قضايا وآراء

تونس: ديمقراطية السير على حافة الهاوية

نور الدين العويديدي
1300x600
1300x600

من أبرز خاصيات التجربة الديمقراطية في تونس ما بعد الثورة سيرها الدائم على حافة الهاوية.. إنها تترسخ مع الوقت، وتتقدم ببطء.. لكنه تقدم يأتي محفوفا، منذ بدأت التجربة، بالكثير من المخاوف والمخاطر والآمال.. إنها مغامرة مستمرة تمضي على غير منوال سابق، من ميراث الأجداد أو من تجارب الأجوار الأقربين، وقد تعادلت فيها قوى الدفع للأمام وقوى الجذب للخلف واشتد تنافرها، ولكنها جميعا محكومة بالتقدم، كسائق الدراجة يسقط إن توقف.


إنه صراع القديم والجديد يتجلى في كل مرة بشكل ولون مغايرين.. فالجديد لم يولد بعد ولادة كاملة، والقديم لم يمت بعد.. إنه المخاض الطويل والولادة العسيرة المستمرة منذ ثمانية أعوام من قيام ثورة الحرية والكرامة.. يقترن فيها الصراع بالتوافق، والتنافر بالتجاذب.. وكما في الولادة الطبيعية كلما طال أمد المخاض زادت معه الآلام والمخاوف وكبر معه التوق لرؤية المولود والأمل أن يكون صحيحا معافى.


يختلف التونسيون وتتباين مواقفهم.. يتصارعون في الإناء ولكنهم لا يكسرونه.. لم يكسروه حتى الآن على الأقل.. وقليل منهم من يفكر بمنطق شمشوني "علي وعلى أعدائي"، وحكماؤهم يتدخلون في الوقت الضروري لمنع وقوع الكارثة.. تلك أبرز حصائل السنوات الماضية من عمر التجربة الديمقراطية.


تنافر ومخاوف
صخب وتوتر حادين باتا يحكمان العلاقة بين نقابة العمال الرئيسية في البلاد الاتحاد العام التونسي للشغل وحكومة الوحدة الوطنية التي يقودها يوسف الشاهد.. فالأمين العام للاتحاد أعرب عن استعداده لخوض معركة كسر عظم مع الحكومة، ساعيا في الكواليس لدفع الأحزاب للانفضاض من حول الحكومة، حتى تسقط. ونقابة التعليم الثانوي، أكبر النقابات وأشدها تأثيرا في البلاد، ترفض منذ أسابيع تسليم إدارة المعاهد الثانوية نتائج امتحانات مضى على إجرائها بضعة أشهر، ووزير التعليم العالي يهدد في المقابل بحجب الرواتب عن الأساتذة كما حجب الأساتذة الأعداد على الإدارات، ما قد يعني انتقال الصراع إلى مرحلة شديدة الخطورة.


التوتر على أشده بين نقابة التعليم ووزارة التعليم، وعالم شبكات التواصل الاجتماعي أو العالم الافتراضي في انقسام حاد بين مؤيد للنقابة، وخاصة من الأساتذة والمعلمين، وهم بمئات الآلاف، وبين مؤيد للوزارة، مختنق من تدخل اتحاد العمال في تسيير البلاد وكأنه حكومة فوق الحكومة.. وتنتج عن ذلك كله نقاشات حادة تهدد بانقسام اجتماعي حاد.. ولكنها لا تبلغه.


في الضفة الرسمية جدالات حادة مازالت مستمرة بين نواب البرلمان التونسي حول التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة واستكمال مسار العدالة الانتقالية وتصفية تركة فترة الدكتاتورية والاستبداد، بلغت حد السباب والشتائم المتبادلة بين عدد من النواب من أحزاب مختلفة، وحتى بين بعض النواب ورئيس مجلسهم الموقر السياسي المخضرم محمد الناصر، المنتمي لحركة نداء تونس، ووصل الأمر حد تقديم الكتلة الديمقراطية المعارضة لائحة لسحب الثقة من رئيس البرلمان، بالنظر لما أتى من مخالفات كبيرة للدستور وللنظام الداخلي للمجلس، كما تقول اللائحة.


تلك الجدالات أثارت قلقا واسعا في أوساط المجتمع التونسي، وجعلت البعض يخشى على مصير التجربة التونسية وعلى استمرار المسار الديمقراطي، في وقت تستعد فيه البلاد بعد نحو شهر لانتخابات بلدية ومحلية بالغة الأهمية، يراها كثيرون أهم حتى من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. 

 

وقد انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي حالة غضب واسعة من أعضاء البرلمان بسبب ما وصلت إليه اجتماعاتهم من توترات وسباب وشتائم. واعتبر البعض ذلك دليلا على إفلاس النواب. وطالب آخرون بحل البرلمان، باعتباره انحرف عن المسار الذي انتخب من أجله، وهو خدمة الشعب، واستحال إلى حلبة صراع ومعارك حزبية لا فائدة ترجى من ورائها للناس. في حين رأى آخرون أن النواب "يأكلون" المال العام دون أن تحصل من ورائهم فائدة تتناسب مع حجم ما يبددون من مال.


