كتاب عربي 21

عن كذبة النموذج المجتمعي

سمية الغنوشي
1300x600
1300x600

كثيرا ما يتردد سؤال على السنة وأقلام بعض السياسيين والمثقفين التونسيين والمغاربة على وجه الخصوص حول ما يعرف بالمشروع المجتمعي، فقلّ وندر أن جرى نقاش بين السياسيين والمثقفين المغاربة من دون أن يثار سؤال كبير: ما هو مشروعك المجتمعي أو ما هي رؤيتك المجتمعية؟ 


والمقصود بالمشروع المجتمعي هنا الرؤية الإيديولوجية الكبرى التي يعبر عنها هذا الشخص أو ذاك. 


قبل أيام قليلة، راجت كثيرا كلمة المشروع المجتمعي على صفحات التواصل الاجتماعي ودار حولها جدل احتدم في أجواء حملة الانتخابات البلدية المزمع عقدها في تونس نهاية هذا الأسبوع. 


طرح احد الصحفيين التونسيين في إحدى الإذاعات سؤال "المشروع المجتمعي" هذا على إحدى المرشحات بقائمة حركة النهضة (سليمة بن سلطان) عن مدينة تونس الشمالية.


أثار السؤال نوعا من الحيرة لدى المرشحة المستقلة التي تترأس قائمة النهضة، وليس لها سابق عهد بلعبة الاصطفاف السياسي والإيديولوجي.. فأجابت عن هذا السؤال الملتبس في ذهنها بكل تلقائية، إنها اختارت النهضة منذ سنوات لأنها قريبة إلى قلبها، وأن مشروعها المجتمعي، وبكل بساطة هو تنمية مدينتها والارتقاء بأوضاعها والتقريب بين المواطنين وخدمتهم.


و قد أثار ذلك نوعا من الاستنكار والاستغراب لدى المذيع التونسي بوبكر عكاشة، إذ كيف لها ان تترشح عن قائمة النهضة وهي لا تعرف شيئا عن مشروعها المجتمعي، ويقصد بذلك المشروع الإيديولوجي!


كان الصحفي يرغب في استدراج المرشحة المستقلة على قائمة حركة النهضة إلى المربع الإيديولوجي بزعم أنها تجهل هوية المشروع الفكري والسياسي لحركة النهضة الذي ينسبه إلى فصيل الإسلام السياسي الممتدة عروقه إلى إخطبوط الإخوان المسلمين المتشعب.


ما يستبطنه السؤال كان الرغبة الجامحة في إحياء الاصطفاف الإيديولوجي لثنائية علماني-إسلامي، أو إسلام سياسي مقابل حداثي، وهو الصراع الذي كانت ومازالت تتغذى منه قوى كثيرة على الجهتين من الإسلاميين والعلمانيين على السواء.


وهكذا ألفت المرشحة المسكينة التي اختارت حزب النهضة لتنخرط في إدارة الشأن العام من خلال الترشح للمجلس البلدي في جهتها نفسها مقحمة في غمرة صراع إيديولوجي لا ناقة لها فيه ولا جمل.


سليمة لم تخفي ميولها النهضوية رغم كونها مواطنة تونسية عادية وغير محجبة، شانها في ذلك شان الكثير من التونسيات اللواتي يملن لحركة النهضة من دون التزام إيديولوجي محدد. 


نعم، لكل المجتمعات هويتها ووجهتها العامة، ولا توجد أمم من دون خيارات كبرى تخص أنماط حياتها ونظام القيم والثقافة العامة. ولكن المجتمعات ليست عجينة طيعة تشكلها الأهواء الأيديولوجية لهذه المجموعة أو تلك، سواء باسم الأسلمة أو العلمنة.

هوية المجتمعات تتشكل عبر صيرورة طويلة المدى إلى أن تستقر على صورة معينة تغدو معها موضع إجماع أو اتفاق عام يستقر في القلوب والعقول وينعكس في مسالك الحياة اليومية للأفراد والجماعات، وفي الأفراح والأتراح، في إطار ما يمكن تسميته بالثقافة العامة.

الخيارات المجتمعية ليست وليدة الحلم أو الوهم الإيديولوجي لبعض المجموعات العقائدية الصلبة. هي حركة تلقائية تنزع نحوها المجتمعات في ثباتها وحركتها في نفس الوقت.

وقد استقرت المجتمعات الإسلامية في المشرق والمغرب على أعراف محددة في العيش والعمل والزواج والممات وغيرها، إلى أن جاءت موجة التوسع الغربي، منذ بدايات القرن التاسع، عشر وجلبت معها صورا وأنماطا جديدة للسلوك والحياة في إطار ما يعرف اليوم بالحداثة التي فرضت نفسها على مختلف جهات العالم.


وهكذا بقدر ما ترسخ الإسلام في أعماق النفوس والنسيج المجتمعي العام في العالم الإسلامي الواسع، بقدر ما فرضت الحداثة نفسها من خلال ما جلبته من عادات عيش ولباس وتفكير.

