفق على الدراما والكوميديا الرمضانية، ضعيفة ومحدودة جدا، يتم التعويض بزيادة منسوب الإثارة والاستفزاز حتى تسجل الأعمال التلفزية حضورها بين الناس. 


ويلاحظ أن معظم الأعمال التلفزيونية التونسية تسلق سلقا، وتعد على عجل شديد، ولا تتجاوز مدة إنجازها في الغالب الشهرين، وبعضها ينجز في أيام معدودة. ويتم الإعداد لها بخليط من الهواة والمحترفين، بغاية تقليل الكلفة، وهو أمر يفقد أي عمل فني التميز والحبكة الدرامية والإخراجية العالية، القادرة على شد المشاهد وربح معركة نسب المشاهدة.


وهنا يتم تعويض الجودة والإتقان والحبكة الدرامية العالية باللجوء للإثارة والجنس المبتذل والاستفزاز للقيم الدينية والمشتركات السياسية، من أجل التغطية على نقص الجودة وغياب الاتقان.. وينتج عن هذا فقاقيع درامية وكوميدية تثير الجدل الواسع، ولكنها سريعا ما تخبو وتموت لأنها لا تملك من عوامل البقاء والحياة سوى الاستفزاز والإثارة.

0
التعليقات (0)