في المقابل رأى آخرون أن على التونسيين الذين تعودوا على نواب يتحركون حسب الأوامر العليا، في عهد الدكتاتورية، أن يعدلوا ساعاتهم على مجلس نواب حي وتعددي ومعبر على مختلف الحساسيات الشعبية والاجتماعية التي تشق المجتمع التونسي. وهؤلاء يرون في ما جرى أمرا طبيعيا في نظام ديمقراطي ناشئ. فهذه الظواهر لا تخلو منها حتى الديمقراطيات العريقة والمستقرة، إذ من خاصية النظام الديمقراطي عدم إلغائه للخلافات والصراعات، وإنما تمدينها والانتقال بها من الصعيد المادي العنيف إلى الصعيد الرمزي، بما يجعل الخلافات فيه تصفى بالخطابات وبممارسة السياسة وحتى بالسباب والشتائم أحيانا، لكنه نظام يظل محصنا من أن يلجأ فيه الفرقاء لحل خلافاتهم بالسلاح والحروب المدمرة، كما يجري في سورية أو العراق أو اليمن أو حتى في ليبيا القريبة.


مستقبل التوافق
في أجواء القلق العام والتوتر الذي يسبق حملة الانتخابات البلدية ويمهد لها، عادت مؤخرا من جديد لغة التقسيم و"الطائفية" السياسية ومنطق "أنتم شعب ونحن شعب" و"دمكم أسود ودمنا أحمر"، التي سادت في العامين 2012 و2013، وكادت تؤدي بالبلاد إلى صدامات مجتمعية واسعة، وتم التغلب عليها بالحوار الوطني الواسع، الذي انتهى بحصول رعاته على جائزة نوبل للسلام، كاعتراف دولي بأهمية التجربة التونسية في الحوار السلمي والمدني، كما انتهى بإقرار دستور 2014 وخروج حركة النهضة والترويكا من الحكم بطريقة سلمية وحضارية نادر حصولها في البيئات العربية.


بعض الصحفيين والمحللين التونسيين رأوا في ما يجري من جدالات وخطابات حادة وتوترات سياسية واجتماعية "دقا للمسمار الأخير في نعش التوافق" السياسي بين حركة النهضة وحركة نداء تونس، العمود الفقري لحكومة الوحدة الوطنية. ويبدو أن الأجواء الانتخابية تغذي بطبعها وبقوة منطق الصراع والتنافس وتتسم باللغة الحادة والميل لاستعراض العضلات لإقناع الناخبين بالأهمية والقوة والقدرة على التغلب على الخصوم والمنافسين. 


وكثيرا ما ينفلت الخطاب الانتخابي ويجاوز الحد المعقول. لكن "الشيخين" راعيي التوافق، راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة ورفيقه رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي، مؤسس حزب نداء تونس ورئيسه الشرفي، قد بادرا باللقاء عقب تلك التوترات التي عرفها البرلمان، وأكدا على ضرورة استمرار روح التوافق واستكمال بناء مؤسسات الدولة.


الصحفي زياد كريشان رأى في التجاذبات البرلمانية "أنموذجا مصغرا لما يمكن أن يؤول إليه برلمان يغيب فيه التوافق بين الحزبين الأولين في البلاد". لكنه يرى خطأ "من يعتقد بأننا قد عدنا إلى أجواء التطاحن الكامل والكلي، الذي ساد العلاقة بين النداء والنهضة سنتي 2012 و 2013". ويتخيل كريشان "لو استمر الصراع بين الحزبين خلال هذه العهدة الانتخابية كيف كان يكون حال الحزب الذي أسسه الباجي قائد السبسي، خاصة بعد انشقاق كتلته وفقدانها 31 نائبا، ليصبح لديها الآن فقط 55 نائبا أي ربع مجلس نواب الشعب!! هل كان بامكان النداء الحكم ومع من ستكون الأغلبية؟". 


ويعلم التونسيون جميعا أن الحرص على نجاح تجربة التوافق هو وحده ما جعل حركة النهضة صاحبة الكتلة البرلمانية الأكبر (69 مقعدا) تحجم بعد تشقق حزب النداء واستقالة العشرات من النواب منه وتراجع كتله إلى نحو ربع عدد مقاعد البرلمان، عن المطالبة بحقها، باعتبارها صاحبة الكتلة البرلمانية الأولى، في تشكيل الحكومة وقيادتها.


ويضيف كريشان "قد يبدو من السريالي الحديث عن الاستقرار السياسي الذي وفره التحالف الندائي النهضوي ولكن لنفترض غيابه بالكامل وسوف نرى شكلا آخر من الاستقرار مخيفا إلى أبعد الحدود". فـ "الأزمة الأخيرة في مجلس نواب الشعب (جاءت) لتبرز حدود هذا التوافق وكذلك ضرورته في نفس الوقت للطرفين، إذ لا يريد أحد طلاقا بائنا، فذلك سيعرض الحزبين لمخاطر جمّة". ولتجنب السيناريو الأسوء هناك على الدوام "أكثر من قناة اتصال بين قيادات الحزبين، بدء بالشيخين، فرئيسي الكتلتين (البرلمانيتين) فالأدمغة المفكرة في مونبليزير (المقر المركزي للنهضة) والبحيرة" حيث مقر حزب النداء.


إنه التعاون والتنافس.. الصراع والتقارب هو ما يميز تجربة التوافق بين الشيخين وبين الحزبين الكبيرين.. وهي تجربة تعرف توترات مستمرة، ولكنها لم تعرف حتى الآن على الأقل طلاقا بائنا.. تعرف هزات، ولكنها تحافظ على شعرة معاوية، جسرا بين الطرفين.. وهذا ما أعطى التجربة التونسية خاصياتها، وسمح باستمرار المسار الديمقراطي، رغم كل التوترات التي ترافقه.


إنه مسار تزينه الإنجازات السياسية، حتى الآن، وتهدده الإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية.. مسار يتم فيه السير دوما على حافة الهاوية، يقترب منها ولكن لا يسقط فيها.

0
التعليقات (0)

خبر عاجل