كتاب عربي 21

قيم الاستبداد وقيم الحرية

محمد هنيد
1300x600
1300x600
إن معظم التفاعلات الأخيرة التي تعرفها المنطقة العربية اليوم، من اليمن مرورا بسوريا ومصر وصولا إلى أزمة الخليج، إنما تندرج في إطار ردود فعل الثورة المضادة على ما أفرزه الربيع العربي من واقع جديد. شهد النظام الرسمي العربي رجة كبيرة في أهم أعمدته، وخاصة في مصر، لكنه سرعان ما استطاع اكتساح الموجة الثورية الأولى وإجهاض مخرجاتها؛ بأن أعاد إلى سطح المشهد كل رموز الدولة العميقة وكل مكونات النظام القديم.

النظام الرسمي العربي عاد بقوة وعنف ودموية قاسية، وليس المشهد السوري إلا دليلا ناصعا على حدود التوحش التي يمكن للدولة العربية القمعية أن تبلغها إن هي أحست بتهديد وجودي. هذه العودة الدامية تظهر بوضوح كذلك في المشهد المصري، حيث يمنع النظام الانقلابي هناك كل أشكال الخروج عن النسق، فلا معارضة موجودة، ولا إعلام ولا أي شكل من أشكال الاختلاف مع الأطروحة القائمة ومع الخطاب الرسمي لنظام الانقلاب. يسعى النظام المصري والقوى التابعة له إلى  إعادة الوضع السابق للثورة، مع إضافة الوعي بإمكانية الثورة، أي أن السلطة في مصر تسعى إلى استنساخ الوضع القديم؛ مع الاحتياط الكبير من اندلاع حالة مشابهة لحالة ثورة يناير وضرورة منع قيامها.

لا يتأتى منع شروط الثورة من جديد إلا بمنع ظهور المحرك الأساسي للتغيير الاجتماعي، وهي قيم التغيير التي تحرك الجماهير، وتدفع بها نحو الساحات والشوارع. فالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة ورفض الظلم والطغيان؛ هي القيم التي تأسست عليها كل حركات التغيير الاجتماعي الجماهيرية والثورات عبر التاريخ. فسواء كانت الثورات خاضعة لمبدأ اقتصادي أو اجتماعي أو غيرهما، فإنها تحتكم دائما إلى شرط القيمة التي تتجلى عادة في الشعارات المصاحبة لموجة التغيير الاجتماعي.

هذه القيم الجديدة هي العدو الأول للنظام الاستبدادي العربي ولمنظومة القيم التي تأسس عليها. فالحرية نقيض الاستبداد، والكرامة نقيض التعسف، والقمع والعدالة الاجتماعية نقيض الفساد والظلم و الاحتقار.

تتحدد قيم كل نظام سياسي حسب طبيعة الحكم. فإذا كان الحكم عادلا وديمقراطيا، فإنه يتأسس على قيم الحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الفرد الأساسية وعلوية القانون واحترام الآخر وغيرها من القيم التي لا يستطيع النظام السياسي العادل القيام بدونها. أما إذا كان النظام السياسي شموليا، فإنه يتأسس على قيم معاكسة للمنظومة السابقة، كقيم الاستبداد والتمييز الاجتماعي وسيادة قانون القوي ورفض الآخر، وهي منظومة تسري عبر مؤسسات الدولة وخطابها الرسمي، بدءا بنص الدستور أو عبر منظومة القوانين التي تنظم العلاقات بين الأفراد، وكذلك بينهم وبين الدولة ومؤسساتها.

لكن وراء المنظومة الرسمية للقيم توجد المنظومة غير الرسمية التي تعتبر البنية الحقيقية للقيم الاجتماعية، وهي تظهر في التعبيرات الثقافية التي تفرضها الدولة ومؤسستها، كالخطاب الديني الرسمي والنمط التعليمي ونسق الفنون والتربية الاجتماعية، وغيرها من المجالات.

ما حدث خلال الربيع العربي والثورات المضادة التي أعقبته؛ هو وعي النظام الرسمي العربي بأن منظومة القيم التي يتأسس عليها لا يمكن أن يعاد إنتاجها بنفس الطريقة والنسق الذي كانت تنتج به سابقا، بسبب تغير السياق وتغير الظروف الاجتماعية والسياسية العامة. لذا عمدت أبواق الدولة العميقة إلى الاستثمار في الزخم الثوري بتبني شعارات التغيير، وهو ما دفع الانقلاب المصري - مثلا - إلى تبني شعارات ثورية بأن وصف انقلابه على الشرعية بالثورة الجديدة.

