كتاب عربي 21

كاذبون محترفون ولن يصدقوا

جعفر عباس
1300x600
1300x600

ذاعت عبارة "كلام جريد" لدهور طويلة، للتدليل على أن على قارئ الصحف أن يتعامل مع معظم ما يرد فيها، وهو يردد "إذا جاءكم فاسق بنبأ..."، ذلك لأن الإعلام العربي نشأ في حضن حكومات تستخف بعقول المواطنين، ومن ثم ظل مطالبا بأن يكون الأداة التي يُمارَس عبرها ذلك الاستخفاف.

 

ولأن الناس على دين ملوكهم، فقد تفشى الكذب بين عامة الناس، وآية ذلك أن توكيد أي كلام باللغة العربية، يتم في غالب الأحوال بـ: والله العظيم/ ورب الكعبة/ أقسم لك بشرفي/ إلهي هذه اللقمة تكون آخر زادي في الدنيا/ زوجاتي الثلاث طالقات، "إذا لم يكن الأمر كذا وكذا".

 

(سأل أعرابي رجلا: ما اسمك؟ قال: عبد الله. قال: ابن من؟ قال: ابن عبيد الله. قال: أبو من؟ قال: أبو عابد الرحمن. فقال الأعرابي: أشهد أنك تلوذ بالله ليّاذ لئيم جبان.)


وبالمقابل فإنه لا يوجد قَسَم في ثقافة معظم الشعوب الغربية، وفي الناطقة منها بالإنجليزية مثلا، يكتفي من يريد توكيد أو نفي شيء بكلمة "أقسم" والتي تتألف عندهم من كلمتين "آي سوير"، و.. بس، أي أنه لا يحاول تعزيز القسم بزج باسم الجلالة أو المسيح أو غيرهما.

 

وهناك من يبرر الكذب بأنه ممارسة عالمية، بدليل أن اليوم الأول من الشهر الجاري (نيسان/ إبريل) مخصص للكذب، وهذا في حد ذاته كذب، وترجمتنا لعبارة April fool’ day خطأ، فكلمة فول/  fool، لا تعني الكذب، بل تعني "التهبيل" وتدبير المقالب المضحكة، لأن الغربيين وغيرهم يفتعل ويفبرك في ذلك اليوم، أموراً الغاية منها أن يصدقها الآخرون، ليبتعلوا الطُعم، ويتحول الأمر إلى طرفة.


ومثل هذه الأشياء لا تندرج حتى تحت بند الكذب غير الضار، بل هي دعابة، لأن الغاية من افتعال أو قول أشياء بلا أساس أو سند من الواقع، هي أن يضحك من قام بالافتعال، ومن كان ضحية الافتعال
ذهبت عجوز من الصحابيات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت له: يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها: إن الجنة لا تدخلها عجوز، فانصرفت العجوز باكية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحاضرين: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، لأن الله تعالى يقول "إنَّا أنشأناهن إنشاءً فجعلناهن أبكاراً"، أي أنها حين تدخل الجنة سيعيد الله إليها شبابها وجمالها.


فالرسول عليه السلام هنا لم يكذب، بل طرح الحقيقة القاطعة، بلغة تجعل معانيها تنطلي على المستمع أول الأمر، من باب الدعابة، ثم كان أن ابتسم، وطلب من جلسائه أن يطمئنوا العجوز، بإبلاغها بالمعنى المتواري خلف رده على سؤالها.


ومصيبتنا ومصابنا مع الكذب، هو أنه مؤسسي في العالم العربي، فوزارات الإعلام عندنا أكبر منتج للأكاذيب عبر وسائل قوية، بغرض تلميع الحكومات واستعباط المواطنين، وإذا كانت هناك وسائل إعلام شبه مستقلة، فإنه لا يكاد يمر يوم دون أن تنقل عن مسؤول حكومي رفيع (وإن شئت قل رقيع)، نفيا لأمر يتداوله الناس: لا توجد ندرة في السلع الاستهلاكية/ لم يحدث اختلاس في مخصصات الجسر الجديد وكل ما هناك هو أن أسعار الأسمنت وحديد التسليح ارتفعت ومن ثم كان لابد من زيادة تلك المخصصات/ لا صحة لما يتردد بأن ابن الوزير سافر على نفقة الدولة الى ألمانيا لخلع ضرس العقل، بل توجه إلى هناك لدراسة عرض قدموه له للعب في نادي بايرن ميونيخ .