من هنا يمكن القول أن هذه الديناميكية بين موروث الإسلام كديانة كبرى ومتنوعة وموروث -أو بالأحرى موروثات الحداثة- ستظل تفعل فعلها لسنوات، إن لم نقل لعقود طويلة من الزمن. ما سيحدد طبيعة المشروع المجتمعي في نهاية المطاف هو هذا التفاعل بين الإسلام والحداثة، بكل ديناميكيته وتوتراته وتناقضاته أحيانا. 

فبقدر ما ثبت أن الإسلام حقيقة صلبة وقوية في المجتمعات الإسلامية بقدر ما تبين أن الحداثة تيار قوي وجارف، مثلما انتبه إلى ذلك المصلح التونسي خير الدين باشا في كتابه المعروف "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك".

المجموعات العلمانية الصلبة وخصوصا اليسارية منها مهووسة بالصراع الإسلامي العلماني، لذا يخيل إليها أن أحوال المجتمعات تخضع بصورة كاملة للهندسة الاجتماعية الفوقية، عبر فرض نمط من العلمنة الفوقية المتوهمة.


أما المجتمعات الإسلامية الصلبة على طريقة السلفيين بوجهيها العنيف والمسالم، فتتصور أنها قادرة على إعادة تشكيل المجتمعات الإسلامية على هواها النصي من خلال مجادلاتها الفقهية والكلامية. 


التحدي الرئيس اليوم هو كيف نبتعد عن المربع الإيديولوجي، أو بالأخرى الصراع الإيديولوجي، الذي يأخذ عنوان صراع المشاريع المجتمعية، باتجاه المساحة العملية والبراغماتية التي تتعلق بالتنمية والاقتصاد وتحسين ظروف عيش المواطنين، بدل استهلاك الجهود واستنزاف الطاقات في مقولات الأسلمة والعلمنة.


طبعا هذا لا يعني السقوط في حبائل نهاية الإيديولوجية التي روج لها بيريز لتبرير هيمنة إسرائيل على المنطقة، في محاولة لتأسيس الإيديولوجية الصهيونية عبر كذبة نهاية الإيديولوجية.

الحقيقة أن جواب المرشحة الشابة، على بساطته وتلقائيته، رغم ما أثاره من استهجان وازدراء لدى الصحفي التونسي، هو الجواب المناسب والمطلوب، بل هو ما تحتاجه فعلا الساحة التونسية والعربية على وجه العموم: أي الانتقال من الساحة الإيديولوجية إلى الساحة العملية التي تخص النهوض والتنمية والارتقاء بمجتمعاتنا، بدل استهلاك الجهود والطاقات في صراعات إيديولوجية حدية لا نهاية له.


الإيديولوجيات الكبرى لا تقدم الحلول، إن باسم الدين أو العلمانية، بل تقدمها المشاريع الكبرى، مشاريع نهوض وتقدم الأمم.


أكبر معضلة يعانيها العالم العربي هي غياب الرؤية المستقبلية والاستغراق في معارك إيديولوجية مدمرة، جوهرها صراع حول السلطة والنفوذ ولعبة تموقع تغلف بالايدولوجيا ومقولة صراع المشاريع المجتمعية.


التحدي أمامنا اليوم هو: كيف نخرج الإسلام من دائرة الجدل العقيم، باعتباره حالة مستقرة مسلّما بها في العالم الإسلامي؟ وكيف ننأى عن أوهام الإيديولوجيات الشمولية الكبرى، المتدثرة برداء الدين أو العلمانية؟ 


الأمم والمجتمعات تنهض وتتقدم بصراع المشاريع التنموية والرؤى المستقبلية الطموحة، لا بالمشاريع الإيديولوجية.


لذا، أصابت سليمة بجوابها التلقائي البسيط وأخطأ الصحفي بسؤاله المتوتر المشحون...


