مقالات مختارة

القوى الوطنية المصرية ومأساة سوريا

جمال سلطان
1300x600
1300x600

خطر كبير أن تعيش في عزلة عن محيطك الإنساني، خاصة إذا كان هذا المحيط يتصل بك بصلات القربى في التاريخ والتجربة والهوية والمصير، ليس فقط لأن هذه العزلة تجعلك تخسر التعايش مع تجربة إنسانية تضيف إلى رصيد خبراتك السياسية ورؤيتك للمستقبل، وإنما أيضا على المستوى الأخلاقي، الذي يفترض أن يكون له الصدارة في اهتمامات النخب المدنية والوطنية المهتمة بقضايا الحريات العامة وكرامة الشعوب واستنبات الديمقراطية في تلك الأرض العربية القاسية.

 رياح الربيع العربي هبت على دمشق كما هبت على القاهرة بعد تونس، وقد مرت ثورة يناير في مصر بسلام عندما تمكنت الحشود الجماهيرية الضخمة من إجبار مبارك على التنحي، خاصة بعد انحياز المجلس العسكري للشعب في ثورته، وكان هذا الموقف السريع نسبيا سببا في حقن دماء كثيرة في مصر، غير أن الوضع في سوريا كان مختلفا، عندما نزل الشبان من طلبة الجامعات والمدارس في الميادين فجأة يهتفون: "بدنا حرية"، ويغنون للحرية والانعتاق بأغاني جميلة وعذبة يمكن الرجوع إليها على شبكة الإنترنت لمن يحب، مفعمين بروح الربيع العربي التي هبت على المنطقة فأحيت أشواق الشعوب للحرية والعدالة والكرامة، غير أن الظروف في سوريا كانت جد مختلفة عن مصر، لأن الجيش السوري مؤسس على أبعاد طائفية، بعد الانقلاب العسكري الذي قام به الضابط العلوي حافظ الأسد عام 1970، فقام خلال ساعات قليلة بتسريح جميع القيادات العسكرية من الطائفة السنية التي تمثل غالبية الشعب السوري، وكانت لديه قوائم كاملة معدة سلفا كما تبين، ثم أعاد تشكيل أجهزة السيطرة الأمنية والمخابرات ووضع في قيادتها عناصر تابعة له خاصة من الطائفة العلوية، وأصبحت سوريا تحت تلك القبضة الطائفية، وعندما مات حافظ، وكان بشار ابنه صغير السن لم يصل إلى السن القانوني الذي يسمح له بتولي رئاسة الجمهورية، قامت الطائفة بتعديل دستور البلاد خلال نصف ساعة لكي ينص على تعديل سن المرشح للرئاسة، بحيث يكون على مقاس الشاب بشار حافظ الأسد، وهكذا تم نقل السلطة من الأب للابن، حفاظا على نفوذ الطائفة وسيطرتها الاقتصادية والعسكرية والأمنية والإعلامية.