ونحو 88% من الحكومات العربية قامت على أكاذيب: عسكريون ينقلبون على الدستور، ويستولون على الحكم، ثم يسمون ما قاموا به "ثورة"، وينفرد كبيرهم بالحكم عدة عقود حسوما، ويظل هذا البلد أو ذاك يحتفل بعيد الثورة عاما بعد عام.


في مصر انقلبت مجموعة من الضباط على نظام الملك فاروق الملكي في تموز/ يوليو 1952، فكانت ثورة يوليو، ثم انقلب أولئك الضباط على قائد الثورة (محمد نجيب)، وأزاحوه وصار جمال عبد الناصر قائد الثورة، وظل يحكم الى أن توفاه الله في أيلول/ سبتمبر 1970، فخلفه أنور السادات، الذي قام بمسح كل قرارات جمال عبد الناصر بل وأدان نهج الأخير في الحكم، ولاحق أنصار ناصر سجنا ونفيا، ولكنه واصل التغزل بمحاسن ثورة يوليو.


وجاء مبارك خلفا للسادات وظل حتى رحيله القسري عام 2011، يعادي نهج ناصر في الحكم ولكنه يحتفل بثورة يوليو، وخلفه محمد مرسي، ثم جاء السيسي وانقلب على مرسي، وما زا ل يدين كل الحكومات التي تعاقبت على مصر (ما عدا حكومة حسني مبارك)، ولكنه يحتفل بثورة يوليو.


أتت الحكومة الحالية في السودان إلى الحكم، عبر انقلاب دبره حزب الجبهة الإسلامية القومية التي كان يقودها حسن الترابي، وبدأ الانقلاب بكذبة، فقد تقرر منذ اليوم الأول أن يذهب الترابي إلى السجن حبيسا وأن يذهب العميد (المشير لاحقا) عمر البشير الى القصر رئيسا، لإيهام الشعب بأن القيادة العليا للقوات المسلحة السودانية (وليس تنظيم سياسي معين)، هو الذي قلب نظام الحكم.


والشواهد على هذا الضرب من الكذب الأبلق، من ذلك العيار كثيرة في سوريا والعراق والجزائر وغيرها
ولغة التخاطب بين الدول العربية تقوم على مفردات وعبارات يراد بها غير معانيها القاموسية: فكل زعيم بلد عرب يخاطب نظيره العربي بـ"الأخ"، ولسان حاله يقول: آآآخ منك. وكل بلد عربي للبلاد العربية الأخرى "شقيق"، بينما ما بينهم من شقاق يستعصي على الراتق، وفور وصول زعيم عربي على بلد شقيق فإنه يعرب عن سعادته بوصوله إلى بلده "الثاني".


ولأن السودانيين والمصريين عموما مهذبون، فإنهم لا يخرجون ألسنتهم عند نطق حرفي الثاء والذال، وهكذا فلا حرج على زعيم مصري أو سوداني أن يقول فور حلوله في بلد "شقيق"، إنه في بلده "الساني الزي تربطنا به علاقات استسنائية".


وتحضرني هنا مقولة مفتي مصر السابق الدكتور علي جمعة، بأن معظم حالات الطلاق في مصر "كأن لم تكن"، لأن المصري يقول للزوجة التي يريد فراقها: أنت طالئ (وليس طالق)، مع ما يعنيه هذا من خراب للاقتصاد المصري، لأن مئات الآلاف من "المطلآت" سيكون من حقهن المطالبة بنفقات إعاشة، عن كامل المدة التي ظللن فيها بعيدا عن الأزواج الذين طلأوهن بمفردة تخالف الشرع
وبما أن القياس معمول به في الفتوى والتشريع، فليس من العسف استنادا الى الفتوى العلي جمعوية، القول بأن ملايين المصريين، وعلى مر القرون، لم يؤدوا فريضة الحج على النحو الصحيح، وفقدوا ثوابها لأن الثواب ينعقد بالنية، وكل منهم نوى "الحق" وليس الحج .

0
التعليقات (0)