قضايا وآراء

هل شاهد السيسي "مدرسة المشاغبين" قبل رفع أسعار تذاكر المترو؟

محمد ثابت
1300x600
1300x600
يقف حكام مصر العسكريون في واد، فيما يقف "عبد الفتاح السيسي" في واد آخر أشد قسوة، بل تنعدم فيه الإنسانية وتنسحق؛ فتشعر أنك أمام مصاص للدماء لا يرتوي مهما شرب، ولا يشبع مهما ظلم من البسطاء.

منذ أيام الراحل الرئيس "جمال عبد الناصر" والحديث عن الرخاء وقرب وقوعه قرب عيون ومنازل الشعب المصري على أشده. تغنى الرئيس الراحل بالقصة في خطبه في البداية، وأصر على إنشاء التلفزيون عام 1960م ليصل صوته بها إلى عشرات الملايين.

وفي الوقت نفسه الذي كان "عبد الناصر" يترنم ويتغنى، بل "يزعق" ويعلو صوته بالنعيم المقيم البالغ القرب للمصريين، كان يتخبط في قراراته الخارجية، وخطبه العنترية، حتى جلب على الأمة ضياع جزء كبير من فلسطين بخاصة في القدس، وهي المأساة المضنية التي نعاني تداعياتها حتى اليوم، بالإضافة للجولان السورية وسيناء المصرية.

وفي الجبهة الداخلية كان "عبد الناصر" يمعن في التضييق على الملايين من المصريين، ويحرمهم أبسط مبادئ الإنسانية التي تسمح لهم أن يعيشوا فحسب. ومما يُروى في ذلك، أن مهندسا شابا لاحظ أن أهل بلده لا يستطيعون تملك ثلاجة أو غسالة بدائية مما كانت تنتجه مصانع "إيديال" المملوكة للدولة؛ إلا بعد طوابير انتظار على الورق تمتد لقرابة عدة سنوات.

شمّر الشاب المهندس عن ساعد الجد، وابتكر نظاما لتشغيل شباب من أمثاله في المصانع (من العاطلين عن العمل)، وفي الوقت نفسه يُلغي طوابير انتظار الثلاجة والغسالة، بل إن الشاب استطاع لقاء الرئيس "عبد الناصر" آنذاك لشرح المشروع له بمنتهى الحماس بعد تصديق معسول كلام الزعيم.

قيل إن "عبد الناصر" نظر في عيني الشاب المهندس بقوة وغيظ، ونطق بعد ثوان مرت كالدهور ليقول:

- وحضرتك عاوز تريح الناس من انتظار قوائم شركة إيديال، وشوية يجيني واحد تاني يوفر لهم زجاجة الزيت والرغيف على طول.. تخيل ساعتها الناس هتعمل إيه يعني.. باختصار المصريون هيشتغلونا إحنا (أي يفسدوا على ناصر حياته بطلب بقية حقوقهم السياسية الحقيقية) لأ يا سيدي سيب إللي مش لاقي ياكل مش لاقي ياكل وإللي مش لاقي تلاجة وغسالة مش لاقيهم عشان نعرف نحكم إحنا!

منتهى التسلط والعنجهية، أيضا فهم طبيعة النفس الظالمة والمظلومين.

وقيل إن الدكتور "فاروق الباز"، عالم الفضائيات المصري المرموق، لما تخرج في جامعة الإسكندرية، جاء تعيينه على حديقة الحيوانات كموظف، فأعلى صوته وجأر بالشكوى حتى وصلت شكواه الرئاسة، فضايقت الراحل "عبد الناصر" فطلب لقاءه، وبعد الاستماع إلى شكواه كتب بأعلى النسخة المكتوبة منها:

- تحل مشكلة فاروق الباز!

وذهب الشاب المتفتح الذهن مسرورا للوزير المختص، فقال له الأخير:

- الرئيس كتب التأشيرة باللون الأحمر، بما يعني ألّا تحل مشكلتك أبدا، والأفضل أن تغادر البلد.

وقد كان.. ومن يومها استمرت قصة تأشيرة ألوان الأقلام في أيدي المسؤولين المصريين لـ"العكننة" على خلق الله.

وفي عهد الرئيس الراحل "محمد أنور السادات" تحركت الأسعار وعرفت البلاد فحش الغلاء؛ بخاصة بعد زيادة البناء على الأراضي الزراعية أو بداية استواء مأساة التجريف، والتمادي في استيراد السلع البالغة الرفاهية، مع تنامي الفساد المستشري بلا حدود، حتى إن "السادات" كان يحلو له أن يقول:

- من لم يغتن في عهدي فلن يغتني أبدا!

لكن مصائب العسكريين في مصر تراكمت حتى أثمرت انتفاضة كبيرة للمواطنين، بخاصة في العاصمة والإسكندرية في يومي 17 و18 من كانون الثاني/ يناير 1977م.