سوريا كانت تعرف منظومة قمعية استخباراتية رهيبة، من أسوأ ما عرفته بلاد العرب، وهناك قصص منشورة وموثقة تشيب لهولها الولدان عن الفظاعات التي ارتكبها حافظ الأسد وابنه من بعده، وشهادات عما كان يحدث في المعتقلات ووقائع التعذيب المروع، وسحق أي تفكير ـ مجرد تفكير ـ في ممارسة المعارضة السياسية للنظام، فلما قامت ثورة الشعب السوري ضمن رياح الربيع العربي، واجهها بشار بقوة السلاح، ونزلت الدبابات تواجه الصدور العارية، وزخات الرصاص تسكت أغاني الشباب، واتسع نطاق الدم، فكان أن وقعت انشقاقات في الرتب العسكرية الصغيرة والمتوسطة، والتي تدرك أن الجيش ليس وطنيا وإنما هو جيش طائفي، وأنه لا يعمل لحساب الشعب السوري وإنما لحساب قادة الطائفة العلوية، ومن هنا بدأ انقسام الجيش وظهور الجيش السوري الحر، الذي يمثل ذراعا عسكريا للمعارضة، وانضم له بسرعة مدهشة عشرات الآلاف من الضباط والجنود، بخلاف شبان آخرين، وأوشكت هذه الانتفاضة على إنهاء الأمر، وحاصرت العاصمة دمشق ومطارها وأصبح سقوط بشار قاب قوسين أو أدنى، فهنا قام بحركتين أثرتا بشكل عميق على مجريات الثورة السورية، الأولى أنه أطلق قيادات الجماعات المتطرفة من سجونه وسمح بدخول شركائهم من شمال العراق، لتتأسس جماعات إرهابية خطيرة مثل داعش والنصرة، كانت معاركها الأهم والكبرى ضد  المعارضة وثوار سوريا، وانسحب بشار أمامهم في أكثر من مدينة ليمارسوا فيها أعمالا همجية أساءت للثورة أمام المجتمع الدولي، وأظهرتها وكأنها ثورة داعش والتطرف الديني، في الوقت نفسه قام باستدعاء حلفائه الإيرانيين، الذين حشدوا له قوات إيرانية من الحرس الثوري الإيراني، إضافة إلى تكليفهم لتنظيم "حزب الله" الشيعي اللبناني الموالي لهم بإرسال مقاتليه لنجدة بشار، مع حشد ميليشيات شيعية أخرى متنوعة من العراق وأفغانستان، فلما فشل هؤلاء جميعا في هزيمة الثورة السورية، رغم كل البلاء الذي أحدثوه، لجأ أخيرا إلى روسيا التي أرسلت حاملات الطائرات وأسست معسكرات ضخمة على الساحل السوري، واستقدمت أحدث ترسانتها العسكرية من طائرات وذخيرة لتجربتها على الشعب السوري، فتغيرت الأمور عسكريا، وزاد البلاء على الشعب السوري.

في الحالة السورية تفاصيل كثيرة، ولكنا وصلنا اليوم إلى تلك المأساة التي هيجت ضمير العالم كله الآن، مأساة الغوطة الشرقية في محيط العاصمة دمشق، التي كشفت حجم الوحشية التي يمارسها ديكتاتور مثل بشار، يسوي الأرض بشعبه، بمدنه وناسه وحجره وشجره ونسائه وأطفاله وشيوخه وشبابه سواء، حمم من الجحيم تصب على الأطفال والنساء على مدار الساعة بل الدقيقة، ومشاهد وصفها الإعلام الغربي نفسه بأنها أهوال يوم القيامة.

عندما أتجول في مقالات النخبة المصرية، أو في حساباتهم على مواقع التواصل، أو أي حوارات لهم، أرى غيابا شبه كامل عن رؤية ما يحدث في سوريا، وكأن هذا الشعب المسكين أخطأ عندما حلم بالحرية، وكأن هذا الشعب الذي شرد بشار الأسد نصفه تقريبا الآن، وقتل نصف مليون آخرين، كأنه ينتمي إلى تاريخ وحضارة وهوية أخرى، غير تلك التي تنتمي إليها مصر، ثورة سوريا وشعبها بحاجة إلى تضامن حقيقي وجاد من القوى الوطنية المصرية، بل إن الضمير الوطني المصري نفسه في حاجة إلى التضامن مع الشعب السوري ضد هذا الطاغية الذي لم يشهد العالم مثيلا له خلال نصف القرن الأخير بكامله، القوى الوطنية المصرية التي تحزن عندما يتجاهل العالم آلامها ومتاعبها، وهي متاعب لا تصل لواحد في المائة مما يحدث للشعب السوري، من واجبها أن يكون لها التزامها الأخلاقي في الدعم النفسي والمعنوي والسياسي والإعلامي لثورة الشعب السوري، لا يصح أن يعاقب أهل سوريا لأنهم هتفوا يوما ما: "بدنا حرية"، ولا يصح أن نخذلهم في تلك اللحظة التي سيسجلها التاريخ علينا، سلبا أو إيجابا.

المصريون المصرية

0
التعليقات (0)