11
التعليقات (11)
أحمد الدقداقي
الخميس، 10-05-2018 12:37 ص
منذ مدّة و أنا أتابع بشغف مقالات سمية الغنوشي لا أخفي إعجابي بهذا القلم الجبّار الذي يتناول أكبر المواضيع تشعبا و أكثر الأمور تعقيدا و يحللها بسلاسة و بساطة تنمّ عن دراية كبيرة و ثقافة سياسية واسعة و لكن لسائل أن يسأل لو لم تكن سميّة ابنة الغنوشي زعيم حركة النهضة و زوجة رفيق عبد السلام أحد قيادات الحركة هل كانت سمية ستفكر هكذا و تكتب هكذا ؟ أطرح سؤالي بشكل آخر ما مدى تأثير الأب و الزوج على سمية ؟؟ لماذا لا تظهر سميّة في الساحة السياسية أو على الأقل الاعلامية كمحللة سياسية نظرا لما تتمتع به من نضج سياسي و دراية عالية و اهتمامةبالشأن العام ؟ هل لراشد الغنوشي دخل في هذا ؟؟
عبد الرزاق السبوعي القيروان
الثلاثاء، 08-05-2018 11:40 ص
ما يعرف بالمجتع المدني و هذا المشروع المجتعي او ما سيستنسخ من هذه العناوين ما هي الا ادوات ومعاول تهديمية لمحاربة صلابة حجة الفكر الاسلامي المتجدر المبني علي نواميس الاهية لم لن يستطيعوا قبولها و استساغتها بحكم الران الذي اشربوه من اعداء الاسلام الذي يخاطب مستمعيه بما يفهمونه بعقولهم و بقلوبهم علي جميع مستواتهم الاجتماعية و بدون خلفيات سالفة و هاءلاء لن ينقطعوا ابدا من الدنيا فهم امتداد لنسل ابو جهل و ابو لهب و غيرهما من اعوان الشر‘
عادل
الأحد، 06-05-2018 01:14 ص
النظام السياسي هو ااذي يفرض طريقة الحياة في مجتمع ما حسب عقيدته ومقاييسه وتصوره للحياة ومفهومه للسعادة فنمط الحياة او الطريقة تشكلها الفكرة الاساسية ااعنلكليةعن الكون والانسان والحياة وعلاقتها بالله وبالاخرة..والامة الاسلامية فرض عليها طريقة الغرب في الحياة بعد هدم الخلافة وتقسيم البلاد الى كيانات فرضت النظام السياسي الغربي..بالحديد والنار..الامة لو تركت لاختارت الاسلام كنظام ..فالمسالة ليست صيرورة ونتاج تراكمات ثقافية تطورت الى ماهي عليه مجتمعاتنا اليوم..فالتناقض وااانفصام في شخصية البعض ممن ضبع بالحضارة الغربية ..مظهر من مظاهر فصل الدين عن الحياة..
اينشتاين
الجمعة، 04-05-2018 07:59 م
النموذج الكذبة الذي تقصده الأستاذة سمية هو النموذج المبني على أساس التصور القائم على فكر ميت أو فكر قاتل لا يهتم إلا بعورات وأخطاء وزلات الناس من دون أن يجتهد في إشعال شمعة واحدة وسط النفق المظلم الذي تسبب فيه الاستبداد ، ماذا يمكن أن يقول نزار حسين بخصوص المحرقة القائمة منذ سبع سنوات داخل سورية ، أليس ذلك بما كسبت أيدينا ونتيجة تصوراتنا وأفهامنا التي خلطت بين ما يجب على المسلم في دائرة العبادات التي لا يعلم وزنها إلا الله ، وبين ما يخص شؤون المجتمع والتصدي لحفظ النظام العام بمختلف ركائزه الذي يسع الجميع ، مواطنين ، مهما كان معتقدهم وجنسهم وعرقهم ولونهم ، الحكم على الناس المخالفين والمخطئين ، لا يتم إلا انطلاقا من مهام المؤسسات المخولة قانونا وضمن السياسة الشرعية للحاكم ، لماذا يا نزار حسين تتغطى من وراء العبادات التي أمرنا بها الله على أساس أنها مصدر نجاتنا وبين حقوق الناس وواجباتهم ضمن معترك البناء الذي لا ينظر إليك على أساس أنك تصلي ليعطيك منصبا ضمن إدارة الشأن العام ، ماذا تقول بخصوص الذين عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتدرون من المفلس ؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا ، فيعطي هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار " رواه مسلم . وبعد هذا ، ما قولك بخصوص كلامك الجارح في حق السيد عبد الفتاح مورو ، " مهرج " ، هل هذا ما تعلمت من الإسلام وأنت تتوضأ وتستقبل القبلة لتقيم الصلاة ، هل تستطيع أن تثبت علاقة كلامك الجارح بأخلاق الإسلام ؟
مصطفى
الجمعة، 04-05-2018 09:29 ص
المشروع المجتمعي هو مايدعو له الاءسلام ءالا وهو الاءيمان والصلح والاءصلاح بين كافة المكونات رغم ءاختلاف التيارات والعقيدات وهو ءايضا المساوات بين كافة ءافراد المجتمع فلو ءان الاءغنياء والاءثرياء بجميع ءاصنافهم ءاقامو شرع الله في المجتمع مكان ليكون الاءجرام وما شبهه بالكثرة فمقدر مافرض رب العباد عليهم من زكاة في ءاموالهم شافية وكافية لكافة الضعفاء والفقراء والمسكين لكن منهم من يوءدي شرع الله كما ينبغي ومنهم من يطمع في الاءجر القليل الذي هو من حق بعض العمال طبقا لدستور وقوانين العمل ومابلكي ءان يخرج مما فتنهم به الله وعلى كل حال تبقى الحياة دولاب كما قيل كم من غني ءاصبح ربنا خلقتنا وكم من فقير ءاصبح ممن ءانعم الله عليهم لذلك فحسن العمل وحسن النية من السمات الضرورية والاءولوية التي يجب على كل من في المشروع المجتمعي ءان يتحلى بها والاءية الكريمة في ءاخر ءاية من سورة لقمان خير دليل بسم الله الرحمن الرحيم ءان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم مافي الارحام وماتدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس باءي ءارض تموت ءان الله عليم خبير )صدق الله العظيم والحمد لله رب العالمين