قضايا وآراء

غسان سلامة ورمال سلام ليبيا المتحركة

جمعة القماطي
1300x600
1300x600
الأكاديمي والسياسي اللبناني غسان سلامة، هو سادس مبعوث أممي خاص إلى ليبيا خلال ست سنوات منذ اندلاع ثورة شباط/فبراير، وهو الثالث عربيا بعد الأردني عبد الإله الخطيب، وكذلك اللبناني طارق متري.

لقد بدأ سلامة مهمته في آب/ أغسطس 2017 بعقد سلسلة من اللقاءات مع شخصيات سياسية وعسكرية ليبية تمثل واجهة أطراف الصراع الرئيسية في ليبيا. ولقي سلامة تجاوبا من أجل تسهيل مهمته، واستبشر الكثير من الليبيين بقدومه خيرا، خاصة أنه شخصية عربية تستوعب جيدا الأبعاد التاريخية، والاجتماعية، والثقافية للحالة الليبية.

دشن سلامة مهمته في ليبيا بإعلان خارطة طريق، وبرنامج محدد يهدف إلى إنهاء حالة الصراع في ليبيا، وتحقيق التوافق المنشود في إطار الاتفاق السياسي الليبي الموقع في مدينة الصخيرات المغربية في كانون الأول/ ديسمبر 2015.

تضمنت خارطة طريق سلامة، عقد جلسات تفاوض مباشرة، بين ممثلين عن مجلس النواب في طبرق والمجلس الأعلى للدولة في طرابلس، من أجل الاتفاق على التعديلات المطلوبة في اتفاق الصخيرات، وبالتالي السعي إلى إزالة الانسداد السياسي في ليبيا، حتى يتم استكمال تطبيق بنود الاتفاق، ويتم توحيد المؤسسات السياسية، والأمنية، والاقتصادية السيادية، وذلك بعد الانقسام الذي شهدته ليبيا، خاصة منذ منتصف 2014.

ولقد تضمنت خطة سلامة كذلك، على عقد مؤتمر وطني ليبي جامع للحوار والمصالحة الوطنية بين الأطياف السياسية والاجتماعية المختلفة، لاسيما ممن يشتكون من إقصائهم عن حوارات سابقة نظمتها الأمم المتحدة، ومنهم التيار المحسوب على نظام القذافي السابق، وكانت التوقعات أن ينعقد هذا المؤتمر في شباط/ فبراير 2018، غير أن جهود سلامة وحماسه وتصريحاته الواعدة، سرعان ما اصطدمت بمعطيات الواقع المرير لعمق الصراع والتشظي والهشاشة، التي وصلت إليها الحالة الليبية. ولقد اصطدم سلامة بثلاث ظواهر رئيسية، لكل منها تفريعات وآثار متداخلة كثيرة.

الظاهرة الأولى، هي الضعف الثقافي والسياسي لأغلب النخب الليبية، التي تتصدر المشهد وتتحكم في دفة الأمور، وقيادة المؤسسات التشريعية والتنفيذية القائمة. فهذه النخب تعاني من ضعف مخلّ في قدراتها البشرية وتعاطيها السياسي، وهي انعكاس ونتاج لأربعة عقود من حكم القذافي الشمولي المطلق الذي منع تطور وبروز قيادات سياسية ووطنية فاعلة، مقارنة بالعقود التي سبقت حقبة القذافي، حيث تسود في ليبيا اليوم ثقافة التعصب القبلي والجهوي على حساب ثقافة الوطن الجامع والمواطنة، وتسود ثقافة الغنيمة على حساب ثقافة بناء الدولة والمؤسسات، وتسود عقلية المغالبة والتغلب التي يصاحبها التصلب والمعاندة، على حساب ثقافة الحوار وقبول الآخر المختلف، والتوافق معه من أجل الشراكة والتعايش السلمي داخل الوطن الواحد.