يبشر النظام العربي دائما بقيم التغيير والإصلاح ومحاربة الفساد والتنمية والرفاه والأمن والاستقرار... لكنه لا يحقق منها في الغالب شيئا، بل يدعم تفرده بالسلطة وهيمنته على مفاصل الدولة من أجل مزيد النهب والسطو والاستبداد. ولا يتأتى للمنظومة السياسية العربية الهيمنة على المجتمع إلا بمحاربة الأنساق الأخلاقية والسلوكية التي يمكنها أن تقوض الأسس التي تأسس عليها تصورها للمجتمع والدولة. وبذلك يتراوح الخطاب السياسي الرسمي العربي بين الإيهام بقيم الحرية والتغيير وبين ممارسة نقيضها على أرض الواقع، شرط أن تدعمه في ذلك كتائب إعلامية وجحافل من المثقفين والمتنفعين والمتسلقين من خدم السلطان ومن حاشيته المقربة.

بل إن الأمر تطور اليوم مع الوعي الجماهيري السريع بزيف الخطاب الاستبدادي؛ إلى محاولة تقديم أولويات اجتماعية تسمح في نفس الوقت بتعطيل القيم الثورية المنشودة، كما تسمح بتركيز دعائم الاستبداد وإطلاقه يده في المجتمع. لقد استثمر النظام القمعي العربي في الحرب الأمريكية على الإرهاب؛ بما هي غطاء دولي لإعادة استعمار الشعوب وقمعها وسلب ثرواتها والهيمنة عليها. تقدم اليوم مطلب الأمن على كل المطالب الأخرى، وصارت الحرب على الإرهاب حربا مقدسة لا صوتا يعلو فوقها، بل إنها صارت اليوم قيمة في حدّ ذاتها فرضتها القوى الاستعمارية العظمى فرضا على وكلائها في المنطقة العربية.

