قضايا وآراء

الجدل حول وثيقة الاستقلال يقسم التونسيين من جديد

نور الدين العويديدي
1300x600
1300x600

لا تزال وثيقة استقلال تونس عن فرنسا وإخفائها عمدا عن الرأي العام التونسي لمدة ستة عقود كاملة، منذ توقيعها في العام 1956، تثير المزيد من الجدل والبيانات والندوات العلمية المتضاربة.. يتقاذف فيها المؤرخون والباحثون والمشتغلون بالشأن السياسي والشأن العام، الحجج والأدلة المتباينة، كل يدعم رأيه في معركة جدالية باتت بحق وعن جدارة معركة رأي عام. وكما في منتصف خمسينيات القرن العشرين، لا يزال استقلال تونس عن المستعمر الفرنسي يثير الانقسامات في الشارع التونسي، رغم مرور 62 سنة على الحدث المهم.. 

فالخلاف القديم حول طريقة الحصول على الاستقلال، ومسألة القبول باستقلال ذاتي متدرج، أم باستقلال تام وناجز، كان قد تسبب في انقسام سياسي ومجتمعي حاد بين تيارين بارزين في البلاد: تيار الحبيب بورقيبة رئيس الحزب الحر الدستوري التونسي (الحركة الوطنية)، وتيار صالح بن يوسف أمين عام ذات الحزب.. واليوم يستمر ذات الخلاف وكأن أطرافه مازالوا أحياء فاعلين في المشهد السياسي والمجتمعي.

وكان الخلاف قد أدى منتصف الخمسينيات إلى نشوب حرب أهلية قصيرة الأجل في البلاد، استمد فيها صالح بن يوسف الدعم السياسي والمادي من مصر الناصرية، في حين انحاز فريق بورقيبة للجانب الفرنسي. ولم يُحسم الصراع إلا بتدخل المدفعية والطيران الفرنسي لصالح فريق بورقيبة، حيث جرى قصف الثوار في معاقلهم في الجبال، وكانت إحداثيات مواقعهم تصل إلى الطيارين الفرنسيين من أنصار بورقيبة. وانتهى الأمر، بعد سنوات من توقيع وثيقة الاستقلال، باغتيال صالح بن يوسف في سويسرا، من قبل مكلف بالمهمة من الرئيس الحبيب بورقيبة.

مرت عقود طويلة ومات الحبيب بورقيبة ومات صالح بن يوسف، لكن الموضوع مازال حيا متقدا، يستعيده التونسيون من جديد، وينقسمون حوله بين فريقين، وكأن الزمن لا تأثير له. وجاءت الثورة، التي أتاحت لمن قمعتهم الدولة الوطنية لمدة عقود طويلة، أقدارا كبيرة من حرية التعبير، ما جعل المسكوت عنه يستعيد زخمه ويُفتح باب الجدل حوله من جديد.

إعادة نبش الماضي

عاد الحديث بقوة عن حقيقة استقلال تونس عن فرنسا، بمناسبة قرب انتهاء هيئة الحقيقة والكرامة، المكلفة بتصفية إرث ماضي الانتهاكات السياسة وأعمال التعذيب، وكشف الحقيقة للتونسيين، إذ تقول الهيئة إنها عثرت، أثناء عملها، على وثائق جديدة في الأرشيف الفرنسي وفي مواقع أخرى تشكك في حقيقة الاستقلال، وتعتبر أن فرنسا مازالت ممسكة بأهم موارد البلاد الطبيعية، وتفرض تبعية اقتصادية وثقافية ولغوية لتونس لمستعمرها السابق. 

موقف المؤرخين "الرسميين"

استفز موقف هيئة الحقيقة والكرامة من مسألة الاستقلال عددا من المؤرخين التونسيين المحسوبين على الدولة التونسية، إذ رد ستون مؤرخا في بيان جماعي نشرته الصحف التونسية على ما ذكرته الهيئة ورئيستها سهام بن سدرين، شجبوا فيه التشكيك في مكسب الاستقلال، معتبرين الوثائق التي نشرتها الهيئة تتضمن معطيات معروفة ومتداولة، ولكنها معطيات جزئية ومبتورة، وعرضها كان انتقائيا غير كامل، بما لا يجعلها تعطي "فكرة دقيقة وافية للحقيقة كما هي أو كما كانت"، بحسب قول البيان.

واعتبر هؤلاء المؤرخون أن تقديم "أنصاف الحقائق أو عرض بيانات ناقصة على أنها حقائق كاملة هو كناية عن مغالطة و«حقائق كاذبة» وهو تعمّد للتلاعب بالوثائق التاريخية". وأضاف بيان الستين "هكذا تم التقاط الشوارد واجتزاء المعطيات وتطويع المعلومات وتوجيهها وجهة خاصّة على نحو معيّن كي تبدو «الحقيقة الكاذبة» منطقيّة ومقبولة".