الظاهرة الثانية التي اصطدم بها سلامة، هي مدى عمق التدخل الإقليمي والدولي في الحالة الليبية، حيث استغلت عدة أطراف الفراغ السياسي والخلخلة الأمنية طيلة المرحلة الانتقالية، وتدخلت لتوجيه عملية تشكيل وبناء ليبيا من جديد؛ بما يخدم مصالح هذه الأطراف الجيوسياسية والاقتصادية في ليبيا.

لقد أصبحت سيادة ليبيا اليوم مستباحة، ومنافذها مفتوحة لدخول مجموعات الإرهاب والتهريب ومليشيات عسكرية من تشاد والسودان، توجد خاصة في الجنوب الليبي، وتشارك في الصراع العسكري القائم بين الأطراف الليبية. كما تقوم عدة بلدان عربية وأجنبية و أبرزها الإمارات وفرنسا بتغذية الصراع، من خلال الدعم العسكري والإعلامي واللوجستي، بل وإقامة قواعد عسكرية على الأراضى الليبية. كما اصطدم سلامة بحقيقة التعامل مع أطرافٍ رئيسية في الصراع الليبي قرارها مرهون خارج حدودها لدى الدول التي تدعمها وتحركها، مما يجعل أي حل سياسي مرتبطا بإرضاء هذه الأطراف الخارجية.

أما الظاهرة الثالثة التي لم يخف سلامة صدمته تجاهها، فهي تفشي ظاهرة الفساد المالي والإداري والنهب الممنهج لثروات ليبيا وميزانياتها التي تديرها الحكومات المتعاقبة، منذ سقوط نظام القذافي في 2011. فليبيا التي تمتلك ثروات طبيعية هائلة، تعتبر دولة ريعية بامتياز، حيث الدولة هي التي تدير عائدات النفط، وهي المصدر الرئيسي للمال.

ومن هنا، يصبح الصراع على إدارة الدولة في حقيقته صراعا حول إدارة أموال الدولة والسيطرة عليها في غياب آليات الرقابة والشفافية والحكامة الجيدة. ويمارس أغلب الساسة والممسكين بمفاصل الدولة ومؤسساتها في ليبيا اليوم فسادا ماليا وإداريا غير مسبوق، مستغلين حالة الفوضى السياسية وشبه الفراغ القانوني والرقابي لإدارة المال العام. ويكون ضحية هذا الفساد المستشري هو المواطن المسكين الذي يرى ثرواته الهائلة تتبخر، دون أن تعود عليه بالخير والرخاء، وفي تصريحٍ لسلامة مؤخرا، اعتبر أن ما يحدث في ليبيا ليس فقط فسادا، وإنما نهبٌ ممنهجٌ لمالية الدولة، مشيرا إلى أنَّ هناك "أطرافا دولية تشارك بالنهب" المتواصل للمال الليبي.

أن يكون غسان سلامة هو سادس مبعوث أممي خاص إلى ليبيا خلال ست سنوات؛ في حد ذاته يعتبر مؤشرا على صعوبة المهمة، ولعل استيعاب سلامة لخصوصيات ليبيا التاريخية والاجتماعية وحالة المجتمع اليوم؛ تجعله يدرك مدى عمق التحدي، وثقل إرث التخلف والتفكك الذي تركته أربعة عقودا ونيف من حكم القذافي الاستبدادي المطلق. وتبقى قدرة الأمم المتحدة ومبعوثيها في إيجاد حلول ناجحة للحالة الليبية، مرهونة بإرادة الدول الفاعلة في أروقة مجلس الأمن، وفي ضبط دور الدول الإقليمية، لاسيما العابثة بالتراب الليبي وسيادته، وهذا العبث الفج من بعض العرب بمصير ليبيا، حوّل - للأسف - التراب الليبي إلى رمال متحركة حارقة.

لا شك أن نوايا وأماني غسان سلامة تجاه ليبيا وشعبها خير، ولكن قد يكون التحدي أكبر من استطاعته على إخراج هذا البلد العربي المتوسطي الجميل من أزمته خلال الفترة المتاحة له.
التعليقات (0)