استقبل "السادات" العام الجديد حينها بزيادة في أسعار سلع ضرورية، منها الخبز، ونزلت قوات الأمن بقوة وغشم للشوارع وتم إلقاء القبض على المئات، لكن رئيس الجمهورية المخصرم في فهم طبيعة الشعب المصري كان له رأي ثالث؛ يُقلل من ضغط الناس على الشوارع وصب غضبهم على المرافق العامة وبثمن زهيد جدا.

كانت مسرحية "مدرسة المشاغبين" المصرية لفرقة الفنانين المتحدين قد توقفت عن العرض بعدما بدأت في قمة حرب أكتوبر، بالتحديد في 24 من تشرين الأول/ أكتوبر 1973م، وكانت المسرحية قد حققت رد فعل مهولا، بخاصة في أوساط كانت تسود مصر المحافظة على الأخلاق، ومن قبلها الدين، بخاصة احترام المعلم.

ولكن الراحل الكاتب "علي سالم"، وهو من كبار أنصار التطبيع مع الكيان الصهيوني، كان له رأي آخر، إذ عمد إلى الرواية البريطانية "إلى أستاذي.. مع حبي" للكاتب الأسمر البشرة "إدوارد ريكاردو برايث وايت"، وقد نشرها الأخير عام 1959، وتحولت إلى فيلم إنجليزي شهير في عام 1967م.

والرواية والفيلمكانا يتداولان معاناة المؤلف الزنجي مع زملائه في المدرسة، ولذلك حقق نجاحا أسطوريا لغايته النبيلة بالمناداة بالمساواة، بل تحولت أغنية مقدمة الفيلم إلى واحدة من أكثر الأغاني تداولا في تاريخ الموسيقى البريطانية.

لكن الفيلم لما تغير ووصل إلى مصر، عبر الراحل "سالم" ورفاقه، تحول لمهزلة مسرحية اضطرت مخرجها الراحل "عبد المنعم مدبولي" للاعتذار عن دوره كناظر للمدرسة لما كثرت الارتجالات من فنانين في بداية الطريق ينالون من إنسانيته وكرامته.. لا من الدور فحسب.

وتغير الممثلون في المسرحية كثيرا، وقال وزير التربية والتعليم المصري الأسبق "مصطفى كمال حلمي"، إن المسرحية أضاعت أجيالا من الطلبة المصريين، ولم يقل الوزير الأسبق: وأضاعت أجيالا من العرب أيضا.

وفي يوم 17 من كانون الثاني/ يناير 1977م، أمر الرئيس "السادات" بإذاعة "المشاغبين" المصورة تلفزيونيا والمحفوظة في العلب.. أمر بإذاعتها في التلفزيون، وكان أن خففت المسرحية بعضا من الزخم في الشوارع الكبرى، وزادت مأساة الوطن بزيادة الجمهور الذي رآها من عشرات الآلاف على المسرح إلى عشرات الملايين أمام الشاشة الصغيرة.

أما في أيام المخلوع "حسني مبارك"، فتطورت الأمور أكثر. وببساطة كانت الإذاعة والتلفزيون يقسمان بأغلظ الإيمان ألا زيادة في الأسعار بخاصة الخبز، فيما الزيادة حلت وهلت على أرض الواقع بنجاح منقطع النظير، مع استراتيجية تقليل الدولة من حصص الدقيق للمخابز، فيقل المعروض ويضطر الناس لشراء الخبز الأغلى المصنوع من نفس الدقيق المسحوب.. وهلم جرا مع كل السلع!

وبعد 66 عاما من حكم العسكريين لبلادي، قارب الفساد أن يلفها برداء بالغ السواد.. وصار مرفق مثل مترو الأنفاق، يرتفع سعر تذاكره سبعة أضعاف عبر زيادتين اثنتين خلال أقل من عام واحد.

ومع تاريخهم الشديد القسوة على المصريين، كانت الرحمة تعرف طريقها أحيانا، وإن قلت إلى قلب "عبد الناصر" و"السادات" و"مبارك" فيعفون عن مساجين يقاربون الوفاة، أو يقبلون عذر معتذر، أو حتى تراجع أفراد عن فكر.

إلا أن "السيسي" المتفرد جاء بما عجز عنه غيره.. وعد في 6 من تشرين الأول/ أكتوبر 2013م بتغيير بلادي بين يوم وليلة (وبكرة تشوفوا مصر)، ومن يومها لم يأت "بكرة هذا"!

ولكن أتت أيام أمعن فيها في بناء السجون وقهر الرجال.. ومع ازدياد معاناة أهلي البسطاء ممن لم يشاركوا في جرم الانقلاب وغُلبوا على أمرهم.. صاروا يتلقون زيادة الأسعار تلو الأخرى في نفاد صبر، وصار ظالمهم الأكبر والعصابة الحاكمة من حوله يحلو لهم التشفي في شعبنا، بل تحولوا إلى أبطال "المشاغبين" العصرية.. يُهرجون ويسخرون من آلام المصريين ويبدل "السيسي" الممثليين أو الوزراء في سبيل ذلك! وصار أغلب الشعب المصري يعاني من فرط المظالم، دون أن يجد ذرة من تفهم أو تحقيق وعد "السيسي" بأنه "سيحنو عليه"!
التعليقات (0)