وخلص البيان إلى "أن أنصاف الحقائق أكثر غشّا وأكثر ضلالا من الأكاذيب نفسها، وهي كما هو معلوم من الأساليب الأثيرة عند المتلاعبين بالعقول ". وأكد أن المجال لا يتّسع "للخوض في ما جاء في اتفاقيات 1955 من بنود مخلّة بالسيادة، كما ذكرت رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، ولكن لا بدّ من التأكيد على أن الدولة الوطنية قد تجاوزت أغلب ما جاء في هذه الاتفاقيات وملحقاتها قانونيا وديبلوماسيا بحكم الأمر الواقع (de facto)، ونجحت بإصرار في استعادة معالم السيادة الوطنية: الجلاء العسكري والزراعي. وهذا ما يؤكده العارفون بخفايا الأمور من رجال القانون والعلاقات الدولية ونحوهم وكذا البعض ممّن مارسوا السلطة بعد الثورة"، على حد قول البيان.

تشكيك في تشكيك الستين

مؤرخون تونسيون آخرون ردوا فرادي وفي ندوات علمية بحدة على بيان المؤرخين الرسميين، و"كشفوا" معلومات جديدة مهمة، ما أشعل الجدل من جديد في أوساط الرأي العام.

الدكتور عبد الجليل التميمي رئيس وباعث مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، وهي مؤسسة يعود تأسيسها للعام 1985، وهو واحد من أنشط المؤرخين التونسيين، هاجم بقوة المؤرخين الستين، معتبرا أن معظمهم لا صلة له بالتاريخ لا من قريب ولا من بعيد، وقال إنه باستثناء ثلة قليلة منهم، فإن البقية لا إنتاج معرفي ولا تاريخي لهم. وعقدت مؤسسته للغرض في الأيام القليلة الماضية (7 أبريل الجاري) ندوة بحثية شارك فيها المؤرخ المعروف توفيق البشروش ورئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين والصحفي المخضرم صافي سعيد والمحامية فوزية الباشا، التي اشتهرت بعد الثورة بالتنقيب في وثائق الاستقلال، انطلاقا من اشتغالها بالدفاع في قضايا الثروة النفطية التونسية.

بورقيبة طالب بمشاركة فرنسا إدارة البلاد لا الاستقلال عنها

المؤرخ توفيق البشروش تحدث، في الندوة التي عقدتها مؤسسة التميمي، عن وجود مشكل كبير في بروتوكول الاستقلال والاتفاقيات المكملة له، مشيرا إلى أن وثيقة الاستقلال بقيت لسنوات طويلة مجهولة وغير منشورة في الأوراق الرسمية للدولة التونسية، حتى جاءت الثورة وتمت المطالبة بالكشف عنها، ليكتشف التونسيون أنها غير متوفرة حتى لدى حكومة بلادهم، على حد قوله. وهذا يعني أن تونس من وجهة نظر العرف الدولي والعرف الدبلوماسي غير مستقلة طالما لم يقع نشر وثيقة استقلالها ضمن وثائقها الرسمية في الرائد الرسمي للبلاد التونسية، على حد قول المؤرخ البشروش.

وتساءل البشروش لماذا امتنعت دولة الاستقلال عن نشر وثيقة استقلالها؟ كما تساءل عن صاحب المصلحة في عدم نشر الوثيقة وإخفائها كل هذه الأعوام؟ واعتبر أن ثمة خلفيات شديدة الخطورة وراء عدم نشر الوثيقة، مشددا على أن الحركة الوطنية منذ "الشباب التونسي" إلى حكومة "محمد شنيق"، أي من سنة 1902 إلى سنة 1952 لم تكن تطالب بالاستقلال عن فرنسا، وأنها كانت حركة ”انضوائية ” تحت نظام الحماية والاحتلال، وأن رئيس الجمهورية الأسبق الحبيب بورقيبة لم يكن هو الآخر يطالب بالاستقلال، وإنما كل ما كان يطالب به هو المشاركة فقط في تسيير البلاد تحت نظام الحماية وحكم المستعمر، كما قال.

وأكد المؤرخ البشروش أن فرنسا لم تكن لتقبل بأن تمنح تونس استقلالا حقيقيا وتاما، وهو ما أكده ”إدغار فور”  رئيس وزراء فرنسا، في فترة توقيع الوثيقة المثيرة للجدل، والذي تولى التفاوض عن الجانب الفرنسي، بقوله في كلمة توجه بها إلى الفرنسيين، بعد أن وقع على وثيقة الاستقلال ”إن كل ما وقعنا عليه ليس له من معنى، فلا خوف على المصالح الفرنسية. فما وقعنا عليه هو معاهدات سلم وتجارة، وهذا هو الذي يهمنا ويهم مصالحنا".

وقال البشروش إن بورقيبة قدم تعهدات أكيدة لفرنسا بالولاء الدائم لها. وأن وثيقة الاستقلال تكرس مواصلة الهيمنة الفرنسية. وهي أكثر من ذلك كتبت باللغة الفرنسية وتحتوي على مصطلحات حين تترجم للعربية ترجمة أمينة تفيد أن تونس ستظل محكومة بالارتباط بفرنسا في الكثير من المجالات، التي نظمتها الاتفاقيات التي تم توقيعها في 3 حزيران/جوان 1955 قبل سنة تقريبا من الإمضاء على بروتوكول الاستقلال في 20 مارس 1956.