ليست الحرب على الإرهاب في الحقيقة إلا حربا على قيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية التي نادى بها الإسلام (وكل الديانات السماوية)؛ بما هو مصدر الموروث الحضاري والعقائدي للأمة العربية. فالحرب اليوم هي في الحقيقة حرب بين قيم الحرية من ناحية، وقيم العبودية الجديدة من ناحية ثانية، ولن يكون النصر فيها إلا لقيمة الحرية؛ لأن قيم الاستبداد مهما نجحت في الصمود وفي التجدد، فإنها تنتهي دوما بالانكسار؛ لأنها تحمل بذور فنائها في داخلها، بما هي قيم منافية للفطرة البشرية التي هي حرية أولا تكون.
التعليقات (6)
اينشتاين
الأحد، 18-03-2018 06:13 م
نحن في حاجة إلى نوع من التناغم ضمن حاجتنا إلى التحرر ، الحاجة ملحة إلى الرفع من قيمة المعامل الذي يوجهنا في سكوننا وحركتنا ، غيابنا وحضورنا ، الاستعمار تعامل معنا وفق معامله الخاص ، إنسانا مضروبا في معامل المستعمر ـ بكسر الميم ـ يساوي إنسانا مستعمرا ـ بضم الأولى وفتح الثانية ـ وفعل من ذلك بعد أن غادرت عساكره أرضنا المتميزة ، ففعل من معامله: إنسانا مضروبا في معامل التبعية يساوي إنسانا تابعا ، وزاد من حدة فعالية معامله : إنسانا مضروبا في معاما الجريمة يساوي إنسانا إرهابيا ، واجتهد كثيرا من باب التدليس والمكر والخداع على ربط كل ذلك بالإسلام ، أليس كذلك ؟ نحن مطالبون بالرفع من معامل الحرية على طريق التحرر : إنسانا مضروبا في معامل عقيدة التوحيد يساوي إنسانا جديدا ، إنسانا حرا ، حدا فاصلا بين نافية الأنا ونافية الآخر وفق تعبير وتحديد المفكر المسلم مالك بن نبي ، إننا مطالبون تجاوز أحزابنا وحركاتنا وشعاراتنا التي حبستنا طويلا وجعلتنا لقمة سائغة في متناول المكر الصهيو صليبي ( تناغم الفكر الديني الكنسي مع الفلسفة المنغلقة ) ، مطالون للرفع من معامل الحرية على طريق التحرر من أنانيتنا المفرطة التي حبست أنفاس أطفلنا وحرائرنا في فلسطين وسوريا وليبيا والعراق واليمن والصومال ، من اليوم ، هل نستطيع أن نفكر ونتفكر ونحن أحرار ؟ يمكننا ذلك ، خصوصا أن الفرصة مواتية لمواكبة النقلة المتميزة على طريق التفوق الحضاري ، لكم أن تختاروا إما " صفقة القرن " ، وإما " ثورة القرن " .
اينشتاين
الأحد، 18-03-2018 05:23 م
صعود شخص مثل " دونالد ترامب " إلى رأس الإدارة الأمريكية هو بمثابة الشعار أو العنوان المعبر عن حقيقة الكيان الثقافي والاجتماعي الغربي عموما والأمريكي على وجه الخصوص ، الحيرة النفسية على أشدها وعدم الشعور بالأمان ، حاولوا إخفاء هذا الجانب حتى على أنفسهم من خلال التجاوز الإعلامي السريع لظاهرة الجريمة التي باتت تميزهم ، وأعداد ضحايا التصفيات بالرصاص ، بالآلاف سنويا ، إرهاب من نوع خاص ، فقط إعلامهم وساستهم المغامرون يصرفون النظر بمآسي المسلمين داخل حدود سوريا وليبيا واليمن والصومال ، ويلصقون التهمة دوما بالمسلمين ويجتهدون في تحويلها إلى سمة متصلة بالإسلام ، لن يفلحوا ، لا لشيء سوى لأن وقودهم ضئيل سوف لن يسعفهم طويلا ، لذلك نجدهم يوظفون تناقضاتنا وهواننا على أنفسنا ، لكن ثورة القرن على الأبواب ، لا نريد بذلك مزيدا من التناحر بين المسلمين ، بل الثورة هي قبل كل شيء ثورة فكرية ذات وعي متميز ، لا مجال للهدم ، ولن يكون ذلك إلا إذا كان ضرورة ملحة من ضرورات البناء .
اينشتاين
الأحد، 18-03-2018 04:58 م
بالنسبة لأبو العبد الحلبي : تحية طيبة ، ثوار سوريا يبذلون مجهودا متميزا يستمد روحه من أعماق التاريخ ويجمع وقوده من العمق الحضاري لأمة التوحيد على خط التحرر من دائرة الاستبداد الذي عمر طويلا ، لكن الحاجة ملحة للتواصل ضمن دائرة التواضع والرضا والقبول ، الفرصة مواتية داخل حدود الجيش الحر الذي يمكن أن يسع كل أحرار سوريا ويستوعب العرق واللون والمذهب والطائفة وسعها جميعا من أجل الشام الذي نطلع إليه من طنجة إلى جاكرتا ، مثل هذا يتطلب صبرا جميلا ووعيا متميزا ، وليس ذلك على أبناء الشام بعزيز ، الفرصة مواتية وحاضرة .
ابو العبد الحلبي
السبت، 17-03-2018 10:56 م
مساحة الحرية الممنوحة للمواطن في بلاد الغرب أقل بكثير مما يتصوره من لم يعيشوا في تلك البلاد بل و يوجد لديهم أنواع مدهشة من الاستبداد الذي تمارسه "الدولة العميقة" بمهارة و حرفية عالية. ما يواجهه المواطن الضعيف من ظلم هناك ، ينسحب من - باب أولى - خارج بلدان الغرب و بشكل أشد ضراوة بعنصرية متطرفة و بأحقاد مزروعة و لا حدود لقسوتهم و لا ضوابط أخلاقية تردعهم. بلدان الغرب عموماً تقع تحت قيادة أمريكا ، و السلوك النمطي لهؤلاء القوم أن يتحولوا إلى قطيع من "الأنذال" عند سيطرة المستبد القوي عليهم. لذلك نراهم منساقين وراء أمريكا في أفغانستان ثم العراق ثم سوريا في عصرنا الحالي و سبق لأمريكا أن ساقتهم إلى حروبها. بعد أن أفلحت أمريكا في تحجيم منافسيها ، قررت توجيه ضربات استباقية للإسلام على اعتبار ما سيكون و ليس على اعتبار ما هو كائن . اتخذت أمريكا من "الإرهاب" ذريعة لمحاربة الإسلام مع أنها من صنعت الإرهاب . عبارة "محاربة الإرهاب" مرادفة ل "محاربة الإسلام" و حقيقة الأمر أن النظام الأمريكي قام بالتركيز على بلاد المسلمين في نشاطاته و استهدافه بينما لا نكاد نسمع أو نشاهد أخباراً من بلدان أخرى إلا أخباراً عادية أو حين تحصل كوارث طبيعية. هذا الجهد المحموم في بلاد المسلمين لضربها و تفتيتها و إضعاف قوتها و تجزئة المجزأ فيها ، جرى حشد حثالات و خنازير العالم و الأدوات "عملاء و أجراء" من أجل تحقيق أهدافه و كذلك جرى وضع الخطط لإعادة الترتيب و وضع صياغات و مشاريع لا تقوم للأمة بعدها قائمة . لكن كل ذلك جهد بشري قابل للخطأ و ربما للتحطيم ، و الأرجح أن يسير نحو الإخفاق الذريع و هنالك شواهد تاريخية على أن أمتنا تكررت كبواتها و تكرر أيضاً إفاقتها و تماسكها و انطلاقها لترد الصاع صاعين ، و الأمل بالله ثم بالأبطال .
محمد
السبت، 17-03-2018 06:02 م
صدقت اينشتاين التنظير السياسي لا يجدي نفعا تحت الاستبداد لكن لا بد من تجديد الوعي بقيمة الحرية باعتبارها محرك ثورة القرن التي يمكنها وحدها أن تواجه صفقة القرن