ثروات البلاد لازالت مرتهنة للخارج


المحامية فوزية الباشا المتخصصة في عقود النفط لاحظت من جهتها باستغراب الإخفاء العمدي لوثقة الاستقلال طيلة عقود. وقالت إن الوثيقة لم تنشر في الرائد الرسمي للبلاد التونسية. وأن محامين طالبوا عبر القضاء، بعد الثورة، بالحصول على الوثيقة فردت الحكومة في العام 2012 أنها لا تملك نسخة منها. 

وقالت المحامية الباشا إن الوثيقة عثر عليها لاحقا في قصر قرطاجي الرئاسي، وتم عرضها لأول مرة في العام 2016 في عهد حكومة الحبيب الصيد، مشيرة إلى أن ذلك هو ما أدى إلى إقالة الحبيب الصيد من رئاسة الحكومة.. متسائلة عن مبررات إخفاء هذه الوثيقة كل هذه الفترة؟

المحامية الباشا لاحظت أيضا أن وثائق الاستقلال الذاتي التي وقعت في العام 1955 وكذلك وثيقة الحماية التي فرضت على تونس يوم احتلالها في العام 1881 لم تلغها وثيقة العام 1956. وقالت إن كل تلك الوثائق مازالت سارية المفعول، حتى المجلة الجزائية التونسية مازالت مقيدة بالقوانين الاستعمارية الفرنسية، مستعرضة في يديها المجلة الجزائية الصادرة في العام 2005، قائلة إنها تنص في مقدمتها على الالتزام بالمنظومة القانونية التي صدرت في العهد الاستعماري، مؤكدة أن ذلك راجع لإلزام الوثائق التي وقعتها الحركة الوطنية التونسية بالإبقاء على المنظومة القانونية الفرنسية دون تغيير.


كما شددت المحامية الباشا على أن الوثائق تلزم تونس باعتبار اللغة الفرنسية لغة غير أجنبية في البلاد التونسية حتى الآن. وربما هذا ما يفسر استبعاد اللغة العربية وتهميشها وهيمنة اللغة الفرنسية حتى اليوم على العقود القانونية والمعاملات التجارية في البلاد. ويقول المؤرخ الفرنسي فرنسوا بورقا في كتابه الشهير: الإسلام السياسي صوت الجنوب إن النطق بالفرنسية تضاعف 10 مرات في تونس بعد الاستقلال عما كان عليه في فترة الاستعمار المباشر.

وشككت المحامية الباشا في مزاعم الجلاء الزراعي. وقالت إن تونس المستقلة اضطرت لطلب قروض دولية حتى تشتري بها الأرض التونسية من المستعمرين الفرنسيين السابقين، كما تم ترتيب ذلك في اتفاقيات 1955. أخطر من هذا قالت الباشا إن ثروات تونس الحالية، وخاصة النفط لا تتحكم فيها تونس المستقلة، زاعمة أن التونسيين أحرار في التنقل في ثلثي تراب البلاد، في حين يمنعون من دخول الثلث الأخير منها، في الصحراء جنوب البلاد، حيث تنتشر آبار البترول، إلا بترخيص يسمى رخصة دخول الصحراء، ولا تعطى إلا للعاملين في الشركات النفطية.

هكذا إذن لا يزال الاستقلال يثير من الجدل مستوى عاليا لا يعرف أحد من التونسيين متى ينتهي.. جدل يزيد تقسيم المواطنين، في وقت يحتاجون فيه جميعا إلى الوحدة أكثر من أي وقت مضى، لمواجهة وضع اقتصادي صعب، وليستكملوا مسارهم الديمقراطي بانتخابات بلدية باتت اليوم تقرع عليهم الأبواب.

1
التعليقات (1)
مصري جدا
الخميس، 12-04-2018 03:51 م
كعادة العرب والمسلمين ،، الهروب من الحاضر ،، لاي اتجاه سواء الماضي القريب او الماضي السحيق ،،، لم يهرب العرب والمسلمين ولو مرة واحدة الى المستقبل لا ادري لماذا ،، هل هي مشكلة في العقل العربي والمسلم عموما ،، لا ادري ،،، الحاضر كله معناه في بلاد الربيع العربي ،،وبدلا من التوافق حول المخرج ليعيش الناس كما يعيش البشر في عالم البشر وليس عالم الحيوان ،،، ننبش اي ماضي لنختلف ونخالف حتى ينقسم المقسم ويجزآ المجزآ ويفتت المفتت ،،، نحن بحاجة لانسان جديد يناسب هذا العالم الذي نعيشه وليس عالم عاشه الاخرون ،،، وعندما نحصل على حقنا في الحياة الكريمة ،،، نفتح الملفات القديمة والممتدة حتى ادم عليه السلام ،،، ارحمونا يرحمكم الرحمن

خبر عاجل